في روسيا وإيران، العدوانُ الخارجي يَخفي نقاطَ ضُعفٍ داخلِي | بقلم غابي طبراني
هناكَ أشياءٌ قليلة تُعتَبَرُ أكثر ترويعًا من نظامٍ استبدادي يَتَصَرَّفُ من دونِ رادع. سواءَ كانَ الأمرُ يتعلّقُ بالمدفعية والصواريخ الروسية التي تدكُّ المدن الأوكرانية وتُدَمّرها على أهلها أو عناصر الحرس الثوري الإيراني الذين يُنَسّقون الهجمات التي تشنّها قواتٌ بالوكالة عنهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط … فإنَّ الأنظمةَ الاستبدادية قادرةٌ على تَوليدِ شعورٍ بزَخمٍ لا يُقاوَم يُغذّي القلقَ بين المجتمعات الأكثر انفتاحًا. وبينما تُحاوِلُ فَرضَ نظرتها الاستبدادية للعالم بالقوة، فإنَّ مثل هذه الأنظمة تُبرِزُ جماليةً إيديولوجية مُشبَعة بالذكورة العسكرية التي يُمكِنُ أن تُثيرَ إعجابَ الكثيرين في العالم الأوسع الذين يشاركونها ازدراءَها لسيادة القانون.
مع ذلك، إذا نظرنا إلى كيفية تعامل هذه الأنظمة مع التغيّر الاجتماعي، فإنَّ الكثيرَ مما يبدو في البداية لا يُمكِنُ إيقافه يبدأ في أن يبدو أقل خطورة بمرور الوقت. فالعدوان العسكري الذي يضع الديموقراطيات في موقفٍ دفاعي في الوقت الحاضر يُمكِنُ أن يتولّد من قِبَل أنظمةٍ تُكافِحُ في الواقع لإدارةِ خللٍ وظيفي داخلي يُقوِّضُ تماسُكَ دولها الاستبدادية في المستقبل. وفي جهودها الرامية إلى تعبئة الموارد المحدودة لتأكيدِ أحلامِ العظمة الجيوسياسية، تُعطي هذه الأنظمة الاستبدادية الأولوِيّة للميزة التكتيكية قصيرة المدى حتى عندما تؤدّي هذه الجهود إلى تفاقُمِ خطوطِ الصَدَع الاجتماعية.
وقد أدّى هذا التوتّر بين السعي العسكري إلى تحقيق طموحات “القوّة العُظمى” والحاجة إلى إدارة الضغوط الداخلية إلى معضلاتٍ استراتيجية يُكافح القادة الاستبداديون في روسيا وإيران لحلّها. نجحَ المسؤولون التكنوقراطيون في موسكو في تحقيقِ استقرارِ الاقتصاد الروسي من خلالِ حُزمةِ تَحفيزٍ ضخمة مُصَمَّمَة لتسريع الإنتاج العسكري. ومع ذلك، فإنَّ الاختلالاتَ الاقتصادية التي يُغذّيها سعي الرئيس فلاديمير بوتين إلى إخضاع أوكرانيا تعمَلُ على توليدِ نقصٍ في المواد الغذائية مثل البيض والدواجن، في حين تُكافِحُ الشركات غير القادرة على الوصول إلى المُكَوِّنات الغربية لإدارة سلاسل التوريد المُعَقَّدة.
في الوقت نفسه، حاول قادة الحرس الثوري الإيراني المُهَيمِنون بشكلٍ متزايد على القرار في طهران تأكيد هيمنة إيران الإقليمية من خلال العمل المُنَسَّق ضدّ الولايات المتحدة مع شركاء مثل “حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن وميليشيات الحشد الشعبي المُعترَف بها من قبل الدولة في العراق. لكن هذه الجهود لم تفعل الكثير لاستعادةِ دَعمِ قطاعٍ كبيرٍ من الشعبِ الإيراني الذي أصبحت معارضته العميقة لحكم رجال الدين واضحة في الاحتجاجات الجماهيرية التي جرت في العام 2022.
الواقع أنَّ وتيرة تصاعد الضغوط داخل روسيا وإيران تسارعت بسبب تشديد أنظمة العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أخيرًا. لكن تصاعد هذه الوتيرة كان إلى حدٍّ كبير نتاجًا للتوتّرات الاجتماعية الطويلة الأمد التي تفاقمت مع تركيز الأنظمة السياسية في كلٍّ من البلدَين السلطة في أيدي مجموعةٍ صغيرة. في روسيا، وبعد ترسيخِ نظامٍ شخصي يقومُ على القدرةِ على توزيعِ المَحسوبية على الموالين من خلال السيطرةِ المُشَدَّدة على مؤسّساتِ الدولة وقطاعاتِ الأعمال الاستراتيجية، فإنَّ بوتين لن يُشَجِّعَ الإصلاحات التي قد تؤدّي إلى زعزعة الأدوات ذاتها التي يعتمد عليها للبقاء في السلطة، حتى لو كان ذلك من شأنه أن يُساعدَ في الحرب ضد أوكرانيا. وفي إيران، مع انتشار شائعات عن اعتلالِ صحّة المرشد الأعلى علي خامنئي البالغ من العمر 84 عامًا، يشعرُ المسؤولون داخل النظام بالقلق من أنَّ تخفيفَ الصرامة الإيديولوجية قد يصبُّ في مصلحة الفصائل المُنافِسة غير الراغبة في الضغط من أجل تخفيف القيود الاقتصادية والضوابط الاجتماعية، على الرُغم من أنَّ القيامَ بذلك ضروريٌّ لإعادةِ بناءِ الدَعمِ بين الشباب الذين هم على خلافٍ مُتزايدٍ مع النظام الثيوقراطي الذي تأسّس في أواخر السبعينيات الفائتة.
كانَ التحدّي المُتَمثّل في احتواء الأنظمة الاستبدادية، التي بالكاد يخفي عدوانها الخارجي نقاط ضعفها الداخلي، سببًا في طرح معضلاتٍ استراتيجية شاقة بالنسبة إلى صنّاع السياسات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. في بعض الأحيان، أثّرت المخاوف بشأن مخاطر عدم الاستقرار داخل روسيا في استعداد واشنطن وبروكسل لاتخاذِ إجراءاتٍ حاسمةٍ قد تردَعُ بوتين ولكنها قد تُضعِفُ الدولة الروسية أيضًا. والنظامُ الإيراني، الذي دمّرته الثورات الداخلية والمنافسات الشرسة بين النخبة، هو نظامٌ يمكن فيه تخريب أي جهود غربية لتعزيز الحوار مع أيٍّ من القادة من خلالِ أعمالٍ عدوانية مفاجئة تقوم بها فصائل متنافسة في الحرس الثوري الإيراني أو إحدى الميليشيات العديدة التابعة له في العراق وسوريا ولبنان.
قبلَ جولاتِ المواجهة الحالية بين روسيا وإيران مع الغرب، زَعَمَ بعض المعلقين أنَّ نقاطَ الضعف الاجتماعية والاقتصادية الظاهرة في كلٍّ من البلدَين من شأنها أن تجعلَ نظامَيهما مُتردّدَين في المخاطرة بأيِّ ضغوطٍ داخلية أخرى قد يولّدها التصعيد الجيوسياسي. حتى في العام 2014، بعد الهجمات الأوّلية التي شنّتها روسيا على أوكرانيا (شبه جزيرة القرم) والتدخّل الإيراني لدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، اللذين أشارا إلى تحوّلٍ من جانب البلدين نحو العمليات العسكرية العدوانية، استمرَّ بعضُ صُنّاعِ السياسات في الغرب في الأمل في أنَّ نقاطَ الضعف الداخلية في كلا النظامين ستُثبِطُ سلوكهما المُتهوِّر أو حتى تُجبرهما على قبول الإصلاحات الداخلية.
بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 واستعداد قادة الحرس الثوري الإيراني المستمر لدعم هجمات “حماس” و”حزب الله” والحوثيين منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فإنَّ هذه الافتراضات الغربية القائلة بأنَّ الضعفَ الداخلي سيؤدي إلى ضبط النفس الخارجي تحتاج إلى إعادة نظر جذرية. وبدلًا من أن تَجبُرُ نقاط الضعف الداخلية النظام الاستبدادي على تسوية، فإنَّ المسارات الحالية للنظامَين في روسيا وإيران تُشيرُ إلى أنَّ الوعي بنقاطِ الضعف هذه هو الذي قد يدفعهما نحو السعي المُتَهوِّر إلى تحقيق طموحات “القوّة العظمى” ضدّ الخصوم الخارجيين. في حالةِ كلٍّ من روسيا وإيران، ربما أصبح النظامان الفاسدان، اللذان تُمجّد سرديات هويتهما الأساسية جَمالية النزعة العسكرية في خدمة المجد الوطني أو الطائفي، ينظران إلى استخدام القوة ضد الخصوم في الخارج باعتباره الخيار الوحيد المتبقّي لاستعادة الشرعية المُتضائلة في الداخل.
من الناحية التاريخية، لن يكونَ بوتين وخامنئي أولَ أو آخرَ الحكّام المُستبدّين الذين يدفعهم خوفهم من نفاد الوقت إلى رهاناتٍ عسكرية عدوانية وعالية المخاطر. يُمكِنُ القول إنَّ ديناميكياتٍ مُماثلة تدفعُ عمليةَ صُنعِ القرار في الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ. لذلك، عند إدارة التوتّرات في أوروبا والشرق الأوسط وحتى منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ، يجب على صنّاع السياسات في واشنطن وبروكسل ونيودلهي وطوكيو ألّا يغيب عن بالهم أبدًا احتمالُ أن يكونَ النظامُ الاستبدادي أكثر خطورةً عندما يبدأ الشعور بالضعف عمّا كان عليه عندما كان مليئًا بالثقة بالنفس.
إنَّ إيجادَ التوازن الصحيح بين إدارة التهديدات قصيرة المدى بالإضافة إلى التحديات المختلفة طويلة المدى من الدول الاستبدادية مثل روسيا وإيران والصين هو أحد أصعب المعضلات الإستراتيجية التي ستواجهها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع وجودِ آلياتِ خلافة ضعيفة للتعامل مع عمليات نقل السلطة بعد رحيل بوتين وخامنئي وشي عن المشهد، فإنَّ خطرَ احتمال انهيار هذه الدول، التي تُهدّدُ الآخرين حاليًا، بسرعة ملحوظة إذا خرجت المنافسات بين النخبة عن السيطرة لا يمكن تجاهله. وبالتالي فإنَّ الحاجة إلى دَحرِ التهديدِ العسكري الحاد الذي تُمثّله هذه الدول الثلاث لسيادة القانون على مدى العقد المقبل لا ينبغي أن تطغى على الحاجة إلى خططِ طوارئ للتعامل مع الضرر الطويل الأجل الذي يُمكِنُ أن تُلحِقَهُ الأنظمة الاستبدادية بتماسُكِ دولها.
في التعامل مع التهديدات التي تُشَكّلها الأنظمة الاستبدادية العدوانية، يحتاج المُخطّطون الاستراتيجيون إلى أن يظلّوا على درايةٍ كافية بكلٍ من الكيفية التي يُمكنُ بها للضُعفِ الداخلي أن يدفَعَ النظامَ إلى مواصلةِ المُغامرة في الخارج، وكذلك مدى السرعة التي يُمكِنُ بها لهذا العدوان الخارجي أن يَرتَدَّ مرّةً أخرى ليؤجّج الصراع المدني الداخلي. ومع ذلك، سوف يكافح االغرب من أجل إيجاد إجابات فعّالة لمثل هذه المعضلات الاستراتيجية ما دام نهجه تجاه هذه التهديدات يعتمد إلى حدٍ كبير على ردّات الفعل. ولتجنُّبِ أسوَإِ النتائج المُحتمَلة في هذا النضال من أجل حماية الديموقراطية، سيحتاج الغرب عامةً، وواشنطن وبروكسل خاصةً، إلى إعادة اكتشافِ القدرة على تقديمِ مُستقبلٍ مُشتَرَكٍ أفضل للمجتمعات التي تتمكّنُ من الهروبِ من الاستبداد.