الاحدثالجيوبوليتيك الروسي
دوغين: عدو الغرب المتوحش والعولمة! | كتب أكرم بزي
خلال مشاهدتي للزوار "المشاية" و "الطويرجية"، لمحت من بعيد رجلان يسيران ويتحدثان ويبدو إنهما غير مكترثان للمسافة التي قطعوها لشدة إنغماسهما بالحديث، أحدهما يبدو لي كأنني أعرفه أو رأيته من قبل، وكلما اقتربا كنت أحدق أكثر فأكثر لأتأكد من ظني، هل هذا هو الرجل الذي أعرفه أم أنني أتخيل؟ تركت مشاهدة "المشاية" وبت أحدق منتظراً كي تصبح المسافة لعله هو... هو يقترب وظني يرتفع من نسبة الـ 50% إلى الـ 70%، وبدت عليّ ابتسامة الواثق... نعم أنه هو! ترى ما الذي أتى به إلى هنا؟ كل شيء ممكن أن أتوقعه إلا أن أرى هذا الرجل يأتي ماشياً مع "المشاية" إلى أربعينية الإمام الحسين (ع)! مصورو الوكالات الاجنبية والمحلية العراقية، منهمكون بتصوير الزوار، لكنهم لا يعرفون من هو هذا الرجل، ولو عرفوه لاداروا كاميراتهم، لتصويره وملاحقته، فرجل مثله من الصعب أن تلتقيه، أو تجد الوقت لتأخذ معه حديث، كيف إذا كان في مكان يعتبر من أهم المقدسات الإسلامية، "وهو الغريب المتدين الأرثوذكسي على هذه الثقافة أصلاً"!. بدأت أتساءل هل سيدخل المقام، وإذا دخل هل سيزور الإمام الحسين وأبو الفضل العباس (ع)، ليتغذى روحياً؟! أم أنه سيجول بالمرقدين مستطلعاً النقوش الأثرية؟ لا أعلم؟ ولن أعلم... ولكن الذي علمته أنه دخل المقام ولم أعد أراه. ولكن الذي تبادر الى ذهني مباشرة، رجل بهذا الحجم عندما يأتي لزيارة هذه الاماكن المقدسة للمسلمين، للاطلاع أو للمشاهدة عن قرب أو للتجربة هذا دليل على أن هذا الإنسان جريء وجدي ونهم للعلوم وتواق إلى معرفة كل شيء عن كثب.
رجل طويل القامة، أبيض، لحيته خليط ما بين الأشقر والرمادي والأبيض طويلة أشبه بلحية إرنست همنغواي، خُيّل لي أنه يحمل في رأسه مكتبة الكونغرس، وعلى كتفيه أرفف من الكتب الشرقية والغربية. كيف له أن يتحدث ويفهم كل هذه اللغات، وكيف استطاع أن يؤلف ما يزيد على 60 كتابا، (بمعدل كتاب كل سنة من سني عمره)، أهمها “الخلاص من الغرب”، و”الحضارات الأرضية في مقابل الحضارات البحرية والأطلسي، وتحول كتابه المنشور “أسس الجغرافيا السياسية” عام 1997 إلى منهج في أكاديمية هيئة الأركان العامة للجيش الروسي.
أنه الفيلسوف الروسي المعاصر ألكسندر جليفتش دوغين (الملقب بـ راسبوتين أو عقل بوتين – بحسب البروباغندا والصحافة الغربية)، الذي ولد في السابع من يناير/كانون الثاني 1962 في العاصمة موسكو لوالد كان جنرالا في دائرة الاستخبارات العسكرية في هيئة الأركان العامة السوفياتية، ووالدته تعمل طبيبة. تزوج دوغين من الناشطة الروسية إيفجينيا ديبريانسكايا، وأنجبا ابنهما أرتور، ثم تزوج من الفيلسوفة ناتاليا ميلينتيفا، وأنجبا ابنتهما داريا. (والتي توفيت أثناء محاولة الإغتيال التي تعرض لها دوغين مؤخراً في شهر آب 2022، وقبل اغتيالها، كانت تتعاون مع دار نشر روسية يمينية متطرفة هي ذا بلاك هندريد “The Black Hundred” في إصدار قادم لكتاب ذا بوك أوف زيد “The Book of Z”، الذي وصفه الناشرون بأنه “مجموعة من الشهادات والقصص من قبل المشاركين وشهود العيان في الحرب على أوكرانيا”. أصبح الحرف “Z” رمزا للغزو الروسي لأوكرانيا، إذ حملت المركبات العسكرية وأفراد القوات الروسية هذا الحرف طوال الأشهر الستة الماضية)
بدأ دوغين دراسة الطيران في معهد موسكو عام 1979، لكنه غيّر مساره فيما بعد إلى الفلسفة ليتخرج بماجستير في الفلسفة، ويحصل بعدها على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية وعلم الاجتماع. يتقن بحسب المصادر دوغين 8 أو 9 لغات، ويقول إنه يعرف أساسيات اللغة العربية لكنه لا يلم بها جيدا. ويرجع دوغين نشأته وانطلاقته الفلسفية والعلمية إلى تعرفه على العالم الإسلامي والفيلسوف الأذربيجاني حيدر جمال.
يقول دوغين: “الليبرالية الحديثة هي أيديولوجيا توتاليتارية بالكامل تعمل وفق نمط وأساليب سوفياتية/غوبلزية: أيا كان ذلك الذي يتحدى السردية الليبرالية العولمية فهو إما “فاشٍ” وإما “شيوعي”. ولفهم طبيعة الإيديولوجية “الأوراسية الجديدة” التي باتت تحظى بقبول في أوساط واسعة من النخبة السياسية والإعلامية والفكرية في روسيا بما فيها الرئيس فلاديمير بوتين.
لا يمكن سبر أغوار هذه الإيديولوجيا من دون قراءة أفكار ألكسندر دوغين، مؤسس “الحركة الأوراسية” في روسيا، الذي يُحدد في محور نظريته الجيوسياسية، أن مهمة روسيا تتمثّل في تحدّي هيمنة الولايات المتحدة على العالم، داعيًا إلى تعبئة شعوب أوراسيا (أوروبا آسيا) بقيادة روسيا، بما في ذلك جمهوريات الاتحاد السوفييي السابق وألمانيا وأوروبا الوسطى والشرقية، للتحالف مع تركيا وإيران، وإقامة تحالف “طبيعي” مع الإسلام لضمان وصول الروس لموانئ المياه الدافئة”.
اتهمه البعض من أنه العقل المدبر وراء ضم شبه جزيرة القرم، الذي بسببه أدرجت الولايات اسمه في قائمة العقوبات الأميركية عام 2014 بعد احتلال الجزيرة. ويضيف أن الليبرالية وزعيمتها أميركا القائمة على توفير الحرية الفردية والسوق الحرة، انتصرت على الفاشية عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991، لكنها تعاني “أزمة قاتلة” تهددها بالأفول الآن، من وجهة نظرته. وبما أنه يرى أن النظريات الفائتة ستنتهي ومعها الليبرالية، فإنه طرح فكرة أسماها “النظرية السياسية الرابعة”، التي لا تركز على الفرد أو العرق أو القومية، بل على الوعي الذاتي الإنساني الذي همّش من قبل التكنولوجيا. ولأن الوعي الذاتي يختلف من إنسان لآخر، فلابد للعالم أن يكون متعدد الأقطاب وليس كما تحاول أميركا جعله “حكومة عالمية” تقودها نخبة معينة ومديرو أعمال عالميون، وتستهدف الناس لمصالح شركاتها الخاصة. ويرى أن الصراع بين روسيا وأميركا صراع “جيبوليتيكي” (جغرافي) وليس كما كان سابقا “صراعا أيديولوجيا” بين الليبرالية والشيوعية.
(متعدد الأقطاب… هذا ما ركز عليه الرئيس بوتين في خطابه الأخير بعد ضم الجمهوريات الأربع، والذي طالب به الولايات المتحدة والعالم أجمع بأنه لم يعد هناك شيء أسمه الاحادية القطبية، بل عالم متعدد الأقطاب، ولا شك أنه يقصد بهذا دور روسيا والصين وغيرهما من الدول التي باتت ذات نفود واسع وتستقطب العديد من الدول في فلكها).
وصف دوغين النظرية السياسية الرابعة بأنها نظرية الثورة وتصفية الاستعمار بالنسبة للمجتمع الروسي، والتي تدافع عن “أصالة الحضارة الروسية وعن حقوق الإنسان”، ولكن ليس وفقا للقيم الغربية التي قال إنها ليست شمولية وهي غير مقبولة لا في روسيا ولا في “العالم الإسلامي ولا في الصين”. ويرى أن على روسيا قيادة “الاتحاد الأوروآسيوي” (أقاليم الاتحاد السوفياتي السابق)، وهو ما دفعه لتأسيس الحركة الأوروآسيوية الدولية، وكانت الخطوة الأولى في هذا الهدف هي احتلال شبه جزيرة القرم، التي تكمن أهميتها في أنها توفر لروسيا منفذا بحريا. ولا يعد دوغين الولايات المتحدة خصما للاتحاد “الأوروآسيوي”، إنما الخصم الحقيقي هو حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) المؤسس على يد 12 دولة بينها أميركا، والذي أنشئ بهدف وقف تمدد الاتحاد السوفياتي عام 1949.
من هنا نرى مدى تأثير أفكار ونظريات دوغين على القرارات المصيرية التي يتتخذها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهذان الرجلان يتفقان ويتطابقان بالكثير من الافكار ووجهات النظر، وإذا ما راجعنا تطور الأحداث منذ أكثر من عشر سنوات لوجدنا أن قرارات بوتين الاستراتيجية على المستوى الأوروبي هي محاولة تطبيق لنظرية دوغين، وكأنهما يتناغمان وينسجمان بتنفيذ النظرية، (دوغين المنظر والفيلسوف وبوتين المؤدلج والمنفذ العملي للنظرية).
فبعد ضم جزيرة القرم إلى روسيا، ها هو الآن يضم 4 جمهوريات (لوغانسك، ومينسك، وزابورجيا وخيرسون)، والتي كانت الى وقت قريب تعتبر جزء لا يتجز من أوكرانيا، وبهذا العمل يكون قد أمن المدى الحيوي والجغرافي وأصبح أكثر بعداً عما كان يخطط له حلف الناتو فيما لو أراد ضم أوكرانيا إليها، وبهذا يكون بوتين قد استبق حلف الناتو بهذه العملية وضرب ضربته الكبيرة، والتي قد تؤدي فيما لو استمرت الحرب الروسية الأوكرانية بهذه الوتيرة المتصاعدة إلى حرب عالمية ثالثة بدت بوادرها، من خلال الدعم العسكري اللامتناهي لأوكرانيا من قبل الولايات المتحدة الاميركية والإتحاد الأوروبي وخاصة بريطانيا. إذ بلغ حجم الدعم العسكري لغاية شهر آب/ أغسطس المنصرم بحدود 85 مليار دولار أميركي بحسب تقارير غربية.
فالحرب على أوكرانيا تنبأ بها دوغين واعتبرها “الحرب الحتمية” تحت ما أسماه “نوفو روسيا” (روسيا الجديدة)، ودعا بوتين للتدخل العسكري في شمالي أوكرانيا، متعللا بـ”إنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا”، وأنها ستنقذ العالم من الأحادية القطبية. ووصف حرب بلاده على أوكرانيا بأنها “ليست حربا على الشعب الأوكراني ولا على الدولة، ولكنّها حرب على الدمى الغربية التي تحاول السيطرة على العالم، وعلى النازيين الجدد الذين انقلبوا على إرادة الشعب الأوكراني في 2014”. وذكر أن “أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي” كما كتب في كتابه “أسس الجغرافيا السياسية”، ودعا إلى أن تستوعبها روسيا بالكامل تقريبا وترك معظم المناطق الغربية من أوكرانيا خارج نطاقها.
تقول الدكتورة ليلى نقولا: ” أن إجراء دراسة مقارنة لكل من أفكار بوتين وأفكار دوغين، تعطي فكرة واضحة أن بوتين لا يؤمن بأوراسية دوغين، بل إن بوتين ينتمي إلى التيار القومي الروسي الذي يؤمن بعظمة روسيا كحضارة قائمة بذاتها، وليست بالضرورة جزءاً من الحضارة الأوروبية أو الأوراسية كما تؤمن التيارات الفكرية الأخرى في روسيا. أوراسية بوتين تنطلق من مصلحة اقتصادية وجيوبوليتكية (سياسة واقعية)، وليس من منطلق إيمان بهويةٍ أوراسية حضارية كالتيار الأوراسي الفكري في روسيا الذي لا يؤمن بالهوية الروسية باعتبارها مميّزة ومنفصلة بل باعتبارها جزءاً من أوراسيا. أما “الأوراسية الجديدة” التي ينادي بها دوغين، فهي أيضاً لا تتطابق والتيار الأرواسي التقليدي في روسيا، بل إن أفكاره أقرب إلى اليمين المتطرف الذي يدعو إلى هيمنة روسيا على أوراسيا، أكثر مما هو داعم للاندماج الثقافي والحضاري الأوراسي).
ولكن هذا لا يخفي مدى تأثير هذا الرجل على العقيدة الروسية وعلى الشارع الروسي وعلى القوميين الروس وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وبعد محاولة اغتياله ومقتل ابنته داريا والتي أدت الى حالة تعاطف واسعة على مدى الجمهوريات الروسية.
أما على مستوى العالم العربي فيرى دوغين أن التدخل الروسي في سوريا مهم لوقف التمدد الأميركي ومحاربة أدواتها إن كان على المستوى الحركات الإسلامية كـ “داعش” أو “القاعدة” او غيرها من الحركات الإرهابية المتطرفة، والذي يعتبرها منتوجات أميركية تهدد الوجود الروسي بشكل مباشر، مما يلزم موسكو باحتوائه للضرورة الجيوسياسية التي يؤمن بها. ويقول دوغين إن “سوريا هي خطنا الخارجي للدفاع، والخط القادم بعد سوريا هو على أراضي الاتحاد الأوراسي (أ) وحتى داخل الاتحاد الروسي”. ويذهب إلى أن انهيار سوريا سيتسبب في انهيارات متتالية في منطقة الشرق الأوسط، وسيخلف فوضى في المنطقة بزيادة أعداد اللاجئين وتمددهم نحو أوروبا، الذي اعتبره سببا “سيرجع أوروبا سياسيا إلى الوراء”. وبنظر المفكر الروسي، فإن حل المشكلة السورية يجب أن يكون داخل سوريا نفسها، بالتعاون مع روسيا وإيران وقطر والإمارات والسعودية، أي أن ما سماها الأيديولوجية الليبرالية لا ينبغي أن تكون حاضرة في الملف السوري.
المصادر: الـ BBC، مكتبة الكرملين، الفورين أفيرز، نيوزويك، قراءة لـ نواف التميمي، د. ليلى نقولا – الميادين. https://switzerland.detailzero.com