“الرؤية العربية 2045”: طموحٌ في عالم مضطرب (3/3) |بقلم د. خالد ميار الإدريسي
هذه آخر الوقفات مع مضامين وثيقة “الرؤية العربية 2045” التي صدرت عن الأمم المتحدة سنة 2023. سبق أن تطرقنا في وقفة أولى إلى تعامل الوثيقة مع الاتجاهات الخمسة الكبرى التي حدّدتها الأمم المتحدة في سنة 2020، أي التغيّرات المناخية والتحوّلات الديموغرافية (بالأساس شيخوخة السكان)، والتوسّع الحضري، وظهور التكنولوجيات الرقمية وانتشارها وعدم المساواة، نتطرق إلى تعاملها مع قضايا موازية، وتلتها وقفة ثانية مع المحاور التي تهم “العدل والعدالة”، “الابتكار والإبداع” و”الازدهار والتنمية المستدامة”.
نأتي للمكوّن الخامس في “الرؤية العربية 2045″، وعنوانه “التنوع والحيوية” ويضم التنوع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي البيولوجي، ويعكس الثراء الحضاري للمنطقة العربية. ولذلك تروم الوثيقة “صياغة مقاربة فكرية للتنوع الثقافي، بحيث يُصاغ المفهوم بصورة تبعث على تقدم المجتمعات العربية بثراتها الثقافي الثري المتعدد وتزود الأجيال العربية بالشجاعة والثقة في المستقبل”.
ومن المبادرات المقترحة في تعزيز التنوع والحيوية، اعتماد أبرز التقنيات الحديثة في حماية البنية والتنوع البيئي والزراعات الدقيقة واستخدام الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار عن بُعد لحماية الامن البيئي والغذائي، موازاةً مع إحداث منصات للحوار بين صنّاع القرار والأجيال العربية ومكونات المجتمع المدني العربي، للحفاظ على التنوع وإدماج الفئات المهتمة والمرأة والأشخاص ذوي الإعاقة.
ويُعد التجدّد الثقافي والحضاري، ركنًا سادسًا في “الرؤية العربية 2045″، ويُرادُ به حفظ وتطوير الهوية الحضارية لساكنة المنطقة العربية. ويستند إلى مجموعة من الأبعاد، وهي البُعد الجغرافي والطبيعي والبيئي والبُعد التنموي والبُعد التاريخي والبُعد المؤسّس للدولة الحديثة والبُعد العمراني والبُعد الثقافي الذي يتضمن العادات والتقاليد والقيم والهويات الفرعية.
الغاية من التأكيد على مكون التجدد الثقافي والحضاري هو السعي إلى حماية البصمة الحضارية لشعوب المنطقة العربية. ولذلك اقترحت الوثيقة عدّة مقترحات، ومن أهمها إنشاء فروع لمجامع اللغة العربية وتشجيع البحث العلمي في مجال اللغة والأدب والفنون وإدراجها في المناهج التعليمية وتنمية الروح الإبداعية في مجالات الثقافة واللغة؛ واعتماد مختلف الوسائط التكنولوجية وتأسيس منصات رقمية ثقافية، وكذلك وضع منهج موحّد للتاريخ والحضارة العربية يعتمد في كافة المراحل الدراسية، من أجل تمكين الأجيال من إدراك الخصوصية الحضارية للمنطقة العربية. كما تدعو الوثيقة إلى إحداث هيمنة تنسيقية ثقافية عربية وتأسيس صناديق للثقافة والإبداع ومستودع التراث الرقمي العربي وإطلاق شبكة من المؤسّسات والمتاحف والمنظمات المهتمة بحفظ التراث العربي وتوثيقه وتطويره.
تبدو هذه الأركان الستة في غاية الأهمية، كما أنّ مختلف المبادرات المقترحة في الوثيقة في وقتها وهناك حاجة كبيرة لتنفيذها، لكن تطبيق هذه الرؤية العربية، يستلزم حتمًا إرادة سياسة عربية موحّدة، ويتطلب تنسيقًا عربيًا مشتركًا وتجاوز الخلافات والنزاعات البينية وكذلك الابتعاد عن التجاذب الجيوسياسي الدولي وعدم السقوط في فخ التحالفات الدولية التي تكون ليست في مصلحة الشعوب العربية.
لا شك أنّ من أهم الشروط، ضرورة تجاوز المنظور الضيق للمصلحة القُطْرية، إذ يتعيّن تبني مقاربة تشاركية شاملة في تنزيل مقتضيات هذه الرؤية العربية. كما يتعيّن مواجهة تحدي حقيقي داخل كل قُطر عربي وهو الفساد وعدم التداول السلمي للسلطة في بعض الأقطار العربية. ويتعيّن حتمًا مواجهة ثقافة ترجيح منطق الولاءات عوض منطق الكفاءات، لأنّ تطبيق أركان الرؤية يفترض ذلك وإلّا فإنّ مصيرها الفشل.