أسئلة المستقبل في منطقة الشرق الأوسط | بقلم محمد محفوظ
أبانت مرحلة ما سمي بالربيع العربي عن جملة من الأزمات التي يعاني منها الواقع السياسي. ويبدو أن على رأس هذه الأزمات هي النقاط التالية:
1ـ أزمة السلطة والنظام السياسي: ومن أبرز مظاهر الأزمة على هذا الصعيد هو ظاهرة الاستبداد السياسي ولعل من أبرز ما صنعته ظاهرة الربيع العربي هو إعادة إنتاج الاستبداد السياسي.لأن اغلب دول الربيع العربي أسقطت الديكتاتور وأبقت ظاهرة الديكتاتورية، وبفعل متواليات عديدة ظاهرة الديكتاتورية أعادت إنتاج نفسها. وإن هذا الاستبداد آيل بمجتمعاتنا إلى توليد نزعات متعددة إلى الحرية والديمقراطية وحكم القانون.
والاستبداد هو تلك الثمرة المرة التي يثمرها نظام سياسي يعجز عن التعبير عن توازنات المجتمع وحقائقه، السوسيولوجية والسياسية تعبيرا مطابقا فيبدو نظاما مغلقا لنخبة سياسية ضيقة وذات قاعدة تمثيلية محدودة وأنه أي النظام السياسي يعاني نقصا حادا في الشرعية السياسية. ولعنا لا نأت بجديد حين القول: إن تسييس المطالبات الشعبية يعبر عن أزمة سياسية عميقة في الاجتماع العربي هي أزمة السلطة والنظام السياسي. وإن أزمة النظام السياسي أبعد وأعقد من أن تحل بإزاحة نظام أو بالأحرى رموزه. لم يقدم الربيع العربي حلا لأزمة السلطة والنظام السياسي، وانى له أن يفعل وهو الذي أتى محمولا على أي صهوة ماعدا المشروع الوطني الديمقراطي.
2ـ في مسألة العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة: من يسيطر على السلطة ويحكم عليها قبضة الاحتكار يحتكر الثروة بالتبع ويختص نفسه بثمراتها. وكما أن الاستبداد يغطي الفساد لأنه شريك فيه، كذلك الفساد يسكت عن الاستبداد لأن مصلحته فيه. وقد يكون هناك استبداد من غير فساد فيكون في حكم الاستبداد المستنير كما سماه بعض مفكري الأنوار الأوروبيين. أو في حكم الاستبداد العادل كما سماه اصلاحيو القرن التاسع عشر في العالم العربي. كما قد يكون هناك فساد من غير استبداد فيكون في حكم الفساد الشائع في الرأسماليات المعاصرة. أما حين يجتمعان في نظام واحد اجتماعهما في النظام العربي فتكون الطامة أكبر والخطب أعظم. والأمانة التاريخية تقتضي القول: أن استشراء الفساد واتساع الفوارق الطبقية الفاحشة وسوء توزيع الثروة وما اقترن بذلك من إفقار متعاظم وتهميش متسع النطاق هي الوقود الذي أشعل حرائق الربيع العربي في المجال العربي.
والحاجة جدا الماسة لحفظ الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط لإنتاج رؤية سياسية جديدة إلى المسألة الاجتماعية وترجمتها في مخططات وبرامج عمل للتنمية الاجتماعية تغطي الحاجات الأساسية وتقلص الفجوات بين مجموع الطبقات والشرائح الاجتماعية وتحارب الفساد وهدر المال العام وتوفر فرص العمل لملايين العاطلين عنه وتوفر شبكات التأمين الاجتماعي من ضمان صحي وسواه.
إن أي تنمية اقتصادية غير ذات مضمون اجتماعي أو لا تقوم على مقتضى التنمية الاجتماعية وبتعبير أخر أن أي تنمية لا تكون العدالة والإنصاف في الحقوق ميزانها هي حكما آيلة إلى إخفاق أو على الأقل إلى الاصطدام بالنتائج الاجتماعية الثقيلة.
وإن التجاهل الصارخ للمسألة الاجتماعية والانعدام التام للعدالة في توزيع الثروة، توفر جميعا البيئة الخصبة المناسبة لإنفجارات اجتماعية هائلة.
3ـ في أزمة الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية: لعلنا لا نضيف جديدا حين القول: أن كل الدول في منطقة الشرق الأوسط، تعاني أزمة حقيقية في الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية.
ونحن لا نملك أن نبرئ الاستبداد وغياب الحياة السياسية وانعدام المشاركة من تهمة المساهمة الفعالة في إعادة إنتاج البنية العصبوية الانقسامية تلك بمفاقمتها مشاعر الغبن والمظلومية. ولا في وسعنا أن نتجاهل ما كان للتركيب الهجين والشاذ للسلطة على قاعدة التمثيل العصبوي عبر نظام المحاصصة مما زود البنية الاجتماعية العصبوية أسباب الرسوخ.
أن سؤال الوحدة الوطنية والاندماج الاجتماعي هو اليوم من أمهات أسئلة المصير العام التي فرضتها الأحداث على التفكير وعلى الرأي العام.
ولكون بنية الدولة بنية عصبوية فإنها لم تتمكن من شروط بناء الدولة فكانت السلطة ولم تكن الدولة. وإن أحد الفروقات الأساسية بين الدولة والسلطة هو أن المواطن لا يعرف من الأجهزة سواء الأجهزة الأمنية والرقابية لذلك فإن المطلوب فك الارتباط بين الاختلافات بكل مستوياتها وانتهاك الحقوق وأن تكون مؤسسة الدولة محايدة اتجاه عقائد مواطنيها وهذا لا يتأتى إلا بمدنية الدولة. لأن كل الدول الأيدلوجية هي بالضرورة صانعة للانقسام والتشظي الاجتماعي. وثمة حاجة على هذا الصعيد إلى سن منظومة قانونية متكاملة تجرم كل من يسئ إلى مقدسات الآخرين من المواطنين. ولا يمكن تجاوز حالة التشظي والأنقسام العمودي والأفقي في داخل المجتمعات الإنسانية في داخل منطقة الشرق الأوسط بدون إعادة النظر في مفهوم الأقلية والأكثرية فبدل أن تكون دينية أو مذهبية أو قومية ينبغي أن تكون سياسية وأن الاستبداد السياسي وعنف الدولة هو المسؤول الأول إلى حد بعيد عن تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات.
4ـ في أزمة العلاقة بين السياسي والديني: لا ريب أن الدين هو رأسمال قابل للاستثمار السياسي في لعبة السلطة والثروة. وليس مهما عند الجميع إن كان لعملية الاستثمار من تبعات على وحدة الشعب والوطن والدولة وعلى الاستقرار السياسي والسلم المدني. ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول أن الكثير من المجتمعات تمزقت من وراء الاستخدام السياسي للدين.
وإن التجارب السياسية تعلمنا أن بناء أوطان جامعة يعيش فيها الناس آمنين على أرواحهم وممتلكاتهم وإلى بناء دول وطنية حديثة يتمتعون فيها بالحقوق المدنية والسياسية والمواطنية الكاملة ويشاركون في إقامة عمرانها الديمقراطي والعدالي بإرادتهم الحرة، إنما تمر من طريق فك الاشتباك بين الديني والسياسي وتحييد الدين في المنازعات الاجتماعية.
فالمطلوب دائما بناء دولة مدنية ومجتمع مؤمن فالتمييز بين الدين والسياسية في الدولة ضرورة والمجتمع جريمة وعلى المستوى التاريخي في التجربة المعاصرة من الضروري فك الارتباط بين العلمانية والاستبداد لأن هذا الربط خلق كوارث إنسانية وسياسية هائلة. وحين ما تكون الدولة لأي اعتبار دولة البعض وليس دولة الجميع فهي بالضرورة منتجه للتشظي العمودي والأفقي في المجتمع. لهذا فإن إصلاح مؤسسة الدولة وجعلها مؤسسة حاضنة ومعبره عن الجميع هو السبيل الحيوي لإنهاء كل مظاهر الانقسام. فالمشكلة ليس وليدة التعدد والتنوع وإنما لأنها دولة طاردة للبعض وحاضنة للبعض الأخر. وحينما نتحدث عن دولة مدنية المحايدة فإننا نقصد العناصر التالية:
1ـ أن تكون الدولة متعالية ومستقلة عن الانقسامات الرئيسية في المجتمع.
2ـ عدم بناء سياسات معادية لأحد مكونات المجتمع.
3ـ المواطنة بحمولتها القانونية والدستورية هي الواسطة الوحيدة التي تربط بين الدولة والمواطنين وليس القبلية أو الطائفة أو ما أشبه.
4ـ صياغة مشروع وطني متكامل يدمج جميع المكونات في إطاره بحيث تكون المواطنة هي قاعدة الحقوق والواجبات. وإنما المعادلة القائمة اليوم في المنطقة إننا جميعا وطنيون ونفخر بأوطاننا ولكننا لسنا جميعا مواطنين بالمعنى الحقوقي والقانوني والسياسي.
5ـ توفير الحماية القانونية لحقيقة التعددية والتنوع في المنطقة. فالمطلوب منظومة قانونية متكاملة تحمي التعدد في الاجتماع الوطني وتصون حقوق الجميع.