طموحات الرئيس الروسي الإمبريالية تُقلقُ دول آسيا الوسطى | كتب غابي طبراني
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
قَلَبَ الغزو الروسي لأوكرانيا الحسابات الجيوسياسية لغالبية دول العالم رأسًا على عقب، وخصوصًا لدول ما بعد الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى، التي تُحافظ على علاقات وروابط اقتصادية وسياسية وثقافية واسعة النطاق وغيرها مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا. في حين أن آسيا الوسطى بعيدة من الخطوط الأمامية للحرب الجارية، وبالتالي فهي أقل تأثرًا بشكلٍ مباشر من دولٍ مثل مولدوفا أو جورجيا، فإن قادتها يواجهون أيضًا قراراتٍ صعبة.
دول آسيا الوسطى الخمس: أوزبكستان، طاجيكستان، قرغيزستان، كازاخستان، وتركمانستان، المستقلة منذ ثلاثة عقود، تعتمد بدرجاتٍ مُتفاوِتة على روسيا كمزوّدٍ أمني وشريكٍ اقتصادي وكمَصدرٍ للدعمِ السياسي. ومع ذلك، فإن شعوبهَا وقادتَها قلقون وحذرون من طموحات الرئيس الروسي الإمبريالية الجديدة، التي يخشون ألّا تبقى محصورة في أوكرانيا. هذا المزيج من التَبَعية والخوفِ يَحُدُّ من حرّية المناورة لهذه الدول. وتُعارِض النُخَب السياسية فيها الحرب إلى حدٍّ كبير، والأمر الذي تخشاه بأن يُعطي ذلك موسكو ذريعةً للانقلاب عليها. ولكن، مع احتمال مواجهة روسيا فترة طويلة من العزلة والعقوبات، فمن المُرَجَّح أن تُحاول دول آسيا الوسطى تقليل اعتمادها الاقتصادي والسياسي على موسكو تدريجًا- بدون إثارة حفيظتها ومواجهة ردّ فعلٍ قوي.
على الرغم من اعتمادهم على روسيا وضعفهم تجاهها، فقد حاول قادة آسيا الوسطى إبعاد أنفسهم عن غزو أوكرانيا، لذا، أعلنوا إما الحياد أو التزام الصمت بشأن الحرب. كما امتنعت دولهم عن التصويت أو غابت عن جلسة التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي والمطالبة بحماية المدنيين الأوكرانيين. ورُغمَ أن كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان صوّتت ضد طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إلّا أن زعماءها رفضوا وكذّبوا المزاعم الروسية بأنهم أيّدوا الحربَ في مُكالمات هاتفية مع الرئيس الروسي بوتين.
في 17 آذار (مارس)، أشار وزير الخارجية الأوزبكي عبد العزيز كوميلوف إلى أن أوزبكستان تدعم وحدة أراضي أوكرانيا ولم تعترف باستقلال ما يُسمّى بـ ال”جمهوريتين الشعبيتين” دونيتسك ولوغانسك. وكازاخستان، التي دعا رئيسها قاسم جومارت توكاييف منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا للتعامل مع الاحتجاجات العنيفة الأخيرة في ألماتي في كانون الثاني (يناير)، أعلنت بالمثل أنها لن تعترف بهاتين الجمهوريتين. وعلى الرغم من القمع ضد المجتمع المدني في أعقاب اضطرابات كانون الثاني (يناير)، سمح توكاييف بمظاهراتٍ مُؤيِّدة لأوكرانيا وأرسل مساعداتٍ إنسانية إلى كييف.
قد تكون إحدى العواقب الأكثر ديمومة للحرب الروسية-الأوكرانية على آسيا الوسطى هي الشلل الدائم أو انهيار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا، والذي يضم في عضويته كازاخستان وقيرغيزستان، والذي كانت كلّ من طاجيكستان وأوزبكستان تناقشان الانضمام إليه قبل اندلاع الحرب. وتُهدّدُ عضوية الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الآن بإلحاقِ أضرارٍ جانبية باقتصادَي كازاخستان وقيرغيزستان حيث يفرض العديد من الدول الغربية قيودًا على التجارة مع روسيا والاستثمار فيها.
على الرغم من تصوير روسيا للاتحاد الاقتصادي الأوراسي بأنه منظمة توافقية وذات منفعة مُتبادَلة، فقد تسبّب تاريخيًا في قيام كازاخستان وقيرغيزستان برفع التعريفات الجمركية على الواردات الآتية من خارج الاتحاد، مع إلغاء الحواجز وتقليل العقبات أمام اختراق روسيا لاقتصاديهما. ونتيجة لذلك، زادت العضوية من اعتماد كازاخستان وقيرغيزستان على الواردات وسلاسل التوريد وتمويل المشاريع الروسية- وكلها ستتأثر بتداعيات الحرب في أوكرانيا. منذ بداية هذه الحرب، ضغطت المصالح التجارية والمجتمع المدني في كلا البلدين على حكومتيهما للانسحاب من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بينما تم تعليق المناقشات بشأن الانضمام إلى الكتلة في طشقند ودوشانبي فعليًا.
أبعد من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، سيكون للتأثير الاقتصادي للحرب في روسيا تأثيرٌ مباشر أيضًا في آسيا الوسطى. يتوقّع البنك الدولي أن ينكمشَ الاقتصاد الروسي بنسبة 11.2 في المئة في العام 2022. وسيُتَرجَم هذا التراجع إلى انخفاضٍ كبيرٍ في التحويلات المُرسَلة إلى الوطن من قبل العمّال المهاجرين من آسيا الوسطى في روسيا، والتي تُشكّل أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي في قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، على الرغم من حالات الانخفاض المُرتَبطة بالجائحة. علاوة على ذلك، يتم تحويل معظم هذه التحويلات بالروبل من خلال المؤسسات المالية الروسية. وتُمثّل العقوبات، التي تُفاقِمُ تقلّب أسعار الصرف وتعزل البنوك الروسية عن النظام المالي المُقَوَّم بالدولار، مصدرًا إضافيًا للمخاطر في جميع أنحاء آسيا الوسطى.
مع احتمالِ استمرارِ العقوبات على روسيا في المستقبل المنظور، فهناك حافزٌ لدى دول آسيا الوسطى لزيادة تنويع علاقاتها الاقتصادية. الخيار الأكثر وضوحًا هو الصين، التي وعدت بمليارات الدولارات في استثماراتٍ إضافية في منطقةٍ حاسمة لمبادرة الحزام والطريق. ومع ذلك، تواجه بكين رياحها الاقتصادية والسياسية المُعاكِسة، وهناك قلق لدى قادة آسيا الوسطى بالنسبة إلى اعتمادهم المتزايد على الصين. كما أن زيادة إضعاف روسيا من خلال العقوبات والنكسات العسكرية سيجعل من الصعب على دول آسيا الوسطى أن تلعب ورقة موسكو ضد بكين أو بالعكس، كما فعلت في العقود العديدة الماضية. لكن سيكون هذا هو الحال بشكلٍ خاص إذا قرّرت بكين تقديم الدعم الكامل للجهود الحربية الروسية، وهو الأمر الذي امتنعت عن القيام به حتى الآن.
من ناحية أخرى، تستطيع آسيا الوسطى الاستفادة من المزيد من الاستثمارات الغربية، ولكن هناك العديد من العقبات التي تحول دون حدوث ذلك. يُمكن للطاقة في آسيا الوسطى أن تساعد الاتحاد الأوروبي على الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين. وفي الواقع، ساعد اهتمام أوروبا في التنويع على إحياء النقاش حول خط أنابيب غاز عابر لبحر قزوين مُخطّط منذ فترة طويلة من تركمانستان. ومع ذلك، فإن المخاطر السياسية والاقتصادية التي عطّلت الجهود السابقة لجلب غاز آسيا الوسطى إلى أوروبا لا تزال قائمة، ويبدو أن الغاز من المرجح أن يصل إلى الشواطئ الأوروبية من شرق البحر المتوسط أو العراق أكثر من وصوله من شرق بحر قزوين. كما إنه من غير المحتمل أن تُقدّمَ الولايات المتحدة الكثير من المساعدة للمنطقة. لطالما كانت العلاقات الاقتصادية بين آسيا الوسطى وأميركا متواضعة، في حين أن انسحاب الأخيرة من أفغانستان جعل المنطقة أقلّ أولوية استراتيجية بالنسبة إلى واشنطن.
