حَربٌ عالميةٌ اقتصاديةٌ مُتشابِكةُ التداعيات | كتب البروفسور مارون خاطر
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
دَخَلَت الحَربُ الروسيَّة-الأوكرانيَّة أُسبوعها الثالث على وَقعِ تَوَسُّعِ رُقعة عَمَليَّاتِها وتداعياتِها الاقتصاديَّة. في السياسة لا تتناحرُ روسيا وأوكرانيا فحَسب، بل تصطفُّ خلفهما مَحاوِرُ الأرض من مَشرِقِها إلى مَغرِبِها. في الاقتصاد، استَعَرَ القتال بين عِملاقَيّ الطَّاقة والغذاء والمَعَادن والمواد الأوليَّة الصناعيَّة والأسمدة، فامتدَّ لهيبُه ليُشِعل العَالمَ بأسره. أمَّا الأسباب فاقتصاديَّة-استراتيجيَّة في الدَّرَجة الأولى، ثُمَّ استعماريَّة-تَوَسُّعيَّة ذات أبعاد قاريَّة. انطلقت شرارة الحَرب في الوَقت الذي بدأ الاقتصاد العالميّ التقاط أنفاسه إثرَ التغلُّب غير المؤكَّد على جائحة كورونا، فَكَبَحَت فُرَصَ انتعاشِهِ. اهتزَّت الأسواق الماليَّة إيذانًا بالتماس أولى تَبِعات الحرب على اقتصادات العالم، وإن بدا مستوى تأثُّرُهِا لا يتناسب مع العُمقِ المُتُوُقَّع للأزمة الآتية. منذُ اليوم الأول للحرب أدرك العالم أن الآثار المباشرة لانخفاض حجم التعاملات التجارية مع روسيا وأوكرانيا ستكون له عواقب كارثية واسعة الامتداد. تيقَّنَ الجميع أن هذه الحرب ستؤدّي إلى ارتفاع أسعار السِلَع وعلى رأسها أسعار الطَّاقة والأغذية. في هذا الإطار، تَتَخوَّف صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية أن يؤدّي الارتفاع المُستَمِرّ في أسعار النَّفط إلى رُكود الاقتصاد العالميّ للمرَّة الثانية خلال ثلاث سنوات. وكان المَجلِس التنفيذي لصُندوق النَّقد الدولي حذَّر في اجتماعه الأخير الذي عُقِد مُنذُ أيام قليلة من “التَّداعيات الكارثيَّة” للحرب الروسيَّة على الاقتصاد العالميّ.
يُنذِرُ النِّزاعُ الدَّائر في أوكرانيا بتحفيزٍ مُتجدِّدٍ للتضخُّم العالمي سَيُسَبِّبُهُ الارتفاع المُرتَقَب لأسعار السِّلع. يُشَكِّل اضطراب الأعمال التجاريَّة والضَّغط غير المسبوق على سلاسل التَّوريد الناتِجَين عن المعارك السَّبب الأول والمباشر للتَضَخُّم المُتَوَقَّع. توقَّعَ المعهد الوطني البريطاني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية أن تَتَسَبَّب الحرب الروسية-الأوكرانية بتراجع الناتج المَحَليّ الإجمالي للعالم بنسبة ١٪ بحلول العام ٢٠٢٣ بما قيمتُهُ ١ تريليون دولار. مِن ناحية ثانية، قدَّرَ المعهد ارتفاع معدَّلات التَضَخُّم عالميًا بنحو ثلاث نقاط مئويَّة في العام ٢٠٢٢ ونُقطَتَين مئويَّتين في العام ٢٠٢٣. إلَّا أنَّ العقوبات التي طالت والتي سَتَطال الاقتصاد الرُّوسي سَتَكون الأكثر قسوةً وتشدُّدًا. تَهدُفُ هذه العقوبات إلى الحَدِّ من قُدرة روسيا على الاقتراض من الأسواق العالميَّة مِمَّا سَيمنَعُها من إعادة تَمويل ديونها. من ناحية ثانية، تَرمي العقوبات على المَصرِف المَركزي الرّوُسي إلى فَرض قيود شديدة عليه تَمنَعُهُ من الوصول إلى الاحتياطات الدوليَّة لدعم عملته ونظامِهِ الماليّ. تُقَدِّر صَحيفة “فايننشال تايمز” احتياطي المَصرِف المركزي الرُّوسي في نهاية الشهر الأوَّل من العام الحالي بـ ٦٣٠ مليار دولار، يُضاف إليها ١٧٥ مليار دولار وهو رَصيد الصُّندوق السيادي الذي يُشَكِّل ١١٪ مِن حَجمِ الناتج المحلي.
أمَّا العقوبات على النِّظام المصرفي الروسي فجاءت انتقائيَّة وتمثَّلت باستبعاد عدد مُحَدَّد من المصارف مِن نظام “سويفت” في محاولةٍ لتلافي التعرُّض المباشر للمعاملات المُتعلِّقة بتوريد الطَّاقة الى أوروبا. تهدف هذه الخطوة إلى الحدّ من قدرة روسيا على إتمام المعاملات الماليَّة عَبْرَ الحدود وبالتالي إلى إبطاء عمليات التبادل التجاري. من المهمّ الإشارة في هذا الإطار الى أنَّ اعتماد نظام الدَّفع الروسي أو تَفعيل أحد أنظمة الدَّفع الصينيَّة لا يُمكن أن يُشَكِّلان بديلًا من “سويفت”. يَبقى أنَّه مِنَ المُبكِر جدًّا التكهُّن بتأثيرات هذه العقوبات على المَدَيَين المتوسِّط والبعيد. صحيح أنَّ هذه التَّدابير أدَّت إلى هبوطٍ حادّ في أسعار الأصول وفي سعر صرف الروبل الروسي. إلَّا أنَّ تبعاتِها قد تَرتَدّ على فارِضيها إذا ما قرَّرَت روسيا الرَّدَ عَبرَ استعمال السِلاح عينه مما قد يَجعل انعكاساتها تتَّسِمُ بشموليةٍ وخطرٍ اكبَرَين. لا يمكن حصر مقاربة العقوبات على روسيا بقدرة الاقتصاد الروسي على التحمُّل. فالواقع يُحَتِّم النَظَر إلى قدرة أوروبا على احتمال هذه العقوبات بالأصالة عنها وبالوكالة عن الولايات المُتَّحِدَة. ستستهدف روسيا أوروبا في معرض رَدِّها على مَنع المصارف والكيانات الروسيَّة من استعمال الدولار وحَظر واردات الَّنفط الرّوسي الذي اعلَنَهُ الرَّئيس الأميركي، جو بايدن، منذ أيَّام. فالعُمق الأوروبي يَعتَمِدُ على الغاز الرُّوسي بنسبة تَصِل إلى قُرابة ٤١٪ من إجمالي احتياجاته في حين يُشَكِّل النَّفط الخام الرُّوسي ٢٧٪ من مجمل الإمدادات.
في العَلَن، تَبدو الحَرب الروسيَّة على أوكرانيا وكأنها قَسَمت العالم إلى معسكرين متقابِلَين: الأوَّل “شرقيٌّ” يَضُمُّ روسيا وإيران ومن خَلفِهِما الصين، والثاني “غربيٌ” تنضوي تَحتَه الدُّوَل الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية وأوستراليا وكندا ومِن خَلفِها الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة. إلّا أنَّ الواقِعَين الجيوسياسي والاستراتيجي يُخفِيانِ حقائقَ قد تَكون مُغايرة. لَيس تراجع اليورو أمام الدولار الأميركيّ والين اليابانيّ وهُبوط الأسواق الأوروبيَّة الى أدنى مستوى لها منذ عام، عند تقدُّم خيار فرض عقوبات أميركيَّة على النَّفط الروسي، إلَّا مؤشِّرٌ واضح على ذلك. لا يُمكن أن تَكون الاصطفافات الحاليَّة مُستدامة في ظلِّ التَّخَوُّف من ازدياد احتمالات المخاطر التَضَخُّمية وتوسُّع امتداداتها وما قد ينتج عنها من تباطؤ في النُموّ الاقتصادي. فالمَوقِفَان الأميركي والأوروبي لَن يَكونا مُوَحَّدَين حيال فَرضِ عُقُوباتٍ نَفطيَّةٍ على روسيا كما لن يكون الموقف الأوروبي مُوَحَّدًا إذا انزلقت الأمور إلى نزاع عسكري مع روسيا. انطلاقًا مما تَقَدَّم، تبدو علاقة أوروبا الإقتصاديَّة بروسيا شبيهة إلى حَدِّ بعيد بعلاقة الولايات المُتَّحدة بالصين. ما يَصُحُّ في المُعَسكَر “الشَّرقي” يصُحُّ أيضًا في غَريمِهِ “الغَربيّ”. فالصين لم تتجاهل الهجوم الروسي وإن لم تُبادر الى إدانته. فقد أكَّدَ وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، استعداد بلاده لتمثيل دور في التوسُّط لوقف إطلاق النار مع تأكيده على دعم بلاده الثابت لسيادة أوكرانيا. من ناحية ثانية، امتنعت الصين إلى جانب ٣٤ دولة أخرى عن الَّتصويت على قرارٍ للأمم المتحدة يُدينُ الغزو الرُّوسي في حين تَوَقَّعَ الكثيرون أن يَكونَ تصويت الصِّين إلى جانب روسيا. فَبَين أوروبا والصِّين علاقة تجاريَّة تاريخيَّة إذ تُشَكِّل أوروبا وجهةً أساسيَّةً للبضائع الصينيَّة التي تَرِد إليها بانتظام عَبرَ خَطِّ حاويات الساحل الشرقي كما عَبرَ الخَطّ الشمالي الذي يَمُرُّ بِروسيا نفسها، بالإضافة الى الكثير من الخطوط الجوية والبحرية. في النهاية، لا بُدَّ أن تَصِلَ التَّداعيات الاقتصاديِّة للحرب الى أميركا نفسها من خلال تَقَلُّبات الأسواق وارتفاع كِلفة الطيران وأسعار الطَّاقة وهي أسباب دافعة ستؤدي الى ارتفاع معدل الفائدة الفيديرالي بوتيرة أعلى.
مع بَدء العمليات الروسية على أوكرانيا بدأت حرب عالميَّة اقتصاديَّة شعواء قد تطول وتَتَمَدَّد…
إن كان تحديد تاريخ بدء الحرب مُمكنًا، فتاريخ انتهاء تداعياتها يبقى غير قابل للتحديد. تُدَمِّر الحروب أجزاءَ من اقتصادات الدول القويَّة في الوقت الذي تَسحَق عن بُعد شُعوبَ الدُّوَل الفقيرة المُنتَشِرة في أصقاع الأرض. يَصِلُ شَبَحُ الحَربِ إلى بِلاد الفُقراء فَيَزدادُ الجوعُ حِدَّةً والبؤس ذُلًّا والوجع أنينًا ويزداد الأنينُ صلاةً.
يَتَقاتَلُ الكبار فَيَموتَ أهلُ الصِّغار ويَموتُ الصغار وإن عاشوا… إسألوا اللبنانيين يُخبرونكم …
تَتَشَعَّب تداعيات الحرب فتتحوَّر وتمتَدُّ الى حيث تصبح الإنسانيَّة سرابًا والإنسان ترابًا والمصالحُ آلهةَ تعبدها شياطين الأرض وحتَّى ملائكَتَها!