الاحدثالشرق الاوسط

أينكم يا عرب أمام ما تفعله إسرائيل وإيران بمنطقتكم؟ | بقلم غابي طبراني

رُغمَ الدمارِ الهائل الذي خلّفته حربٌ أُخرى لإسرائيل في غزة ولبنان بشرًا وحجرًا، فقد بدا العديدُ من الدول العربية بأنه أُصيبَ بالشلل إزاءَ مواجهةِ صراعٍ مُتصاعِدٍ بسرعة وبشكلٍ خطير. لم يمضِ وقتٌ طويل، عندما كانت أيُّ عمليةٍ عسكرية تشنُّها إسرائيل تستدعي ديبلوماسيةً مُكَثَّفة من الدول العربية التي كان يواجه

حكامها ضغوطًا هائلة من داخل مجتمعاتهم للتحرُّك. لكنَّ المشهدَ الجيوسياسي للشرق الأوسط اليوم قد تغيّر حيث لم يَعُد لدى هذه الدول نفسها القدرة على منع القادة الإسرائيليين والإيرانيين من إحداثِ الفوضى في جميع أنحاء منطقتها.

 

في حين أنَّ الافتقارَ إلى الضغطِ الحاسم من جانب الدول العربية يبدو أمرًا مُسَلَّمًا به في كثيرٍ من التحليلات والتعليقات الإعلامية حولَ الصراعَين الحاليين، فإنَّ هذا يُعتبرُ تطوُّرًا حديثًا نسبيًا بالنسبة إلى الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. حتى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، أثارت حربٌ قصيرة في غزة بين إسرائيل و”حماس” استجابةً ديبلوماسية نشطة من جانب الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي، الذي مارَسَ، بالتعاون مع الولايات المتحدة، قدرًا كافيًا من الضغوط على الجانبين لتأمين وقفِ إطلاقِ النار بعد أسبوعين فقط على بدء الأعمال العدائية. وكانَ ولاءُ مرسي لجماعة “الإخوان المسلمين”، التي وُلِدَت حركة “حماس” من أحشائها، سببًا في تمكينه من التأثير في أصحابِ النفوذ في غزة في وقتٍ لم يكن لإيران نفوذٌ يُذكَر بعد هناك.

 

إنَّ شدّة الجهود التي بذلتها مصر ودول الخليج لإنهاء القتال بين “حماس” وإسرائيل وإيجادِ حلٍّ سريعٍ في العام 2012 كانت تعودُ جُزئياً إلى قلقِ هذه البلدان من احتمالِ اندلاعِ احتجاجاتٍ جماهيرية لدعم الفلسطينيين، خصوصًا بعد عامٍ واحدٍ فقط من إطاحة الثورات الشعبية حكّامَ مصر وليبيا واليمن. مع ذلك، فإنَّ استعدادَ الدول العربية للقيامِ بدورٍ نشط في الوساطة والضغط الديبلوماسي لمنع إسرائيل من متابعة أهدافها القصوى كان واضحًا أيضًا قبل فترةٍ طويلة من الانتفاضات العربية في العام 2011. ففي أعقاب اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1978، عزّزت الدولتان قنواتَ اتصالٍ حاسمة يمكن استخدامها لتجنُّبِ خروجِ الصراعاتِ عن نطاقِ السيطرة.

 

كانت أهمّية مصر والقوى العربية الأخرى في إدارة الصراعات والأزمات واضحةً أيضًا بطرُقٍ أقل مُباشرة. كان الضغطُ الذي مارسته الولايات المتحدة على إسرائيل في عهد الرئيس رونالد ريغان آنذاك أثناء الحملة العسكرية الإسرائيلية لطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في العام 1982 مدفوعًا بالخوف في واشنطن من أن يؤدّي الصراعُ الطويل الأمد إلى إلحاقِ الضررِ بالعلاقات مع حلفاءٍ أساسيين في مصر والأردن والمملكة العربية السعودية. في وقتٍ لاحق، أثناء صراعات إسرائيل مع “حزب الله” في التسعينيات والعام 2006، مارست دول الخليج مثل السعودية وقطر نفوذًا كبيرًا على السياسة اللبنانية والديبلوماسية الإقليمية من خلال مشاريع استثمارية ضخمة مُصَمَّمة لمواجهة نفوذ إيران في لبنان.

 

في السنوات التي أعقبت انهيار عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية في صيف العام 2000، أدّى الإحباطُ الذي شعرَ به زعماءٌ عرب مثل الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك والملك الأردني آنذاك حسين، بسبب التخوُّف من تدهور الأمن الإقليمي، إلى إطلاق ديبلوماسيةٍ مُكثَّفة مُنَسَّقة من خلال جامعة الدول العربية. وكان هذا القلق من جانب الدول العربية الصديقة مع أميركا إلى جانب الضغوط من جانب إدارة الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش (الإبن)، التي كانت قلقة من أن يؤدّي التجاوز الإسرائيلي إلى تقويض حرب واشنطن العالمية على الإرهاب، بمثابةِ تأثيرٍ مُقَيِّدٍ وكابحٍ على إسرائيل.

 

حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الدول العربية الأكبر حجمًا أيضًا عاملًا حاسمًا في تقييد الطموحات الثورية للنظام الديني في إيران. فعندما غزا العراق إيران في أيلول (سبتمبر) 1980، على سبيل المثال، قدمت الأردن والمملكة العربية السعودية ومصر ما يكفي من الدعمِ لجهود بغداد الحربية لإلحاق الضرر الذي ما زالت إيران تُكافِحُ للتعافي منه بعد 36 عامًا من انتهاء الصراع في العام 1988. علاوةً على ذلك، في حين أنَّ دَعمَ إيران ل”حزب الله” بعد العام 1982 خلقَ الأساس لموقعها الإقليمي الحالي، فإنَّ وجودَ الأجهزة العسكرية والأمنية السورية في لبنان حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يعني أنَّ طهران كانت في أقصى تقدير شريكًا متساويًا لدمشق عندما يتعلق الأمر بممارسة النفوذ في البلاد.

 

لقد دفعَ مدى نشاط الدول العربية في تشكيلِ نتائج الصراعات السابقة في المنطقة العديدَ من المراقبين إلى الاعتقاد بأنَّ مثل هذه الديبلوماسية من شأنها أن تؤثّرَ في الاستجابات لهجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. في البداية، بذل الديبلوماسيون الأميركيون والأوروبيون قُصارى جهدهم للتشاور مع مصر ودول الخليج في البحث عن حلٍّ سريعٍ للصراع. ومع ذلك، مع اكتسابِ الحملة العقابية الإسرائيلية في غزة زخمًا، بدا أنَّ الدولَ العربية غير قادرة على التعامل مع وتيرةِ الأحداث. وبحلول الوقت الذي بدأ فيه الجيش الإسرائيلي متابعة التصعيد الجذري ضد “حزب الله” خلال صيف العام 2024، كان الشلل الاستراتيجي في مواجهة الجهات الفاعلة الأكثر قوة قد أصاب القادة المصريين والخليجيين الذين ظلوا مع ذلك على استعدادٍ لإلقاء ثقلهم الجيوسياسي في الدول الأضعف مثل ليبيا والسودان.

 

على الرُغمِ من أنَّ الفراغَ الجيوسياسي للدول العربية لم يُصبح واضحًا تمامًا إلّا بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فإنَّ جذوره في مصر تكمن في الإطاحة بمرسي في تموز (يوليو) 2013، والتي أنهت فترة ما بعد مبارك القصيرة لحكم “الإخوان المسلمين”. لقد أدى الجهد الضخم الذي بذلته السلطات بعد ذلك لسحق جماعة “الإخوان المسلمين” وقمع شبكات المجتمع المدني التي نظمت الاحتجاجات في العام 2011 التي أجبرت مبارك على التنحّي عن منصبه إلى تفاقُم الخلل الاقتصادي في مصر وإضعاف قدرة الدولة المصرية على التأثير في التطورات خارج حدودها.

 

لكن مع وقوف مصر على الهامش الديبلوماسي، لم يتمكّن أيُّ عضوٍ آخر في جامعة الدول العربية من التدخّل ولعبِ دورٍ حاسم. بعد عقودٍ من الصراع الخارجي والحرب الأهلية، لم تَعُد هناك جهاتٌ فاعلة حكومية أو غير حكومية في سوريا أو العراق تتمتّع بالقوة اللازمة لرَدعِ الجيش الإسرائيلي الذي يُمكنه قصفَ أهدافٍ في دمشق وبغداد من دون عقاب، أو التأثير في عملية صنع القرار من قبل نظامٍ إيراني يلعب دورَ الراعي للعديد من شبكات الميليشيات السورية والعراقية. ورُغمَ أنَّ المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة تدخلت في دولٍ فاشلة مثل اليمن والسودان وليبيا، إلّا أنَّ هذه الدول الخليجية اختبأت وراء درع واشنطن الأمني ​​عندما واجهت قدرة إسرائيل وإيران الأكبر على إظهار قوةٍ عسكرية هائلة. وفي إعطاء الأولوية للحفاظ على هياكل السلطة غير الديموقراطية بدل العمل على الإصلاحات اللازمة لمواكبة الطموحات الاستراتيجية الإسرائيلية والإيرانية، فقد شاهدت حتى الأنظمة التي سعت إلى درجةٍ من التحديث بأنَّ قدرتها على تشكيلِ المنطقة من حولها تتلاشى تدريجًا.

 

وقد تفاقمت هذه الحالة من الشلل الجيوسياسي بسبب عجز الشبكات الشعبية والجماعات الاجتماعية المؤثّرة سابقًا عن مُمارسةِ ضغوطٍ حاسمة نيابةً عن القضية الفلسطينية. في عصرٍ مضى، تمكّنت جماعة “الإخوان المسلمين” ومنظمات المجتمع المدني اليسارية من تنظيمِ احتجاجاتٍ جماهيرية في مصر وغيرها من الدول العربية، والتي كانت قادرة على توليدِ صرخةٍ من أجل التحرّك لم يكن بوسع جيل أكبر سنًّا من الزعماء الاستبداديين مثل مبارك أن يتجاهلها. ومع ذلك، فإنَّ حجمَ القمع والصراع المدني بعد العام 2013 قد غرس مستوى من الخوفِ بين السكان على نطاق أوسع، ما جعل من الأسهل على الرؤساء والملوك الحاليين منع –أو في حالة الأردن، إدارة- أي تيارات كامنة من السخط الشعبي إزاء حجم المعاناة الفلسطينية.

 

أدّى الشللُ الذي أصابَ الدول والمجتمعات العربية إلى أن يُصبحَ النشاطُ العنيف على وسائل التواصل الاجتماعي لدَعم القضية الفلسطينية الآن ينضحُ بنوعيةٍ سُريالية تبدو في كثيرٍ من الأحيان مُنفَصِلةً عن الحقائق المُروِّعة على الأرض. لقد أصبح الاحتفال بالانتصارات التكتيكية العابرة التي يحققها مقاتلو “حماس” و”حزب الله” أو تبادل “الميمات” (فكرة أو سلوك أو أسلوب، ينتشر عبر الإنترنت) التي تحتفل بالشخصيات العربية التاريخية التي هزمت الغزاة الخارجيين، بمثابةِ شكلٍ من أشكال نشاط التهجير في وقتٍ حيث لا ترغب الدول العربية في المخاطرة التي قد تساعد الناس في غزة ولبنان على البقاء. ومع عدم رغبة الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي أو عدم قدرتها على وقف دوامة التصعيد بين إسرائيل وإيران، فإنَّ الشعورَ بالإذلال الجماعي الذي يتراكم الآن داخل المجتمعات العربية قد يُغذّي أنواعَ التطرُّف وعدم الاستقرار التي اعتقدت هذه الأنظمة أنها تركتها للتو خلفها.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى