مأزق إسرائيل بين العلمنة والاوثوذوكسية اليهودية
بقلم جورج فريدمان ناشر منصة المستقبل الجيوسياسي I للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
قد لا يكترث المواطنون في أي دولة بما ستسفر عنه نتائج الانتخابات وتأثيرها على المستقبل الجيوسياسي لبلدهم، وذلك نظرا لأن النهج الذي يتبعه القادة والساسة عادة لا يؤثر بصورة مباشرة على وتيرة الحياة اليومية العادية للأفراد. ولكن أحيانا ما تساعد السياسات الانتخابية على كشف بعض الحقائق المرتبطة بجوهر الأمة. وهذا هو الواقع حاليا في إسرائيل، ذلك البلد الذي يبدو على شفا منعطف جديد في تاريخه، حيث بات من الملحوظ أن الأمور تسير في اتجاه تجميد العملية السياسية الطبيعية، والسعي نحو الكشف عن أزمة أكثر خطورة قد تهدد المنطقة بأسرها.
وتتمحور الأزمة الحالية حول نقطتين رئيسيتين وهما: ما أهمية العيش في إسرائيل؟ وما معنى أن تكون إسرائيلياً؟ وهذا النوع من الأسئلة الجوهرية هو أمر شائع بالنسبة للبلدان الناشئة كأمريكا واسرائيل. فعلى الرغم من قوة النظام المؤسسي في الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن المؤسسين الأوائل قد أخفقوا في الإجابة عن ذلك النمط من الأسئلة الوجودية. كما يمكن القول بأن الولايات المتحدة لم تتمكن حتى الآن من الإجابة على بعض التساؤلات الهامة التي تمت بصلة قوية للكيان الأمريكي، فهل تخضع الدولة فعلا للحكومة الفيدرالية أم تتمتع بالحكم الذاتي، ولعل هذا التساؤل يرتبط في جوهره بإعلان مبادئ الاستقلال وما إذا كان الإدعاء بأن جميع البشر قد خلقوا متساويين يعد نهجا أساسيا في الحياة الأمريكية.
وبالنسبة لإسرائيل والتي زعم أصحابها بأن تاريخها يعود إلى نحو 2000 عام، فإن الأمر يبدو مثار جدل كبير، فهناك من يدعي بأن تلك الدولة خلقت منذ زمن بعيد في وجدان اليهود المنتشرين في جميع أنحاء العالم، وهناك من يرى بأنها مجرد دولة ناشئة تألفت في عام 1948 من أصحاب الديانة اليهودية. وثمة هوة سحيقة بين كلا الرؤتين. فالحقيقة التي تبدو أكثر عقلانية هي أن اسرائيل التي تكونت في القرن العشرين ما هي إلا جمهورية، وليست مملكة تتكون من سلالة داوود. ربما تكون فعلا جمهورية يهودية إلا أنها حديثة العهد وليست تاريخية أصيلة كما يدعي البعض.
الحلم اليهودي القديم ..تأسيس دولة حقيقية بين الدول
والجدير بالذكر أن الأزمة التي تدور حول ما معنى أن تكون إسرائيلياً لم تخضع للتسوية حتى الآن. هذا فضلا عن الجدل الدائر أصلا حول مسألة من له الحق في الإدعاء بكونه يهوديا، ومن له الأولوية في المطالبة بالانتماء إلى الوطن الإسرائيلي، الأمر الذي يعد محل خلاف شديد داخل أروقة السلطة السياسية الإسرائيلية. وهنا يعلو صوت الطائفة الأرثوذكسية التي تدعي أحقيتها وأفضليتها في ذلك، مما يخلق احتكاكًا ومناوشات بينها وبين غيرها من الفصائل اليهودية الأخرى.
يرى الأرثوذكس أن إسرائيل يجب ألا تكون دولة ديمقراطية ليبرالية مبنية على العلمانية ، بل يجب عليها أن تستمد قوانينها من الكتب اليهودية المقدسة كالتوراة والتلمود والمدراش وغيرها. والحقيقة أن هذه الكتب ليست معقدة فحسب ، بل هي مثار للجدل والخلاف حتى بين الأرثوذكس أنفسهم، والذين يجادلون بأن إسرائيل التي سقطت أمام الرومان، قد بُعثت من جديد وأنها كانت محكومة بتعاليم الكتاب المقدس، والصفوة ممن تمكنوا من تفسيرها ونشرها بين الناس.
ورغم ذلك فإن المؤسسيين الفعليين لدولة إسرائيل لم يكونوا أرثوذكس. لقد كانوا علمانيين إلى أبعد الحدود ، وكانت مناقشاتهم السياسية تدور حول قضايا عصرهم كالاشتراكية والليبرالية وما إلى ذلك. كان حلمهم أن يكونوا أمة مثل غيرهم من الأمم ، أن يصبحوا بمثابة التجسيد اليهودي للثورة الفرنسية.
