عندما تمتزج المستديرة برعونة “السياسة” | كتب خالد بوفريوا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
خلف خط التماس لا يوجد شيء / جاك دريدا
إنها الشعبية المعولمة الجارفة التي تحكمها قواعد “البزنس” و الإحتراف و الإرتباط الوثيق بمنظومة مركبة اجتماعيا و سياسيا و سيكولوجيا، فداخل حدود المستطيل الأخضر الكبير تنعكس كل التطورات السياسية و الإقتصادية و الأمنية في العالم، بمعنى آخر؛ لدينا قصة سياسية في كل ما يحدث بملاعب الساحرة المستديرة، لا تخفيها مهما حاولت تلك الجملة المنافقة “إنها مجرد لعبة”.
فكيف نفهم الزواج الكاثوليكي الذي لا طلاق فيه، بين “براءة المستديرة” و “رعونة السياسة” ؟
إنها “الحرب” الوحيدة التي تنتهي بالعناق و تبادل التحايا دون مفاوضات ديبلوماسية أو قرارات أممية و هنا مكمن الغرابة، يسترسل (درويش) واصفا سحر عيون المستديرة : ” كرة القدم .. ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج؟ وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة، ويسري في الجسد والنفس كما لا تسري حماسة الشعر والنبيذ، واللقاء الأول مع امرأة مجهولة؟ وكرة القدم هي التي حققت المعجزة خلف الحصار، حين حركت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف، ومن الضجر”. هذا السحر الذي جعل (القذافي) يتساءل في الفصل الثالث من الكتاب الأخضر : لماذا يلعب 22 لاعبا كرة القدم بينما يتفرج عليهم الألاف من “المغفلين”؟
إنها “الكذب” على حد تعبير (أمبر توإيكو) رغم زيفها و سطحيتها تؤخذ على محمل الجد، و تكون لها أحيانا عواقب خطيرة، حيث تحدد بعض مسارات التنافس الإجتماعي و السياسي و الإقتصادي و الثقافي و الإعلامي و ترتبط بالقوة و الهوية. سحرها الذي لا ينضب جعل (إدوارد جوليانو) يتساءل : أهي أفيون الشعوب ؟ ليستعيرها محل “الدين” وفق التصور الماركسي الذي أراد به تعرية توظيف الدين في إلهاء عقول _من هم تحت_ كي لا ينتفضوا مطالبين بحقوقهم. يسترسل (جوليانو) قائلا : عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المصابة بمس كرة القدم تفكر بأقدامها، وهذا من خصائصها، وفي هذه المتعة التبعية تجد نفسها، فالغريزة البهيمية تفرض نفسها على الجنس البشري و الجهل يسحق الثقافة، و هكذا تحصل الدهماء على ما تريد. إنها حالة من الطوباوية كتلك التي كان يمنحها الخاطفون المنتمون لحركة TupacAmaru الثورية، الذين اقتحموا السفارة اليابانية في العاصمة البيروفية عام 1996 لرهائنهم كي ينسوا مأساتهم بعض الوقت، حين يلعبون معهم الكرة في مكان الحصار، فبينما كانت عيون العالم حائرة في تحديد مصير الرهائن، فإذا بالصور التي إلتقطتها طائرات الهليوكوبتر المحاصرة للسفارة تبين أن الخاطفين يلعبون مباراة كرة القدم مع المحتجزين في الحديقة الخلفية للسفارة.
كرة القدم عقدة إخضاع الجماهير لدى الأنظمة العسكرية و أقليات الإستبداد السياسي، فعلى مر العصور، الرومان إستغلوا مباريات مصارعة الإنسان للحيوانات العنيفة و المثيرة بهدف ضبظ و كسب ود الجماهير و ضمان ولائها، وبما أن هذا الشكل الترفيهي لم يعد موجودا فقد عوضته كرة القدم. _هناك نماذج في التاريخ لسنا في محل استعراضها_ يقول صاحب كتاب “المتلاعبون بالعقول” في هذا الصدد :
(أن الرياضات وضمنها كرة القدم من حيث الجوهر عنصر لا يمكن فصله عن صناعة متكاملة للوعي الجمعي تتكامل مع عدة وسائل من بينها الإعلام والثقافة والفن، تضخ ألوانا مختلفة من الرسائل المحملة بقيم غايتها الأساس خلق حالة من الهوس الجماعي والهروب من الواقع المرير والتنفيس عن الكبث والحرمان والقهر، علاوة على شحذ المشاعر الوطنية وإيجاد مساحة للتعبير عن الفرح وتسويق صورة مميزة للعالم الخارجية، والحصول على نشوة بتأثير شبيه بأثر تعاطي المخدرات على العقل). ويكفي الإطلاع على فحوى وسائل التواصل الإجتماعي حتى تعي جيدا أن فوز منتخب قومي “قطري” إنجاز تكلل له الزغاريد و تقرع له الطبول و تنشرح له الأفئدة، بينما خروج ذات البلد من تصنيفات عالمية في التنمية أو التعليم أو العدالة الإجتماعية أو الصحة أمر عادي لا يشغل بال أحد. ولولا وجود قابلية ذهنية لدى الجماهير المفقرة، المجهلة، المسلوبة، الموبوءة بذهنية القطيع لما كان لهذه السياسة أن تنجح وعليها يمكن فهم حالة الإنفاق السخي المبالغ فيه فيما يتعلق بالتمويل والرعاية الرسمية والإهتمام الإعلامي بأدق تفاصيل لهكذا أعراس كروية.
شكلت المستديرة منذ إنطلاق كأس العالم سنة 1930 _قبل تسعين سنة تقريبا_ دهليز من دهاليز رعونة السياسة، فاللاعبون هم الدول و أجهزة المخابرات و الدكتاتوريات و مدة المباراة أيام أو أسابيع و ربما سنوات، علاقة حب و كره يتعايشان ويستفيدان من بعضهما. المدلول السياسي حاضر في كل شيء، كل شيء داخل بوتقة 90 دقيقة رمز لحكم الأقلية و الفوضى، عالم المستطيل الأخضر وما بين خط التماس كل شيء يتطابق مع الجوهر المركز للسياسة، كليهما قائم على بنية الصراع و بطولة الكأس تتطابق مع الصراع الصفري في السياسة، أما بطولة الدوري فتشبه التنافس المتعادل أو المتعدد الأقطاب.
ختامًا، فإن المعالم التى تربط السياسة بكرة القدم تنبع من ثلاثة أشياء:
الأول: أن العملية السياسية تبدو معقدة للغاية، نظرًا لتداخلها الشديد مع بنيوية حقول معرفية ونشاطات إنسانية أخرى.
الثانى: أنها عملية تتسم بالشمول، إلى حد كبير، إذ إن كل النشاطات البشرية قابلة للتسييس، عندما تدخل فى صميم اهتمامات السلطة السياسية.
الثالث : هو أن كرة القدم لم تعد لعبة، بل عملية اجتماعية واقتصادية وسياسية وفنية متكاملة، إلى جانب كونها مباراة رياضية.