روسيا في حرب أوكرانيا: تحليل التكلفة والعائد | بقلم أكرم بزي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لا يهم الولايات المتحدة دمار أوكرانيا أو غيرها، ولا يهمها حجم القتلى ولو بلغ الملايين (الأمثلة كثيرة، والتاريخ يشهد بالجرائم الأميركية في كل العالم).
لم يكن أحد يتوقّع دخول روسيا سوريا في عام 2015، فبعد أن اجتمع قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”، قاسم سليماني، بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمناقشة التدخل الروسي العسكري في سوريا، اقتنع بوتين بالتدخل بعد اجتماع استمر مدة ساعتين في موسكو بحضور عدد من المسؤولين الروس، عرض سليماني خلاله خرائط السيطرة في سوريا، وناقش معه آليات العمل، واستطاع أن يقدم إضافة أدّت إلى اتخاذ روسيا قرار التدخل.
عندما انضمّت روسيا إلى الحرب في سوريا، صُدمت الولايات المتحدة وصُدِم شركاؤها. وادّعى الرئيس باراك أوباما أن سوريا ستصبح “مستنقعاً” لروسيا وللرئيس فلاديمير بوتين، بقوله: “قد تكون سوريا هي فيتنام الروسية أو أفغانستان، وهو خطأ فادح سيرتد في النهاية ضد المصالح الروسية”. لكن روسيا غيرت مسار الحرب، وتغيّرت المعادلة لمصلحة النظام في سوريا، ثم ترجمت القوة العسكرية إلى نفوذ دبلوماسي. وبدلاً من ذلك، جمعت موسكو نفوذاً إقليمياً أكبر، يمتد من الكيان الصهيوني إلى ليبيا، واحتفظت بشريك مخلص للأسد لإبراز قوة روسيا. الأمر الذي فشلت إدارة أوباما في توقعه هو احتمال نجاح التدخل الروسي، وكان هذا الدخول بمثابة العودة إلى العالم من جديد.
والآن، بعد الدخول الروسي لأوكرانيا، والذي جاء بعد توقعات من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، يحذّر عدد من المحللين من عواقب وخيمة على روسيا، فتوقّع وزير الدولة البريطاني لشؤون أوروبا، جيمس كليفرلي، أن الحرب في أوكرانيا “ستكون مستنقعاً” لروسيا. ويتَّجه التفكير إلى أن ثمن الحرب الشاملة في أوكرانيا سيكون باهظاً للغاية بالنسبة إلى الكرملين، وستترتّب عليه إراقة دماء كثيرة. وقدّرت الولايات المتحدة ما يصل إلى 50000 ألف ضحية من المدنيين. في الوقت نفسه، يمكن أن تقترب قوات الناتو إلى حدود روسيا، تاركة روسيا تقاتل مقاومة أوكرانية لأعوام قادمة. ووفقاً لوجهة النظر هذه، ستقع روسيا في شرك كارثة من صنعها.
ومع ذلك، يبدو أن تحليل التكلفة، والعائد الذي يجريه بوتين، يؤيدان تغيير الوضع الأوروبي الراهن، وتتحمل القيادة الروسية مزيداً من المخاطر. وفوق الصراع السياسي اليومي، يقوم بوتين بمهمة تاريخية لترسيخ نفوذ روسيا في أوكرانيا (كما فعل مؤخراً في بيلاروسيا وكازاخستان). وكما ترى موسكو، فإن النصر في أوكرانيا هو في متناول اليد. ويجب أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا مستعدتين أيضاً لاحتمال آخر غير المستنقع. ماذا لو فازت روسيا في أوكرانيا؟ كما فازت في سوريا؟
بالنسبة إلى روسيا، قد يتخذ النصر في أوكرانيا أشكالاً متعددة. لا يجب أن يؤدي النصر إلى تسوية مستدامة، يمكن أن ينطوي على تنصيب حكومة ممتثلة في كييف، أو تقسيم البلاد. وبدلاً من ذلك، فإن هزيمة الجيش الأوكراني والتفاوض على استسلام أوكرانيا يمكن أن يحوّلا أوكرانيا فعلياً إلى دولة فاشلة. وبهذا ستكون أوكرانيا انفصلت فعلياً عن الغرب.
ستكون الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً في حالة حرب اقتصادية دائمة مع روسيا، وخصوصاً بعد أن سعى الغرب لفرض عقوبات لم يسبق لها مثيل. وستكون أيضاً أمام إعادة هيكلة للنظام الأمني الأوروبي، شاءت ذلك أم أبت، لأن الوقائع على الأرض باتت حاكمة، جغرافياً وعسكرياً وأمنياً.