قال فلاديمير جابوتنسكي ، الأب الروحي لكل من مناحيم بيغن وبنيامين نتنياهو ، إنه كان يحلم بيوم يتم فيه اعتقال مجرمين يهود على أيدي رجال الشرطة اليهود. وعلى الرغم من كونها تبدو عبارة عادية في ظاهرها ، إلا أنها تكشف في باطنها عن قلب المشروع الصهيوني. وذلك بخلاف الأرثوذكس ، الذين اعتبروا أنفسهم بمثابة طوق النجاة في حياة الأمة .
لقد تطلع أصحاب الفكر الصهيوني وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون وبيغن إلى شئ يفوق حدود الرؤية الأرثوذكسية الضيقة. لقد أرادوا مكانًا آمنًا لليهود يتمتعون فيه بالحكم الذاتي، أمة طبيعية بين الأمم الأخرى. فاليهودية الحديثة من وجهة نظرهم تم استلهامها من مبدأ اضطهاد الشتات والرغبة المشتركة في الحصول على وطن.
هل تتأرجح إسرائيل بين اليمين واليسار؟
وبالعودة إلى الماضي، سنجد ان الرؤية الأرثوذكسية عارضت منذ البداية فكرة إنشاء دولة إسرائيل، فهي من وجهة نظر أصحابها لا يمكن قيامها إلا بعد نزول المسيح إلى الأرض. إلا أن تلك الأفكار المتطرفة لم تحظى بقبول كبير في المجتمع اليهودي. والسائد حاليا هو تدخل الأرثوذكس بصورة فجة في تشكيل ملامح الدولة الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، على الرغم من خضوع جميع الشباب الإسرائيلي للخدمة العسكرية الإجبارية إلا أنه يتم إعفاء طلاب مدرسة (يشيفا) اليهودية الدينية وفقاً للإدعاء الأرثوذكسي بأن دراسة النصوص المقدسة واجب أساسي تجاه دولة إسرائيل.
ولكن تدخلات الأرثوذكس لم تقف عند ذلك، فقد جادلوا في مسائل أخرى أيضا مثل ضرورة التزام إسرائيل بتخفيف الأعمال والأنشطة في يوم الشبات أو فيما يعرف بـ (السبت اليهودي) ليكون يوما مخصصا للراحة والعبادة. فضلا عن محاولاتهم المستمرة لإقرار الصالح وتحديد الطالح، والحصول على التوصيف القانوني السليم لما يصدرعنهم من تعليمات.
والمتأمل في حال بنيامين نتنياهو سيجده من أنصار النزعة الصهيونية القائمة على المبادئ العلمانية الاشتراكية، إلا أنه كان يميل إلى مبادئ السوق الحرة بعض الشئ. هذا فضلا عن اتفاقه الدائم مع فكرة استخدام القوة والردع مع كل من يحاول المساس بأمن إسرائيل.
ولكن المفارقة الكبرى بين اليمين واليسار الإسرائيلي تكمن في ميل الأخير نحو إجراء محاولات للتسوية مع دول الجوار، هذا في الوقت الذي يرفض فيه الأول تلك الفكرة تماما ويميل إلى التشبث بمبدأ الردع.
حقيقة، لقد شارك كلاهما في إدارة حروب شرسة، ولكن الفرق يتمثل في تأكيد أحدهما على أنه لا سبيل سوى استخدام القوة، بينما يسعى الطرف الآخر إلى البحث عن حلول أخرى.
والجدير بالذكر أن القوة السياسية التي يتمتع بها الأرثوذكس جاءت من منطلق تشجيع النظام السياسي لقيام الأحزاب الصغيرة والتي يتمتع كل منها بأيدولوجية خاصة، مما يعني أنه لا يمكن لحزب بعينه الاستحواذ على البرلمان بل يتم تشكيل الحكومة من خلال التفاوض. وكنتيجة مباشرة لهذا النظام، فقد تمتعت الأحزاب الدينية بامتيازات كبيرة خلال فترات تشكيل الحكومات، فقد تمكنوا من القيام بدور بارز في الائتلافات، هذا فضلا عن أن اتجاه نتنياهو نحو تهميش أحزاب بعينها قد ساعد على سطوع نجم تلك الأحزاب الدينية مما جعلهم يحظون بالأغلبية.
اليهود الروس.. اللاعب الأساسي والأكبر في المشهد
لابد من الاعتراف بأن هذا النظام السياسي لم يأتي من فراغ، بل هناك حلقة هامة منه ترتبط بسقوط الاتحاد السوفيتي وهجرة اليهود الروس إلى إسرائيل، والذين كانوا من أنصار العلمانية قلبًا وقالبًا ولكنهم كانوا يعاملون في روسيا بالنظر لكونهم يهود، كقومية منفصلة.
ولقد شكل اليهود الروس قوة كبيرة في إسرائيل لا يمكن إغفالها، وكانوا على توافق تام مع مبدأ أن العرب يشكلون خطرا على امن إسرائيل، كما كانوا لا يكترثون كثيرا بمكانة رجال الدين وأصحاب الاتجاه الأرثوذكسي.
وبمرور الوقت، أصبح الروس والأرثوذكس أساس ائتلاف نتنياهو. لكن التوتر بين الأحزاب الأرثوذكسية والأحزاب التي يهيمن عليها الروس بدأ في التفاقم تدريجيا. كما كان الأرثوذكس يولون اهتماماً أكبر بقضاياهم وخلافاتهم الخاصة أكثر من اهتمامهم بالقضايا القومية الأخرى.
لقد شعر الجميع بالطبع بعدم الارتياح من الوجود الفلسطيني في إسرائيل ، لكن أكثر ما ركز عليه الأرثوذكس، مسألة توسيع نطاق القانون التقليدي اليهودي ليشمل جميع طوائف المجتمع. هذا في الوقت الذي أجمع فيه الروس على معاداة الفلسطينيين ، لكنهم أرادوا أن يتخلصوا من الوجود الأرثوذكس في المشهد السياسي.
وهنا يبرز جانب أخرى من الأزمة يتعلق في الأساس بمسألة الهوية، فالبرلمان الإسرائيلي يتضمن عناصر فلسطينية أيضا، فماذا إذن عن الشعار الأساسي لدولة إسرائيل بأنها الوطن الرسمي لليهود! وبخاصة وسط محاولات نتنياهو في استمالة الأرثوذكس والروس من خلال التأكيد على النزعة اليهودية للدولة الإسرائيلية. وهنا يثار السؤال الأكثر جدلا؟ ما موقف الفلسطينين الحاملين للجنسية الإسرائيلية من أصحاب الديانات المختلفة كالإسلام والمسيحية؟
في الواقع لقد تم التحايل على ذلك الأمر، من خلال القول بأن إسرائيل وطنا يرحب بالجميع، الأمر الذي يتفق مع مبادئ العلمانية المستندة في أساسها إلى احترام التنوع والاختلاف، ولكنه يصطدم بالمعنى الحقيقي الأصلي لدولة إسرائيل.
لطالما نوقشت مسألة العلاقة بين العلمانية والأرثوذكسية في إسرائيل من قبل الروس، والذين لم يكونوا المعارض الوحيد للفكر الأرثوذكسي، ولكنهم أعطوا لجناح المعارضة ثقلا انتخابيا بارزا. هذا في الوقت الذي أدى فيه المبدأ الأرثوذكسي القائم على تهميش غير اليهود إلى إثارة المعضلة الأكبر والمتعلقة بكينونة وهوية دولة إسرائيل في الأساس.
فما هي بالضبط إسرائيل؟ هل كانت ببساطة ديموقراطية ليبرالية أخرى صادف وجود عدد كبير من اليهود فيها؟ أم أنها وطنا لليهود ، بطبيعته متدينًا ، وبالتالي يجب أن يحكمه القانون الديني اليهودي؟. لقد أدت أزمة الهوية طويلة الأمد هذه الآن إلى أزمة سياسية تشهد انقسامًا فجًا بين الناخبين الإسرائيليين، لدرجة أن تشكيل حكومة بعد دورتين انتخابيتين بات أمراً مستحيلاً.
هل يمكن النظر إلى الدين باعتباره شأناً خاصاً؟
على الرغم من كون تلك الأزمة تبدو إسرائيلية بحتة، إلا انها في الحقيقة يخيم شبحها على مختلف بلدان العالم. ففي أوروبا، هناك الأحزاب المسيحية الديمقراطية كالحزب الحاكم في ألمانيا. وفي بعض بقاع الولايات المتحدة الأمريكية، هناك اتجاه سائد بأن البلاد قد استمدت مبادئها من المذهب البروتستانتي وأن الفصل بين الكنيسة والدولة يزيف حقيقة التاريخ الأمريكي.
وعلى الرغم من كون العلمانية قد نشأت في الأساس في الحضارتين الأوروبية والأمريكية للتعامل مع الدين باعتباره شأن خاص، ومنح كل فرد الحق في تقرير مصيره داخل الدولة، إلا أن التصادم بين كلا الاتجاهين بات أمرا واضحا، الأمر الذي نشأت في الأساس من أجله دساتير العالم، ولكن الدساتير نفسها تخضع هي الأخرى للكثير من الاختلاف والتأويل.
ومن الملاحظ أنه في العالم الإسلامي تعلو أصوات التيارات الدينية لتتغلب على الأفكار العلمانية، والعكس في أمريكا فإن العلمانية تكاد تسحق كل ما هو أصولي متدين. بينما في إسرائيل يبدو المشهد غامضا، حيث لم تتمكن تلك الدولة الناشئة من تحديد هويتها بدقة خلال السنوات الماضية، ولعل تلك النقطة الخلافية الأزلية قد شكلت جوهرالصراعات السياسية الحالية المستعر في جنبات الدولة اليهودية.
رابط المقالة الأصلي اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا