اليمن.. والحسابات الإقليمية | بقلم مسعود أحمد بيت سعيد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
اليمن خزان بشري للجزيرة العربية وعمقها الاستراتيجي والحضاري واستقراره ضمانة للأمن الإقليمي، ظلت وحدة ترابه تثير هواجس غير واقعية في إقليم ما زال يغلب مصالح الخارج على مصالحه، و تراكمت الأخطاء ووجدت طريقها، وانهارت التجربة الوحدوية الارتجالية وما صاحبها من ردات فعل عالجت الخطأ بالخطئة.
ومرت الأيام تطحن كل شيء في هذا البلد العزيز حتى أحداثها الأخيرة التي سيّست بعيدا عن منطلقات الجماهير الشعبية وتطلعاتها، ويوجد مجال للمفاضلة بين أطراف الصراع على الأقل من الناحية الشكلية وفي العمق ليس لدى أي اطرف حتى الساعة مشروع إنقاذ وطني يمكن الالتفاف حوله. وإن كانت تطورات الأحداث وصيرورتها جعلت البعض أكثر تعبيرا عن طموح استقلالي، ولاشك طبيعة الصراعات وتحالفاتها تقلم بالضرورة أجزاء من القرار الوطني حيث ممولين دون شروط من المثاليات، وقد ينتصر طرف ويهزم آخر وتبقى الخيارات الجوهرية وثيقة الصلة بالمصالح الإقليمية المتناقضة والتي تغذي مصالح فئوية غير مجمع عليها وطنيا بحرب ودونها مما يبقي ممكنات الصراع قائمة.
لم يكن اليمن يوما بعيدا عن التأثير الخارجي؛ حيث نمت مصالح قبل وبعد ثورتي سبتمبر واكتوبر وأخذت وقتها الكاف من النضج السلبي ومن وقتها اقتربت وابتعدت عناصر الاتفاق والاختلاف بحسب مسار التجربتين وتطورهما وتغيرت الحسابات باتجاهات مختلفة رغم بعض التقاطعات نتيجة طبيعة القوى المسيطرة وتوجهاتها الفكرية والسياسية، ورغم الفوارق بين النهجين؛ حيث الجنوب يسعى لبناء دولة مدنية تقدمية بصرف النظر عن إمكانية ذلك في واقع إقليمي ودولي ينح باتجاه آخر وما رافقها من هفوات بينما تكرست مبكرا المحاصصة القبلية والطبقية بقوة في الشطر الآخر حيث تحالفاته واختياراته ترسم على أساس ديمومة تطور بناها التقليدية المتوافقة في خطوطها العريضة ومعظم تفاصيلها مع المحيط العربي الأقرب، الأمر الذي مهد للاختراق المستمر المنضبط بمحركات الصراع الأشمل عربيًا
ظلت الوحدة اليمنية محور حوارات مستمرة لم تتوقف يوما منذ سقوط الحكم الملكي الكهنوتي وبزوغ فجر التحرر من الإستعمار البريطاني الذي جثم 130 سنة على اليمن، وأبقى خلالها الجنوب في حاله من التخلف والتجزؤ عقود طويلة والذي لم يكن بعيدا عما يجري في الجزء الآخر من الوطن وحتى تحقيقها بتلك الطريقة المتسرعة التي ردمت قسرا معوقات موضوعية وذاتية، وجسرت فجوات واسعة دون أن تأخذ حيزها من التحليل المعمق وهي سمة مشتركة لم تنج منها التجارب العربية التي ذهبت بعيدا في خياراتها الإستراتيجية لتعود إلى المربع الأول بعد سنوات عجاف محملة بخيبات وإحباطات أثمانها النيل من حلم تاريخي، بادر المحيط العربي إلى إعادة تموضعه على الخارطة السياسية اليمنية عنوة حيث غرق في أتون مقبرة تاريخية لم يخرج منها منتصرا، والذين لا يملكون مشروعا وطنيا سياديا لن يشكلوا محفزا للآخر مهما بلغ حجم الضخ المالي وهو ما تأكد بالملموس بعد كل هذه السنين، وحيث ترتيب الإقليمي العربي كلا لا يتجزأ مهمة قومية غير متوفر حواملها السياسية والتنظيمية وهو أمر دونه لا يعرف اليمن أو غيره الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والرسميات العربية وتحالفاتها الطبقية والتكنوقراطية لا تتعظ من التجارب وتعميمها المصالح الصغرى وأصبحت مطية تغطي مشاريع الخارج، حين تفلسف وتسوق عناصر التفرقة مما يفسح في المجال لتعزيز حالات الاستقطابات المحمومة استعدادا لانبلاج عالم جديد بدأ يتشكل إثر احتمال سقوط هيمنة القطب الواحد، والذي لن يكون فيه للكيانات المجزأة مكان.
هل الوقت قد أفل لدفن أحلام الأجيال السابقة؟ أم أن هناك إمكانية أخرى تصنعها أجيال الغد بأدوات عصرها؟ لقد أعطت التجارب المرّة دروسا ثمينة وما زال الطريق شاقًا وطويلًا وحيث شقت التدخلات القريبة والبعيدة أخدود كبير في الجسد الاجتماعي يتطلب للخروج منه إرادة وطنية ويبدو لم تحسم الخيارات السياسية، وشكّل المستقبل القادم بانتظار نضج المصالح الفئوية وارتباطاتها، واليمن الموحد بصيغة حديثة تعددية ديمقراطية مشروع يستحق تتغليبه في كل الأحوال والظروف.
رغم مرارة الممارسة السابقة وما تولد في النفوس من مشاعر الألم، ملفت المشهد بكل أبعاده ويحمل في طياته بعدا غير مستشرف بشكل واضح، والروابط التاريخية الإستراتيجية المتجذرة بعمق في الوجدان الشعبي لا تخضع للأمزجة والحسابات الضيقة وحيث الواقع لا يعرف السكون، فإن الحوار الوطني الشامل هو طوق النجاة لليمن ولكافة الأقطار العربية.