إعتمادًا على نتيجةِ الحرب ومدّتها، قد تجد آسيا الوسطى نفسها في مواجهةِ مشهدٍ جيوسياسي مُتَغَيِّر كثيرًا بطرق أخرى أيضًا. على الرغم من أن روسيا نظرت دائمًا إلى الاتحاد السوفياتي السابق كمنطقة تحتفظ فيها بـ”مصالح مميزة”، فإن غزو أوكرانيا يُمثّل تغييرًا جذريًا، حيث تنحرف موسكو عن محاولات تشكيل التوجّه الاقتصادي والسياسي لجيرانها للغزو التام. يشعر القادة والشعوب في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق بالقلق من أن العدوان الروسي على أوكرانيا يمكن أن يكون نذيرًا لمزيدٍ من المحاولات للاستيلاء على الأراضي، سواء كان ذلك نتيجة للغطرسة إذا نجحت حربها في أوكرانيا أو بحثًا عن جائزة ترضية في حالة فشلها.
في آسيا الوسطى، تَظهِرُ مثل هذه المخاوف بشكل خاص في كازاخستان، التي يوجد فيها عددٌ كبير من السكان الروس في الشمال، والتي أشار إليها القوميون الإمبرياليون الروس مثل الروائي ألكسندر سولجينتسين منذ فترة طويلة كجُزءٍ من الإرث “الشرعي” لروسيا. في العام 2014، ادّعى بوتين أن “الكازاخيين لم تكن لديهم أي دولة” قبل انهيار الاتحاد السوفياتي — وهي ملاحظة شبّهها المراقبون برفضه للشرعية التاريخية لأوكرانيا. إن التصريحات العدوانية التي يُطلقها السياسيون الروس منذ بداية الحرب الحالية عزّزت المخاوف بشأن نوايا روسيا تجاه كازاخستان. كما أنه من غير المحتمل أن تنسى موسكو إعلان توكاييف الحياد، والذي جاء بعد أسابيع فقط من مساعدة قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا في ضمان بقائه في السلطة.
على الرغم من أن روسيا تفتقر إلى العلاقات العرقية الوثيقة أو الحدود المشتركة مع دول آسيا الوسطى الأخرى، إلّا أن هذه الدول تبقى أيضًا عرضةً للعدوان الروسي. موسكو تحافظ على نشر قوات كبيرة في قيرغيزستان وطاجيكستان؛ تم إرسال مئات من القوات من القاعدة العسكرية الروسية في طاجيكستان إلى الجبهة في أوكرانيا في شباط (فبراير) الفائت. في الآونة الأخيرة، وبالتحديد في العام 2016، أثناء الحرب في أفغانستان، عرضت موسكو أيضًا – أو هدّدت – بنشر قواتٍ في تركمانستان عندما بدا أن عشق أباد غير قادرة على تأمين الحدود التركمانية-الأفغانية. يُدرِكُ القادة في جميع أنحاء المنطقة أنه مهما حدث في أوكرانيا، ستحتفظ روسيا بالقدرة على الإكراه العسكري – وأنه في حالة حدوث الأسوإِ، فمن غير المرجح أن يتلقوا الدعم الدولي عينه الذي تلقّته أوكرانيا.
الغزو الروسي مأساةٌ قبل كل شيء لأوكرانيا وشعبها. بالنسبة إلى آسيا الوسطى، تخلق الحرب ضغوطًا غير مُرحَّب بها للانحياز إلى جانب، إضافةً إلى عواقب اقتصادية من المحتمل أن تدوم لفترة أطول من القتال في أوكرانيا. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تَركَّزَ التحدّي الذي تواجهه دول آسيا الوسطى على تعزيز سيادتها واستقلالها في منطقة مضطربة تقع بين قوة إمبراطورية سابقة مُهَيمنة في روسيا وعملاق اقتصادي ناشئ في الصين. بعد أن نجحت بدرجاتٍ مُتفاوتة في هذا المسعى، تواجه دول آسيا الوسطى الآن مخاطر جديدة. مع مواجهة روسيا العزلة والتدهور الاقتصادي المتسارع، أصبحت لدى آسيا الوسطى أسبابٌ أكثر من أيِّ وقت مضى لتسريع ابتعادها وفصلها عن موسكو. ومع ذلك، فإن الخوفَ من إثارة الانتقام الروسي، إلى جانب عدم وجود بدائل فورية، سيستمر في فرض الحذر والقلق في المنطقة.