سوريا: كلُّ كيلومترٍ بعُقدَة | بقلم البروفسور بيار الخوري
سيطرة ُالفصائل المُعارِضة المدعومة من تركيا على مدينتَي حلب وحماة لم تَكُن مجرّد تطوُّرٍ عسكريٍّ فحسب، بل نقطةُ تحوُّلٍ تكشفُ عن تداخُلِ المصالح الإقليمية والدولية، حيث يخلقُ كلُّ تطوُّرٍ عسكريٍّ على الأرض عُقدةً سياسيّةً جديدة بين القوى المُتَوَرِّطة في الصراع السوري. هذا التقدُّم، الذي يُعَدُّ ضربةً استراتيجيةً ضد نظام بشار الأسد، أوجَدَ مُعادلاتٍ جديدة تُهدّدُ بنَقلِ الصراعِ إلى مستوياتٍ أكثر تعقيدًا، خصوصًا مع اقتراب المواجهة في حمص، التي تُمثّلُ محورًا استراتيجيًا بالغ الأهمّية.
تركيا، التي دعمت تَقدُّمَ المعارضة، أصبحت الآن في مواجهةٍ غير مباشرة مع إيران وروسيا، حليفَي النظام السوري. سيطرةُ المعارضة على حلب وحماة تُهدِّدُ بتحويلِ ميزان القوة لصالح أنقرة، الأمر الذي يُثيرُ قلقَ موسكو وطهران. بالنسبة إلى روسيا، فإنَّ كلَّ مترٍ تفقده قوات النظام السوري يُعقّدُ حساباتها في الحفاظ على قواعدها العسكرية ومصالحها الجيوسياسية في سوريا. إيران، من جهتها، ترى في هذا التطوُّر تهديدًا مباشرًا لممرّها الاستراتيجي نحو لبنان، ما يدفعها إلى تكثيف تحرّكاتها العسكرية والسياسية لمنع خسارة حمص، بوصفها حلقة وصل رئيسة.
أما بالنسبة إلى إسرائيل، فإنَّ هذا التقدُّم يخلقُ ديناميكية مختلفة تمامًا. سيطرةُ المعارضة المدعومة من تركيا على حمص تعني تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو تطوُّرٌ يتماشى مع المصالح الإسرائيلية. ومع ذلك، فإنَّ أيَّ اقترابٍ تركي-معارض من دمشق يفتح الباب أمام احتمالات تدخُّلٍ إسرائيلي مباشر أو غير مباشر لضمان عدم استبدال النفوذ الإيراني بنفوذ تركي يُهدّدُ التوازنَ الأمني في جنوب سوريا.
الأكراد، بدورهم، يرون في هذا التوسُّع التركي تهديدًا مزدوجًا لمكتسباتهم. مع كلِّ تَقدُّمٍ للمعارضة المدعومة من تركيا، يُصبحُ وضعهم أكثر هشاشة، مما يدفعهم نحو خياراتٍ صعبة بين تعزيز تحالفاتهم الحالية أو إعادة ترتيب أوراقهم مع النظام أو حتى مع المعارضة. العُقدة هنا تتجسّدُ في كيفية موازنة الأكراد بين حاجتهم للبقاء في مناطقهم التاريخية وبين تفادي الوقوع في عزلةٍ سياسية قد تتركهم بلا داعم.
أمّا الدول العربية، وخصوصًا السعودية والإمارات ومصر، فإنَّ توسُّعَ تركيا في سوريا يُعقّدُ حساباتها الإقليمية. كلُّ انتصارٍ عسكري لأنقرة في سوريا يُعتَبَرُ تقويضًا للنظام العربي الذي تُحاولُ هذه الدول تعزيزه. العُقدة هنا تَكمُنُ في التوتّر بين الحاجة إلى دعم النظام السوري لضمان استقراره، وبين معارضة وجود نفوذ إيراني أو تركي مُهَيمِن في سوريا.
في هذا السياق، تُصبحُ حمص هي العُقدة الكبرى التي ستُحدّدُ المسار المستقبلي للصراع. سيطرةُ المعارضة على حمص ستخلقُ مواجهةً سياسيةً شاملة بين كلِّ الأطراف، لأنَّ فقدان نظام الأسد لها يعني إعادة صياغة كاملة للنفوذ الجغرافي والسياسي في سوريا. هذا التطوُّر قد يدفع روسيا إلى زيادة تدخّلها العسكري، وإسرائيل إلى تكثيف هجماتها، والدول العربية إلى تكثيف دعمها للنظام السوري، في حين أنَّ تركيا ستسعى إلى تثبيت مكاسبها بأيِّ ثمن.
الخلاصة، إنَّ كلَّ تطورٍ عسكري في سوريا لا يُنظَرُ إليه بمعزلٍ عن تعقيداته السياسية. كلُّ كيلومترٍ تتقدَّمه أيُّ قوة على الأرض يولِّدُ عُقدةً سياسية مع قوة إقليمية أخرى، ما يجعل الصراع السوري ليس مجرّد حربٍ على الجغرافيا، بل سلسلة من المواجهات السياسية العميقة التي تُعيدُ تشكيلَ توازنات المنطقة.
ولكن، ماذا عن موقف الولايات المتحدة وأوروبا؟
الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى تحليلٍ مُستقِل نظرًا لعلاقته بالصراع مع الصين.