الاحدثالشرق الاوسط

حِينَ تَفقُدُ الشعاراتُ معناها: من النضالِ إلى الطقوسِ المُطَمئِنَة | بقلم د. بيار الخوري

غالبًا ما بتنا نُصاب، نحن العرب، بالإرهاق عند مواجهة مصطلحات مثل “الوحدة” و”الصمود” و”العروبة” و”الاشتراكية” و”مناهضة الإمبريالية” وحتى “النصر”.

لقد استَخدَمَت الحركاتُ الثورية والجهادية والأنظمة العربية، التي اصطُلِحَ على تسميتها بالراديكالية، هذه الشعارات تقليديًا كرموز للنضال والاستنهاض، لكن ببعضِ التحفُّظِ يُمكِنُ النظرُ إليها الآن كطقوسٍ بلاغية تُرَدَّدُ في كافةِ الظروف والحالات والازمنة.

المُفارَقةُ المؤلمة أنَّ بعضَ هذه الشعارات، حين تُرفَعُ اليوم، تُطَمئِنُ الخصمَ أكثر مما تُقلقه. فالتاريخ القريب والبعيد أظهر، بما يكفي من الأدلّة، أنَّ كثرةَ تردادِ هذه العبارات لا تعني بالضرورة قوّةً في الموقف، بل قد تكونُ غطاءً لضُعفٍ معرفي، أو تبريرًا لجمودٍ سياسي، أو حيلةً لإخفاءِ غيابِ الرؤية.

تظلُّ المبادئ الأساسية التي تقومُ عليها هذه القِيَم نبيلة، وإن بدا رفعها بشكلٍ مُستَقلٍ غير صحيح. بل على العكس تمامًا: فقد نشأت هذه الشعارات من قضايا مشروعة، وارتبطت بنضالاتٍ واقعية خلال المراحل المفصلية من التاريخ العربي.

تتضّحُ المشكلة عندما يَفقُدُ الشعارُ معناه الحقيقي، ويتحوّلُ إلى رمزٍ فارغ، يَنفَصِلُ عن الفعلِ الهادف، ويُستَخدَمُ لكبتِ التطوُّرِ الطبيعي للمجتمع.

شكلت هزيمة العام 1967 نقطةَ تحوُّلٍ مهمّة أظهرت بوادرَ هذا الانفصال. وُعِدَت الشعوبُ العربية بالحرية والكرامة، لكنها وجدت نفسها تُواجِهُ خسارةً فادحة كشفت عن واقعها الحقيقي. في تلك الحقبة، انتقدَ المُفَكّران صادق جلال العظم وياسين الحافظ الأداءَ السياسي والإطار الفكري الذي سانده، والمصطلحات الإيديولوجية التي غطّت تناقُضاته. وأكّدَ المُفكِّران أنَّ للهزيمةِ أبعادًا عسكرية وتداعياتٍ فكرية، لأنَّ الشعوبَ استساغت هذه الشعارات لتجنُّب مواجهة نفسها فيما استخدمتها القوى المُسَيطِرة لاعادةِ إنتاجِ شرعيتها.

شهدت الفترةُ، من سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، تحوّلاتٍ أكثر تعقيدًا. أصبحت القوى التي تعتمد تلك الشعارات أكثر مهارةً في استخدامِ هذه الشعارات للحفاظ على قوّتها الداخلية بدلًا من إلهام العمل على المهام الوطنية التاريخية. باسم “المعركة الكبرى”، سُحِقَت معارك أصغر: حرية التعبير، والعدالة الاجتماعية، وبناء الدولة. لقد أَجَّلَ السعي وراء “الأهداف الكبرى” العديدَ من التغييرات التي أدّى غيابُها إلى زعزعةِ أركانِ أوطانٍ بكاملها.

تتجلّى الفجوة القائمة بين الوعودِ المَنطوقة والنتائج الفعلية بوضوح في الفرق بين الشعارات والمآلات العملية للتشبُّث بها والوقوف عند حدودها حصرًا . لم يَعُد هناك وعدٌ مجتمعي مُحدّد يشتقُّ من التعبيرات القوية.

فهل تحوّلت الشعارات طقوسًا مُطَمئِنة تُعيدُ إنتاجَ العلاقة بين هذه القوى وجمهورها… والأنكى مُطَمئِنة لأعدائها، طالما أنها تُواجِهُ مجتمعاتٍ فقدت الديناميات اللازمة للتطوُّر؟

وهل تحوَّلَ الغرضُ الحقيقي من هذه الشعارات من توفيرِ عُمقٍ استراتيجي للتغيير إلى توفيرِ منطقةِ راحةٍ للمُتَمَسِّكين بلغة “تصلح” لكلِّ الظروف بدونِ وَعدٍ للمستقبل؟

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى