العملية السياسية في العراق بعد التغيير فرضت واقعا انتخابيا على القوى السياسية فافرزت تحالف المكونات وغاب تأثير القوى الوطنية .
هذا الواقع لم يُنتج أغلبية سياسية لأي حزبٍ أو حركةٍ لوحدها، وإنما يًنتجُ حكومة إئتلافية تشارك فيها معظم القوى السياسية ،ونادراً مايتخلف حزب ٌ أو حركةٌ عن الحكومة،وهو أمرٌ لامثيلَ له إلا في العراق بعد 2003،فلا توجد معارضة برلمانية، ولكن الكل ينتقد الاوضاع ،وينتقد الخطط الحكومية ،وكانت سهام الانتقاد موجهةً الى رئيس الحكومة فقط،الذي لايمكن له إقالةَ وزيرٍ لفشله أو فساده أو تقصيره إلا بالموافقة البرلمانية المطلوبة وكانت أغلب النتائج لهذه الحالات هو إبقاء الامر على ما عليه ،فلايمكن الاقالة لانه سيخل بالاتفاق أو التحالف الذي تشكلت منه الحكومة ،كما إنه لم تكن هناك محاولة جدية لمحاسبة وزير أو مسؤول أدنى منه، وبعضها كانت مناورات فردية لقرص اذن رئاسة الوزراء ليس إلا أو العكس وبعدها يتم الاتفاق على أُمورٍ أُخرى .وهكذا كان الحال ومازال فالكل مشترك في الحكومة التنفيذية والكل ينتقدها في البرلمان و في الاعلام .
و الحكومات الائتلافية غالباً ما تكون ضعيفةً،ولاتستطيع أداء مهامها بسهولة، وهذا ما يجري في البلدان المستقرة سياسياً و أمنياً التي تمتلك مؤسساتها رسوخاً يؤهلها للقيام بواجباتها الملقاة على عاتقها ،فكيف بالعراق الذي لاتتوفر فيه ما ذكرناه أعلاه؟ بالاضافة لعوامل أُخرى معروفة للمتابع لا حاجة لذكرها فقد باتت من الواضحات للمواطن البسيط .
و اليوم عادت نداءاتٌ تدعو الى عودة التحالف الشيعي ،وبالعودة الى الوراء قليلا نجد أن هذا (التحالف) أُنشئ من تجميع الاحزاب الشيعية فيه لضمان رئاسة الوزراء منذ القوائم المغلقة إلى يومنا هذا ، ولم يكن تحالفاً رصيناً فبمجرد تشكيل الحكومة كان التحالف ينفرط عملياً ، ويغيب أدنى تنسيق ، وتجد أعضاء التحالف من الوزراء والمسؤولين التنفيذين تختلف مواقفهم عن الاخرين ، لقد كان تحالفاً من أجل تشكيل الحكومة وضمان المواقع التنفيذية فقط.فبالرغم من التغني بالأغلبية إلا أن هذه الاغلبية كان ادؤاها السياسي ضعيفا جداً ، ولم يحقق الاستقرار المنشود .وتعاد اليوم دعوات ٌ من أجل انبثاق تحالف (شيعي )مع مبرراتٍ جديدة ، وسوف نثير تساؤلات في محاولة لنقاش هذه الدعوات
ونحاول الاجابة عليها بموضوعية وفق المعطيات المتوفرة .
أولا :-هل هذه الدعوة هي عودة الى الوراء أم إعادة ترتيب الأحزاب والقوى الاسلامية وفق منظور عقائدي اسلامي .؟
ثانيا:-بعض المدعويين الى هذا التحالف من القوى والحركات أعلنوا برنامجاً وطنياً ،وبعض هذه القوى أعضاؤها من مكونات اخرى غير شيعية فكيف سيتم التعامل معهم ؟
ثالثا:- هل ستكون هذه الدعوة ايعازاً للاخرين بالتخندق الطائفي والقومي ؟وهي عودة للمربع الاول الذي لعنه الجميع .
وللإجابة عن هذه التساؤلات نذكر ما يلي
بعض المحللين يرى أن هذه الدعوات هي عودة لتوحيد الصفوف ضد من (أسس ) لتظاهرات تشرين التي انطلقت سنة 2019، والتي حاولت سحب البساط من الاحزاب الشيعية،حتى وإن جيء برئيس وزراء شيعي فهو لن يكون من افرازاتها ،وهو ماحصل بمجيء الكاظمي الى رئاسة الوزراء .
بينما يرى فريق آخر إن ايران تسعى لتجميع حلفائها في العراق للابقاء على نفوذها في العراق ،تحسباً لافرازات الانتخابات القادمة ،بالرغم من صعوبة تجميع القوى الشيعية مرة اُخرى لأسباب عديدة أهمها أن معارك التحرير أفرزت (قيادات) جديدة على الساحة السياسية تفرض حضورها بقوة السلاح الذي تمتلكه .
وتجد هذه (القيادات) أنها اولى بقيادة التحالف الشيعي أو أنها لاترضى بالتقسيمات السابقة، فظروف ماقبل 2014 تختلف كثيرا عن ظروف ما بعد 2018 ، وقد كانت نتائج الانتخابات الاخيرة دليلاً على حضورهم القوي ،بغض الطرف عما قيل عن التلاعب أو التزوير الذي حصل فيها .
وللاجابة على التساؤل الثاني نقول أن القوى الاسلامية الرئيسة في العراق وهما حزب الدعوة والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية (كما كانت تسميته سابقا) قد تخليا عملياً عن أي برنامج اسلامي في العراق واتجه حزب الدعوة الى تشكيل تحالف انتخابي أسماه دولة القانون ليكون واجهة لعمله السياسي ، ولكنه سرعان ما انتقلت زمام المبادرة للاعضاء الجدد في هذا التحالف على حساب أعضاء الحزب .
أما الطرف الثاني المجلس الاعلى للثورة الاسلامية فقد ألغى الشطر الاخير من تسميته ليصبح المجلس الاعلى فقط ، وينبثق بعدها تيار الحكمة ، ويبقى المجلس بشخوصه السياسية المعروفة.
وأما التيار الصدري فلم نجد له رؤية سياسية واضحة منذ تشكيله ،وحتى يومنا هذا ،وقد عارض منذ البداية فكرة البيت الشيعي الذي حاول المرحوم الجلبي تأسيسه ،بفكرة البيت الوطني .
وعلى هذه الاحزاب أو القوى السياسية وشخوصها أن تفك هذه الازدواجية وأن تؤسس لمنهج عمل ثابت ، يدفع إلى الاتزان بالاداء السياسي ، ومن ثم ينتج استقراراً للهوية ،وللعراق .
أما الاجابة على التساؤل الثالث يرى بعض المحللين إن هذه الدعوات ستدفع السنة مرةً أُخرى الى التخندق مقابل التخندق الشيعي ،وتقوي بعض القوى الكردية للدعوة الى الانفصال .
وبما أن امتداد التحالف الشيعي هو ايران ، فإن التحالف السني سيتجه الى الدول السنية ويعود التنافس الاقليمي في العراق وبطريقة مكشوفة هذه المرة .
إن خطورة هذه الدعوات قد تؤدي الى إحياء رؤية الاقاليم الثلاث ، وتقتل الدعوات الوطنية التي بدأت تتعالى هنا وهناك من أجل بناء الدولة العراقية من جديد.
وقد أخذت هذه الدعوات حيزا عمليا بعد توحد الجهود والطاقات في مواجهة تنظيم داعش الارهابي والانتصار عليه ، قد أعادت ثقة العالم بالقيادة السياسية للعراق .
إن دعوات إعادة التحالف الشيعي تبين شعور بعض السياسين بالانهزامية بالرغم من انتمائهم للاغلبية وعدم قدرتهم على الانفتاح السياسي ،وقيادة الجماهير لرؤية جديدة تفرض واقعاً جديداً .
وكل ذلك قد يكون سابقا لاوانه لنرى ما هي رؤية التحالف الجديد فيما لو تم تشكيله.
هل هي استفاقة من غيبوبة العشوائية السياسية طيلة الفترة الماضية،أم إن هذه الدعوة هي نضج سياسي بعد تلك التجربة المريرة؟.
تلك اسئلة وإجاباتها تنتظر الاداء السياسي لقادة التحالف الجديد.