قد يكون هذا العنوان تعبيرًا عن الألم والحسرة التي تنتاب القارئ مما يقرأه في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية التي تُسخر من أجل قضايا يشعر من خلالها أنها موجهة ضده سواءً في المجال الثقافي أو السياسي أو الديني،وأنها تجافي الحقيقة كثيرًا.
ويحاول بعض أصحاب هذه الأقلام عرض بضاعته مسخرًا كل إمكاناته ومواهبه في سبيل نيل رضى المشتري من دون أي اعتبار للحقيقة والتاريخ وحتى الإسم الذي بذل سنين عمره الثقافي من أجل صنعه، وقد يتفنن في لوي الحقيقة وتطويع موهبته الكتابية وإمكاناته الثقافية من أجل ذلك.
وهكذا نرى اليوم سوقًا للنخاسة ولكن ليس لبيع الجواري والغلمان وإنما للمثقفين وعذرًا لكل المثقفين الملتزمين ولكني لم أجد غير هذا التعبير.
ولكن لا لن أُعبر عنه بسوق النخاسة فهذا السوق ينشأ نتيجة الحروب والغزوات في السالف من التاريخ حيت تُسرق النساء والغلمان بعد خسارة من كانوا ضمن قبيلته وجيشه، فلا يمكنني أن أُشّبه هذه الظاهرة بسوق النخاسة، بل هي ظاهرة بائعة الهوى، ظاهرة العُهر الثقافي والدعارة الإعلامية!! حيث أن الفتاة تعرض جسدها مقابل مبلغ نقدي أو غيره في ظروف مختلفة ثم تستمر كمهنة تمتهنها بعد ذلك.
ولذلك عندما يعرض المثقف أو الكاتب كل إمكاناته على هذه الجهة أو تلك فإنه يمثل تلك الفتاة أو (الفتى) في هذه الأيام التي (الذي) يعرض جسده للبيع ليتلذذ الاخر به، وقد تكون لهذه الافعال أثار لا تتعدى أفرادًا معدودين.
ولكن عندما يتعلق الأمر بأصحاب الأقلام وما يسطرونه في هذا المجال فإن نتائجه الوخيمة والمدمرة ستظهر أثاره في المجتمع كله.
فالكاتب والمثقف عندما يتحول الى ظاهرة في المجتمع فإن حركته الفكرية من خلال ما ينشره يكون له أثر كبير في المجتمع والأمة، فإما أن يكون مصدرًا للإشعاع والتنوير أو يكون غير ذلك.
لقد درسنا فيما مضى الفرق بين الأدب الملتزم وغيره وبين الأديب الذي يكتب لذاته والأديب الموضوعي والنتيجة أن الأديب الملتزم لابد من أنه يعبّر عن ذاته ويجسدها عندما يكون موضوعيًا والأديب أو المثقف لايمكن أن يكون منفصلا عن مجتمعه وإن عبّر عن ذاته وكتب لها فهو يعكس ذات المجتمع الذي ترعرع فيه ضمن نظرية التأثير والمؤثّر من الأجواء المحيطة “البيئة والتربية والتراث والعامل الوراثي”.
والأديب الملتزم والموضوعي لايمكن أن يكون بهذه الحالة إلا إذا شعر بها وأصبحت جزءًا من المنظومة الفكرية التي يتحرك من خلالها وإلا كان إزدواجيا يعيش حالة مرضية.
إن أخطر ما يواجه المثقف أو الكاتب هو أن يتحول إلى موظف يعتاش من خلال قلمه ،ولنتصور ماهو رد الفعل عند الآخر عندما يسألني عن وظيفتي فأقول له مثقف أو كاتب!!
لقد استطاع النظام البائد في العراق ولعدة عقود من أن يأسر الأقلام ويقولبها في درجات الوظيفة وأضحى صاحب القلم يعتاش به ،ونتيجة للظروف التي سادت قُمعتْ وكُسرت الاقلام خارج هذا الاطار وتحوّلت ركاما في الوسط العراقي الثقافي.
وكان الخطر المميت هو تكريس كل المواهب والمبدعين الى موظفين مكرسين جهودهم في خدمة النظام الاستبدادي.
والمشكلة التي نواجهها بعد التغيير الكبير في التاسع من نيسان عام 2003 وسقوط الديكتاتور هو أُلفة بعض هذه الأقلام للوضع السابق ووجود صعوبة كبيرة في الانعتاق وكأنهم أدمنوا تلك الحالة.
والملاحظ أني لم أجد (وهي تجربة شخصية) أحدا من أصحاب الاقلام المرموقة قد سجل أو دون مخطوطات خالفت ما أنتجه في تلك الفترة كحالة وقائية وعلاجية وكشهادة تاريخية له، لأنني أحسن الظن بالكثير منهم من أنه كان مجبرًا على الترويج للطاغية المقبور ومع الاسف لم أرَ من ذلك شيئا. فكما قيل الإعتراف بالخطأ فضيلة، فضيلة الشجاعة والصراحة والمراجعة وما أجمل المثقف أن يراجع نفسه ،لأن ما كتبه أو سيكتبه سينتقل للاخرين فإما ان يكون وقايةً أو دواءً معالجاً، أو وباءً وسمًّا قاتلاً للمجتمع، واليوم نجد أن أصحاب هذه الاقلام تمارس وظيفتها القديمة،ولكنها تبحث عن من يدفع أجرًا أعلى في عملية طوعية بعدما قيل سابقًا أن الأمر كان قسريًا.
وليس من غريب القول تنقل بعض هذه الأقلام خلال السنوات الماضية بين مروج للوجود الأميركي ولليبرالية الأميركية وبين المقاوم له أو بين الاسلام الحركي والتقليدي ،أو بين الطائفي وغيره. ولكن الأمرَ لم يقتصر عليهم بل أجدُ الكثير من الأقلام تنتهج السلوك ذاته في عملية عرض للقلم وسيبري لمن يدفع أكثر، أو يعطي امتيازات أكثر وتلك هي الدعارة الثقافية الجديدة تحت مسميات كثيرة ،وتبريرات جاهزة لن أُناقشها لأنني فقط احاول تسليط الضوء على الظاهرة ليس إلا.