بين الأديب والمؤرخ شكرًا نجيب محفوظ… | بقلم علي الهماشي
من فوائد برنامج (التك توك) إنك تطلع على مقاطع قصيرة لأحاديث مهمة لهذا المفكر وذاك الأديب، وحديث لشخصية سياسية أو اجتماعية، و تستمع مقولةً لأحد الفلاسفة أو أحد المفكرين، وهكذا يتحول هذا التطبيق الى أمر مفيد بجانب الترفيه الموجود.
هذه الأحاديث القصيرة والمركزة تدفعك إلى مدى أبعد في البحث والتقصي، وهو ما جعلني متابعًا أو (مدمنًا) على هذا التطبيق حسب تعبير أقرب المقربين إلي !.
وجاء شكري لنجيب محفوظ بعد أن اطلعتُ على إجابته لمقدمة اللقاء عن السؤال “ما الفرق بين الأديب والمؤرخ “؟، فكان جوابه مقنعًا (نوعًا ما )، وأنا أتفهم أنَّ الكلام الشفاهي قد لا يعطي كل الثمار المرجوة التي تأتي به الكتابة، ولكنَّ كلامه أثار فيَّ غريزة البحث والكتابة عن الموضوع، و سأتناول الأمر فيما يخص العراق وأثر المؤرخ والاديب فيه.
مقدمة بسيطة :
لم يكن النظام في العراق دمويًا فحسب ولم تكن ايدلوجيته مبنيةً على أُسسٍ صحيحةٍ ممكن لها أن تلتقي مع تاريخ العراق ..
ولهذا حاول ميشيل عفلق، ومن بعده منظري حزب البعث وأركان النظام البائد إقحام مفاهيم غريبة في الثقافة العراقية، وحاولوا أن تتسلل الى بنيته المجتمع او لنقل الى الى منظومة المجتمع الأخلاقية عن طريق التطبع بها، والعمل على إفراغ الذاكرة العراقية إلا بما يتلائم مع المنهج الذي رسموه، ومن أجل ذلك مارس النظام البائد تضييع و تحييد دوري المؤرخ والأديب العراقي، وبذلك شوهوا تم تشويه ذاكرة المجتمع العراقي، وهي ضمن سياسيته المرسومة في قولبة المجتمع، وزرع وعي لا ينفع إلا النظام .
وسنأتي لذلك في نهاية الحديث، ولكننا يجب أنْ نطلع على مهام الأديب والمؤرخ فهما من أخطر المهام في المجتمع، حيث تتداخل الوظيفتين فيما بينهما، وسميتها بالوظيفة التي لا أعني بها تقاضي الأجر، ولكن لكل تخصص وظيفة يؤديها في المجتمع ويكون مسؤولًا عنها، ولهذا جاء تعبيري عن مهام الأديب والمؤرخ بالوظيفة.
وكما جرت العادة سأنتقل لأتناول المعنى اللغوي والمفهوم الشائع لهاتين المفردتين ثم أُحاول مناقشة الموضوع أديب، وأُبين فهمي لمهام الأديب والمؤرخ، ولنتعرف أولًا على المعنى اللغوي للأديب والمؤرخ .
فالأديب لغةً هو :”من يُبدِع في مجال الأدب من شعر ونثر ..” .
أما المؤرخ فهو :” يفسر الأحداث التاريخية بعد البحث عن حقائقها وكشفها والتثبت منها “.
و لابد للمؤرخ أن يعيش مع الحدث وفق منهجية علمية ورؤية نقدية تمكنه من تسجيل ملاحظاته على المقطع الزمني الذي يتناوله في مختلف ظروفه وفق إطار تحليلي موضوعي، وبمعنى أخر عليه أن يؤرخ بتجرد !!.
و المؤرخ يختلف عن عالم التاريخ الذي يعتني بدراسة التاريخ ويسلط الضوء على الاحداث الكبرى فيه.وهناك رابط وثيق بينه وبين علم التاريخ الذي هو “دراسة منهجية متخصصة في التاريخ، بالاضافة الى جملة من الأعمال التاريخية المتعلقة بموضوع معين ” ولهذا يختلط عمل المؤرخ بعالم التاريخ ولا أتحرج ان قلت إنَّ قلت :إنَّ كل مؤرخ يجب أن يكون عالمًا بالتاريخ وليس بالضرورة أن يكون كل عالم بالتاريخ مؤرخًا.
كما إن بعض الناس أرخوا لمقاطع تاريخية عاشوها فهؤلاء كتبوا سيرتهم والمرحلة التي قضوها ولا يمكن أن نصفهم بالمؤرخين .
والمؤرخ لا ينقل لنا الحدث التأريخي مجردًا بل يطلعنا على ظروف الحدث وملابساته مستخدما أدوات اخرى بجانب الأدوات التاريخية .
كما أن الأديب، ومنه كاتب القصة والرواية لم يتخصص معظمهم في كتابة الرواية التاريخية، و مَنْ تتناول روايته الأحداث التاريخية الماضية يجب أن يكون فيها ملتزمًا بدقة الأحداث، و إلا دخل في خانة التزوير وان كتب عن مجتمعه المعاصر .
والأديب ينقل لنا مشاهد البيئة التي فيها يصور قصته وبها نفهم ثقافة تلك البيئة وأجواءها وسلوك أفرادها في الاجراء السائدة .تقسيم الاديب الى اديب ملتزم وأخر غير ملتزم، فالأديب الملتزم هو “الذي يعيش عصره ويستمد من مجتمعه بصفة تلقائية عناصر إنتاجه لتكون مرآة للواقع الذي تحياه أُمته”، فمن كتب خارج هذه الأدوات وأقحم في روايته ما لا يمت للمجتمع بصلة فقد(خان) أو لنقل إنه غير ملتزم ويعيش الفنتازيا !.
ماهي العلاقة بين الأديب والمؤرخ ؟
لعلي اقتبس هنا جواب الأديب نجيب محفوظ (بتصرف ) وبما ينفع الموضوع، وبعدها أضع ملاحظاتي على ما أجاب، بما أفهمه عن دور المؤرخ والأديب ومهامهما منفردين وبماذا يشتركان، أو كيف يتعاونان في حفظ الذاكرة الإجتماعية وأقصد بها هنا (الذاكرة العراقية ) مع افتراضي أن كلاهما سيكونان موضوعيان ولا تنعكس أحكامهما المسبقة على ما يتناولونه، لأني وجدت فيما كتبه مَنْ دَوَّنَ للتاريخ العراقي أن وضع (رؤيته ) في سرد الحوادث التاريخية بأن يوجه القارئ بالاتجاه الذي يريده المدون وهي بنظري (خيانة) للمجتمع الحاضر وتشويه للذاكرة، أو بمعنى آخر إنه ادخل رأيه في القضية التاريخية وكأنها رأي الراوي أو الشخصية التاريخية التي تناولها.
لكن دعونا نقرأ أولا ما قاله المرحوم الأديب نجيب محفوظ ونناقش مقولته التي سأنقلها وبحسب المفيد منها :” المؤرخ عالم ملتزم بمنهج علمي يبحث في المراجع والوثائق بموضوعية كاملة ليصل الى الحقيقة التاريخية، والأديب يكتب عملًا فنيًا المقصود فيه امتاع الناس وقد يتصل عمله بالتاريخ أو لا بتصل، وفي القصة التاريخية يكاد يختلط فيه القصاص بالمؤرخ، فالغالب هنا أن يعيشك في مقطع تاريخي، فمثلًا عندما يتناول قصة في زمن معاوية بن أبي سفيان يدرس التاريخ ويدرس المجتمع الأُموي والشخصيات البارزة و(حدوته) صغيرة بجنبها، فهنا الكاتب يختلط عمله فالمؤرخ يدرس ليدون ويعرف الحقيقة وأنا كذلك فالكاتب 80%مؤرخ و 20% فنان، وليس كل التاريخ هكذا في الاسلوب و طريقة العرض، فهناك تلريخ يخلق القصة كما هو عصر (محمد علي باشا) … الى اخر حديثه”
وحسنًا فعل المرحوم نجيب محفوظ حين اشترط الموضوعية في صُلب عمل المؤرخ، وهي ذاتها المطلوبة في عمل الاديب الذين يتناول الروايات التاريخية البعيدة والقريبة وحتى المعاصرة .
ومما ينبغي ذكره أنَّ عامة الناس عندما تقرأ الرواية التاريخية تجد في تصورات الكاتب حقائق مسلمة وتتخذها مصدرًا لها، سيما إن تم تحويلها الى عمل سينمائي أو تلفزيوني .
فالأديب هنا سينقل لي أحوال البيئة التي تناولها من ابتداءً من أسلوب المعيشة الى الثقافة المتداولة الى سلوك الناس حتى تصل الى ذهني صورةً كاملة عن ذاك المقطع الزمني الذي تناوله، ولهذا قد يكون الاديب مصدرًا للحدث التاريخي كما هو المؤرخ، وقد يترجم الاديب ما نقله المؤرخ، فهو يستعين به في الاحداث التاريخية القديمة أما في الاحداث التاريخية المعاصرة فأجد أن الأديب يستغني عن ذلك، كما فعل نجيب محفوظ في رواياته التي تناولت الحارة و صورت المجتمع المصري في بدايات القرن الماضي، ولهذا علقت في أذهان المتلقي (سي السيد) مثلًا ..
وعليَّ أن أنتقل سريعا الى الواقع العراقي بعد أن ألزمت نفسي بالحديث عن الأديب والمؤرخ العراقي وأبدأ بالتساؤل التالي :
هل لدينا مؤرخون وأُدباء !؟
قد يُعتبر هذا التساؤل استفزازيًا نوعًا ما، ويثير حفيظة المؤرخين والأدباء وسمعت إنَّ لكليهما (جمعية) في بغداد وهو أمر أعتبره نقطة ضوء، ويحد من كتابتي قليلًا، و قد تعودت أن لا أُهاجم أحدًا أو أغمط حقه، بل أني أتبع منهج الاثارة دون التعريض بهذا أو ذاك .
ولعلي وضحت الإجابة عن التساؤل أعلاه فيما مارسته أجهزة النظام البائد في تحييد دوري المؤرخ والأديب على حد سواء .
لكنني افتقد للمؤرخ المؤثر في المجتمع العراقي بحيث تتجه اليه الانظار، وهذا يعود الى طرفين اولهما المؤرخ والثاني هو النظام السياسي في العراق، فما زالت الفوضى و الصدفة هي الحاكمة على توجهات من تصدى، ويتصدى للمشهد السياسي، فلم أجد حتى هذه اللحظة توجهًا مدروسًا لعملية أرشفة منهجية تستعين بالمؤرخين الموضوعين، ومازالت الذاكرة العراقية مشوهة، وما زلنا أُسراء لمؤرخين (غير موضوعين ) كتبوا وحللوا وفق ايدلوجية معينة، حتى استغربت من الثناء على من اطلقوا عليه مؤرخ قومي !!.
وليس من طبيعتي ذكر الأمثلة لأننا نغرق فيها .
كما أنني لم أجد أثرًا لروايات تاريخية تناولت العصر القديم أو الحديث، وقد شوه النظام البائد صورة ثورة العشرين من خلال طمس أسبابها وحيثياتها ونسبها الى شخصيات لم يكن لها دور كبير في هذه الثورة ..
كما أنني لم أجد أعمالًا ادبية تناولت البيئة العراقية في عشرينات القرن الماضي، وكمواطن أشعر بفراغ كبير عن ذلك، باستثناء لقطات من الشعر الشعبي أو القريض الذي تناول قصة حب هنا أو هناك يُستشف منها الأجواء السائدة في الزمن الذي صوره الشعر .
أن الفراغ الحاصل لا تقع مسؤوليته على المؤرخ والاديب فقط، وانما يشترك فيها النظام السياسي أيضا، فقد كان النظام السابق (يزور ) ويحرف الحقائق وهذا النظام السائد (يهمل) ونقع بين محنتين، بل إنَّ هذا الاهمال لم يترك الاخرين مكتوفي الأيدي بل أطلق لهم العنان في ظل الأجواء السائدة، وسرعة نشر المعلومة !!.
وفي كل العالم يتم دراسة تاريخ المجتمع عن طريقة أدوات معنية يشترك فيها المؤرخ والأديب، ويأتي عالم الاجتماع ليضع تصوراته عن حركة المجتمع وأثر هذه الظاهرة في هذا المقطع الزمني أو ذلك .
ومع الاسف أننا امام نقص معرفي ممنهج لتاريخ مجتمعنا العراقي ولحركته، حتى نتفاجئ بإرهاصات وظواهر لا نستطيع فك أدواتها، لأننا لا نستندُ الى قواعد علمية ثابتة.