إن الوجود الروسي في أوكرانيا سيُنظَر إليه، من جانب جيران أوكرانيا، على أنه استفزازي وغير مقبول. وبالنسبة إلى البعض، سيشكل تهديداً لأمنه. وسط هذه الديناميكية المتغيرة، يجب تصور النظام في أوروبا من منظور عسكري في المقام الأول، والذي سيكون في مصلحة الكرملين، نظراً إلى أن لروسيا يداً أقوى في المجال العسكري منها في المجال الاقتصادي (وهو ما يصبّ في مصلحة الكرملين): تهميش المؤسسات غير العسكرية، مثل الاتحاد الأوروبي.
تمتلك روسيا أكبر جيش تقليدي في أوروبا، وهو أكثر من جاهز للاستخدام. السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي – على عكس سياسة الناتو – بعيدة كل البعد عن كونها قادرة على توفير الأمن لأعضائها. وفي حالة فوز روسيا في أوكرانيا، فإن موقف ألمانيا في أوروبا سوف يواجه تحديات شديدة. ألمانيا قوة عسكرية هامشية، أسست هويتها السياسية بعد الحرب على رفض الحرب. وعلى الرغم من التطور البارز، من حيث تعديل الميزانية العسكرية وإعادة العمل على تدعيم الجيش الألماني، فإنه لن يفرض تعديلاً ما في الخريطة الأمنية المستجدة.
دفعت الولايات المتحدة الأميركية كل حلفائها إلى دعم النظام الأوكراني، في كل طاقاتهم، بغية إرساء معادلة “مقاومة الغزو الروسي”، من أجل دفع روسيا نحو حرب استنزاف طويلة الأمد، تُستنزف فيها روسيا وأوروبا، على حد سواء. وبهذا، تكون أميركا أشغلت الأوروبيين، بعضهم ببعض، وبقيت سيدة الكلمة في الغرب المتوحش. وهذا ديدن السياسة الأميركية.
يقول يوهان كالتونغ[1]، عن “الفاشية الهيكلية” في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، والتي تجعل الحرب وسيلة لتأمين المواد والأسواق: “يسمى هذا النظام الاقتصادي “الرأسمالية”. وعندما تنتشر بهذه الطريقة في بلدان أخرى، يطلق عليها “الإمبريالية””. وقال: إن الولايات المتحدة “دولة قاتلة” ومذنبة “بسبب إرهاب الدولة الفاشية الجديدة”.
لا يهم الولايات المتحدة دمار أوكرانيا أو غيرها، ولا يهمها حجم القتلى ولو بلغ الملايين (الأمثلة كثيرة، والتاريخ يشهد بالجرائم الأميركية في كل العالم). كل ما يهمها هو إحكام السيطرة الأحادية على العالم، ولو كلف ذلك القضاء على مئات الملايين من البشر. وأوكرانيا ضحية غباء حكامها الذين سلموا زمام رقابهم إليها، وعملوا بأوامرها، وفق أجندة خبيثة، ولن تكون الضحية الأولى والأخيرة. يقول الرئيس المصري الراحل حسني مبارك: “المتغطي بالأميركان عريان”، ويقول أيضاً الملك الحسين بن طلال: “الخصومة مع أميركا أقل خسارة من صداقتها”.
كما أن للولايات المتحدة أسلوبها في فرض العقوبات على روسيا، ففي إمكان روسيا أن تقوم بما تقدر عليه. والسؤال: هل ستنتقم روسيا، في المجال السيبراني وكذلك في قطاع الطاقة؟ وهل ستحد موسكو الوصول إلى السلع الحيوية، مثل التيتانيوم، الذي كانت روسيا ثاني أكبر مصدر له في العالم؟ وهل ستقفل حنفية الغاز في وجه أوروبا، والذي بلغت أسعاره أكثر من 4000 دولار لكل ألف متر مكعب (حتى كتابة هذا المقال)، في سابقة تاريخية لم نشهد لها مثيلاً. فحرب الاستنزاف هذه ستمتحن كِلا الجانبين.
وماذا عن تدفُّق ملايين اللاجئين إلى أوروبا، والتي ستفاقم سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين التي لم يتم حلها، وستوفر أرضاً خصبة للشعبويين، والتي سيتم استغلالها في الانتخابات المقبلة في كل من فرنسا والولايات المتحدة وغيرهما من دول أوروبا. وقد يؤدي انتخاب دونالد ترامب مرة ثانية، أو “أحد ما يحمل التوجهات الترامبية نفسها”، إلى تدمير العلاقة عبر الأطلسي في ساعة الخطر القصوى في أوروبا، الأمر الذي سيهدد وحدة الناتو. والناتو هو الوسيلة المنطقية التي يمكن للولايات المتحدة، من خلالها، توفير الطمأنينة الأمنية لأوروبا وردع روسيا. إن الحرب في أوكرانيا أحيت الناتو، ليس كمشروع لبناء الديمقراطية، أو كأداة لبعثات خارج المنطقة، مثل الحرب في أفغانستان، لكن كتحالف عسكري دفاعي. على الرغم من أن الأوروبيين سيطالبون الولايات المتحدة بالتزام عسكري أكبر تجاه أوروبا، فإن هذا الأمر سيزيد في تكلفة أوروبا في الميزانيات العسكرية الباهظة للناتو.
في دراسة مشتركة لـ ( LIANA FIX وGerman Marshall Fund ) [2]، تقول إن النتيجة المريرة لحرب أوكرانيا هي أن روسيا والولايات المتحدة ستواجه إحداهما الأخرى الآن، كعدوتين في أوروبا. ومع ذلك، ستكونان عدوتين لا تستطيعان تحمل الأعمال العدائية إلى ما بعد عتبة معينة. بغض النظر عن وجهتي نظريهما بشأن العالم، ومهما كانت متعارضة أيديولوجياً، فإن القوتين النوويتين الأكثر أهمية في العالم سوف تضطران إلى السيطرة على غضبهما. ومع ذلك، فإن الحالة لا تسمح بالتصعيد والتحول إلى حرب مباشرة. في الوقت نفسه، يمكن أن تمتد المواجهة الأميركية الروسية في أسوأ الأحوال لتشمل الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو أفريقيا، إذا قررت الولايات المتحدة إعادة تأسيس وجودها بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان. سيكون الحفاظ على التواصل، وخصوصاً فيما يتعلق بالاستقرار الاستراتيجي والأمن السيبراني، أمراً بالغ الأهمية. من الجدير بالذكر أن التعاون الأميركي الروسي بشأن الأنشطة السيبرانية الخبيثة مستمر حتى خلال التوترات الحالية. ستكون ضرورة الحفاظ على اتفاقيات صارمة للحد من الأسلحة أكبر بعد حرب أوكرانيا ونظام العقوبات الذي يتبعها.
هل كان بوتين يغامر في دخوله أوكرانيا؟ نعم. لكن، هل كان لديه خيارات أخرى؟ كلا. فالولايات المتحدة والغرب الأوروبي لم يتركا له مجالاً لخيارات أخرى. والواضح أن الرئيس بوتين حُشر في هذه الزاوية، والتي لو بقي فيها لكانت روسيا ستعاني الصلف والاستفزاز، من جانب أميركا وأوروبا، من خلال الزمرة الحاكمة في أوكرانيا، والتي دأبت، منذ أكثر من 8 أعوام، على استفزاز روسيا وقتل أكثر من 10000 ضحية في إقليم دونباس من “الانفصاليين” الموالين لروسيا، ولكانت أميركا نصبت صواريخها المدمرة في اتجاه الكرملين على بعد 25 كيلومتراً فقط.
لا شك في أن الدخول الروسي لأوكرانيا سيكون مكلفاً، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، إلا أن مردوده، فيما لو نجح، ستكون له آثاره الإيجابية، ليس فقط في روسيا، بل في العالم أجمع، أقلها كسر الأحادية القطبية في العالم، وإعادة هيكلة النظامين الأمنيَّين، الأوروبي والعالمي، على نحو لا تشتهيه الولايات المتحدة الأميركية والدول الدائرة في فلكها.
————————————————————————————————————-
(1) هو المؤسس الرئيسي لمعهد بحوث السلام أوسلو في عام 1959 وعمل كأول مدير له حتى عام 1970. كما أسس مجلة بحوث السلام في عام 1964. في عام 1969 تم تعيينه كأول بروفيسورفي العالم في دراسات السلام والصراع، في جامعة أوسلو. لكنه استقال في عام 1977، ومنذ ذلك الحين عمل كأستاذ في عدة جامعات أخرى؛ من عام 1993 إلى عام 2000 كان أستاذاً بارزاً في دراسات السلام بجامعة هاواي، وهو حاليا مقره في كوالالمبور، حيث كان أول أستاذ في مجال السلام العالمي في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.
(2) LIANA FIX زميلة مقيمة في German Marshall Fund، في واشنطن العاصمة. ومايكل كيميج أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأميركية وزميل زائر في صندوق مارشال الألماني. من عام 2014 إلى عام 2016، عمل في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، حيث شغل حقيبة روسيا / أوكرانيا