القيصر أيقظ الدب الروسي ولينين وضرب بعصا ستالين! | كتب أكرم بزي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يعتقد الكثير من صقور الإدارة الأميركية أن عقد قمة كبرى لإعادة التفاوض بشأن الأمن الأوروبي سيمنح روسيا منصة دولية لا يستحقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أيقظ فلاديمير لينين، وضرب بعصا جوزيف ستالين، وأوقف العالم أجمع على شفير حرب، بعد محاضرة تاريخية في “التاريخ الروسي – السوفياتي”، وذهب لينام مطمئن البال. إنه القيصر الروسي فلاديمير بوتين، “الروسي – الأرثوذكسي – السوفياتي”، والآتي من “الكي جي بي”، الذي سأله الرئيس الأميركي جو بايدن: من أنت لتقرر الاعتراف بجمهوريتين منفصلتين عن جمهورية أوكرانيا الدولة ذات السيادة والمستقلة؟
من يراقب تطور الأحداث بين روسيا وأوكرانيا يعرف أن المسألة تتجاوز بكثير اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. لم يكن بوتين ليقدم على هذا الفعل ما لم يكن قد أنهى الحسابات الدقيقة المتعلقة بالحقبة التاريخية الممتدة بين تحطيم جدار برلين الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية وما آلت إليه الأوضاع الراهنة من تمدد حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا إلى الحدود الروسية.
سعت الولايات المتحدة الأميركية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي إلى احتواء كل الدول المحيطة بروسيا وضمها إلى حلف الناتو، حتى إنها سعت إلى ضم روسيا نفسها إليه، بهدف السيطرة على كل أوروبا، فالوعود التي أغدقت على ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، الرئيسين السابقين لروسيا، بعدم تمدد حلف الناتو إلى الجمهوريات الملاصقة لروسيا كانت كلها وعوداً كاذبة، سعت من خلالها أميركا إلى إحكام النفوذ والسيطرة على كل العالم والتحكم في الموارد الاقتصادية والبشرية.
وبصرف النظر عما إذا كان فلاديمير بوتين، باعترافه “بالجمهوريتين”، نفذ عملاً عدائياً تجاه أوكرانيا أو لم يفعل، إلا أنه بذلك أوقف خطر تمدد وصول حلف الناتو إلى حدود موسكو، وقلب الموازين العسكرية والجيوسياسية لمصلحة روسيا، وبات سيد اللعبة في تلك المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية والغاز ومصانع السلاح وغيرها.
السفير الأميركي السابق في موسكو مايكل ماكفول سأل: إذا فرضنا أن دولة ما أرسلت جنودها ودباباتها إلى أراضي دولة أخرى بلا دعوة، ماذا يمكننا أن نسمي هذا؟ في إشارة منه إلى أن روسيا تسعى إلى غزو أوكرانيا واحتلالها. من الطبيعي أن يكون هذا هو الجواب، وبالإمكان أخذ العبر والأجوبة من غزوات الجيوش الأميركية لكل من سوريا والعراق وليبيا وكوبا وفيتنام وكمبوديا وغيرها من دول العالم، ومن الطبيعي أن تكون إجابة ماكفول بهذا الشكل، إذ إن إدارته الدبلوماسية في الخارجية الأميركية لديها الكثير من الأمثلة والنماذج في هذا المجال، “ومن كان بيته من زجاج لا يرمي الآخرين بالحجارة”.
ليس دفاعاً عن الرئيس بوتين وقراراته، ولكن أليس عليه أن يحمي حدوده وأمنه القومي، وخصوصاً بعد أن وصلت قوات الناتو وأسلحتها إلى الحدائق الأمامية والخلفية لروسيا؟ ولو لم يفعل ذلك، لكان بإمكاننا أن نتخيل حجم الصلف الأميركي والأوروبي بالتدخل في الشؤون الأوروبية الشرقية (الجمهوريات السوفياتية السابقة)، إن لم نقل روسيا بالذات.
في السبعينيات، وضع الدبلوماسيون الكنديون والسوفيات والأميركيون والأوروبيون خلافاتهم الواسعة والأساسية جانباً لمناقشة قضية “الأمن الأوروبي”. وبعد سنوات من المفاوضات، تم الوصول الى وثيقة هلسنكي للعام 1975: اعترفت الدول الغربية بحكم الأمر الواقع بالحدود التي نتجت من الغزوات السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي المقابل، وافق الاتحاد السوفياتي على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الفكر أو الضمير أو الدين أو المعتقدات للجميع، من دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين، وانضم إلى مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE) المكلف بتنفيذ هذه الالتزامات.
كما اتفق الاتحاد السوفياتي والغرب ضمنياً على الاختلاف حول التعريفات الدقيقة لمساءلة الحكومة وحقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وأظهروا أن الغموض ضروري في بعض الأحيان للدبلوماسية الفعالة.
يعتقد الكثير من صقور الإدارة الأميركية أن “عقد قمة كبرى لإعادة التفاوض بشأن الأمن الأوروبي سيمنح روسيا منصة دولية لا يستحقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد اعترفت اتفاقية هلسنكي في الماضي القريب بالاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وساعد هذا التأكيد في إقناع الزعيم الشيوعي الراحل ليونيد بريجنيف بتقديم تنازلات، ولكن في حسابات بوتين الأمر مختلف، فهو ليس بوارد أن يقدم تنازلات بعد الانهيار المدوي للمنظومة السوفياتية، وليس بوارد أن يفسح المجال لأميركا للإمعان في الغطرسة واتباع سياسة “القضم حبة حبة”، كما فعلت مع رومانيا وبلغاريا، وفي ما كان يسمى “دول أوروبا الشرقية”، حتى وصل عددها إلى أكثر من 10 دول تدور في الفلك الأوروبي الغربي والأميركي.
يعتبر بوتين أن روسيا عانت الأمرّين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ودفعت أثماناً باهظة، من بينها خسارة الدول الأوروبية الشرقية والكثير من مواردها، إضافة إلى مئات المليارات من الدولارات التي صرفتها على هذه الدول في ما بعد. وبالتالي، لا يمكن لرجل مثل بوتين أن يسمح بالنزف أكثر من ذلك، ولو اضطره الأمر إلى القيام بحرب كبيرة في أوكرانيا أو غيرها من الدول القريبة منه، وبالتالي قد يفتح الباب على مصراعيه، في ما لو أصرت الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية على الإمعان في غيها أكثر، على حرب واسعة لا تحمد عقباها.