لماذا لا نتعلم كعرب من السودان روح التسامح؟ | بقلم معن بشور
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في كل مرّة كنت أزور فيها السودان الحبيب، التي تربطني منذ أيام الدراسة الجامعية علاقات وطيدة مع العديد من أبنائه الذين أصّروا على اعتباري عضوًا فخريًا في رابطة طلبة السودان في لبنان في أواسط ستينيات القرن الماضي، كنت ألمس أمرين أساسيين أولهما وطنية عالية لدى الشعب السوداني نابعة من إيمانه العميق وارتباطه الوثيق بأمّته وقضاياها، ثانيهما روح تسامحية عالية تجعلك تلتقي في مجلس واحد مع سودانيين من مشارب عدّة يدور بينهم نقاش صريح لكن هادئ.
وحين قرأت نص رسالة مفتوحة من السفير ووزير الخارجية السابق الدكتور الدرديري محمد أحمد إلى سفير الولايات المتحدة الأمريكية الجديد في السودان بعد قطيعة دامت منذ عام 1998، أرسلها إليّ عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي الدكتور محمد حسب الرسول، قفزت إلى ذهني مباشرة صورة السودان المتجذّر في وطنيته وإيمانه واستقلالبته ورفضه للهيمنة الاستعمارية وسياسة الكيل بمكيالين التي تعتمدها واشنطن، كما السودان الديمقراطي الأصيل المتسامح في علاقات مكوناته مع بعضها البعض، ورأيت أن أعيد نشر فقرة من تلك الرسالة عن صورة من تسامح السودانيين بين بعضهم البعض، علمًا أن الرسالة كلها تستحق التعميم لمستواها الراقي ورؤاها الثاقبة وعرضها الشامل لمحطات هامة في تاريخ السودان.
وفيما يلي نص المقطع الذي رأيت أن نذكّر أنفسنا به ليخرج بعضنا من ثقافة الحقد والكراهية التي تدّمر روح الوحدة والتسامح في مجتمعاتنا.
“في المقابل، فلتعلم يا سعادة السفير ان الرياضة التقليدية المفضلة لدينا تسمى “شَدّت”. وهي رياضة تمارس في طول البلاد وعرضها. غير انها على جمالها وامتاعها لم تجد من يُعنى بها فيضبط قواعدها وينظم منافساتها مثلما فعلتم انتم مع كرة القدم الامريكية. المطلوب من اللاعب في هذه الرياضة ان يعطل رجلا ويدا قبل ان يدخل الملعب. فيمسك قدمه اليمنى بيده اليسرى ولا يجوز له افلاتها. فمنازلة الصديق والنديد عندنا لا تكون بكامل القوى الجسمانية وانما بنصف القوة. ولا يعلن قائد الفريق في “شدّت” انطلاق اللعب، بقول كلمة “حارّة”، الا بعد تأكده من ان جميع اعضاء الفريق قد استقاموا ممسكين قدما بيد. فاذا ما انفلتت رِجل احدهم اثناء اللعب ولو للحظة اعتبر “ميّتًا” وخرج من الميدان. هذه اللعبة هي بنت المزاج السوداني المتريث والمتلطف الذي تشكل على نارهادئة على مدى ثلاثة الاف عام. فاذا فهمت يا سعادة السفير هذا المزاج تدرك لماذا ادرنا حروبنا الاهلية بغير ضراوة زائدة. بل ادرناها بغير مرارات. واذكر جيدا ان المراقبين الاجانب لمفاوضات السلام كانوا ليعجبون من عناق الغرماء السودانيين بعضهم بعضا.
واذكر كذلك ان أليجا مالوك القائد الجنوبي المقرب للدكتور جون قرنق قد سؤل ذات مرة، ابان مفاوضات السلام بكينيا (وبُعيد اختطاف مخابرات دولة اوروبية اسيوية لاحد الخارجين عليها من نيروبي)، عما اذا كانت حركته تخشى من اختطاف قرنق او قتله في نيروبي. فقال جازما لن يحدث ذلك بل هو مستحيل! ثم اضاف ان السودانيين يتقاتلون بشرف في الميدان لكنه لا يطعن بعضهم بعضا في الظهر بعد انتهاء المعركة! ولهذا انظر يا سعادة السفير في عددِ من مات من السودانيين في حروبنا التي تطاولت لثلاثة عقود والتي استخدمت فيها اسلحة القرن العشرين الآلية، وقارنه بعدد من ماتوا في الحرب الاهلية الامريكية التي دارت رحاها لاربع سنوات فقط وباسلحة القرن التاسع عشر الأقل فتكًا. فاذا مات في الحرب الامريكية 2% من الشعب الامريكي فان هذا يعني انه كان ينبغي ان يهلك في حروبنا 15% من الشعب السوداني على الاقل، اي نحوا من خمسة او ستة ملايين!
“ولأننا نواجه بعضنا بعضا بيد واحدة ورجل واحدة فاننا لم نفقد من الضحايا في التغيير الاخير (ابريل 2019) ما كان يرجوه اعداءنا. ألا ترى يا سعادة السفير ان الدكتور محمد طاهر ايلا، آخر رئيس وزراء للرئيس البشير، قد اجل عودته اعواما عدة رغم شعبيته العارمة التي رأيتها بالأمس. ثم ألا تراه يا سعادة السفير يعود لبورتسودان بينما لم يعود رياض حجاب الى دمشق، ولا ابوبكر العطاس الى عدن، ولا البغدادي المحمودي الى طرابلس. وألم تعلم يا سعادة السفير ان الرئيس نميري عاد للخرطوم واستقبله المشير سوار الدهب بحفاوة. وألم تعلم انه رغم هتاف “لن ترتاح يا سفاح”، الذي اطلقه الحزب الشيوعي في سبعينات القرن الماضي، صلَّى محمد ابراهيم نُقُد سكرتير ذلك الحزب على جنازة نميري ودعى له بالمغفرة والراحة الأبدية. ثم ألم تعلم ان من أمّ المصلين في جنازة نُقُد هذا كان هو الدكتور حسن الترابي! وارجو الا تفوتك مشاهدة مقطع فيديو واسع التداول اراد فيه المحاور ان يغمز من قناة الرئيس البشير لدى الامام الصادق المهدي، وهو في قمة معارضته، مشيرًا الى ما سماه “رقص” البشير. قال له الامام ان ذلك ليس رقصا وانما هي “عرضه” (أي استعراضًا رجوليًا) تسمى “الصقرية”!”.
ويبقى السؤال لماذا لا نتعلم كعرب من السودان روح التسامح بين بعضنا ونقلع عن ثقافة الكراهية والحقد المدمرة، ونسعى لأن نكون جسورًا بين أبناء الأمّة الواحدة لنكون متاريس صلبة بوجه الأعداء.