وداعًا مظفر النواب.. شاعر الثورة والغضب | بقلم مسعود أحمد بيت سعيد
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
رحل عن عالمنا الشاعر العراقي العربي الكبير مظفر النواب في إحدى مستشفيات الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، بعد حياة حافلة بالعطاء، ونقل جثمانه إلى العاصمة بغداد وسط استقبال رسمي مهيب.
لم يكن النوّاب عابرًا في الحياة الثقافية العربية، فقد أثرى الذائقة الوطنية بأشعاره النارية الصاخبة، ولغته الساخرة التي لا ترحم، وهو أكثر الشعراء تفاعلا وارتباطا بالهموم العربية وقضاياها العادلة، وأكثرهم جرأة ومقدرة على البوح والنقد السياسي بأكثر الصور الشعرية روعة، وكان مثقلًا بهموم الفقراء والمعذبين ولم يخفِ مواقفه الداعمة للشعوب التواقة للحرية والعدل والسلام. واستشرف مبكرا الهزيمة العربية الشاملة رغم طنين الشعارات معبرا عنها بأتم الوضوح: مثلما قال: “يا حكام مهزومين // ويا جمهورا مهزوما”، وعندما قال “فهذا الوطن الممتد مِنَ البحر إلى البَحر// سِجُونُ مُتَلاصِقةُ// سَجٌانُ يَمسُكُ سَجان”.
لكنه يدرك دور الكلمة وقيمتها المعنوية، ويتكئ على تراث أمة مجيدة ضاربة الجذور في أعماق التاريخ قادرة على تخطي كل التراجعات، فيقول: “نحن أمة ما حنى الدهر قامتها أبدا إنما تنحني لتعين المقادير إن سقطت لتتم مهماتها الهادفة”. وستبقى التراجيديا العربية أوسع من مخيلة الشعراء والأدباء والمفكرين.
ومظفر النواب ملكُ القصيدة التحريضية والتعبوية التي تفتك باليقينيات الانهزامية وتلحظ الحدث وتؤرخه بطريقة غير مألوفة وتبقي اللحظة المؤثرة عالقة في الذاكرة طالما لم تمحَ من الواقع، لم ينجُ نظام عربي من تهكماته وأسواط مفرداته اللاذعة. وفي العقود الماضية كانت أشعاره تتداول سرًا في معظم البلدان العربية، وكأنها منشور ثوري، وكان يتتبع الأحداث العربية الثورية ويوظفها ببراعة فائقة. وتكتظ قاعات دمشق وبيروت ومخيمات الثورة الفلسطينية في أمسياته بالجماهير، وتقبض الأنفاس ساعات طوال حينما يتدفق كشلال بصوته الجهوري الرنان ومقدرته الفذة على تطويع اللغة وإرغامها على الارتقاء إلى مستوى التحدي، متدرجا بسلاسة من حالة الغليان والثورة والغضب إلى حالة نادرة من الاستهجان والسخرية.
عاش النواب حياة المنافي ثائرًا ومتمردًا، وشحن الوجدان الشعبي العربي بطاقة عاطفية صافية تكفي ملايين السنين، وعبرت نصوصه الحواجز المصطنعة ونزعته القومية طاغية دون أن تخدش القيم الجمالية والفنية. ومن الذي لا يعرف قصيدته الشهيرة “القدس عروس عروبتكم” التي عرَّت الأمة كلها. وللبعد الأممي حيز واسع من نتاجه الشعري الغزير: “ماذا يدعى القصف الأممي على هانوي؟” مثلا على ذلك. وزار النواب المنطقة الغربية من ظفار في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وكانت حينها على صفيح ساخن، وحين أطل على مدينة رخيوت التاريخية الرابضة بوداعة تحت سفح الجبل، بلغ تأثره وتألقه وتعاطفه منتهاه، وقد وصفها في إحدى قصائده الرائعة بمدينة الفقراء، وأقسم بتاريخ الجوع ويوم السغبة، “لم يبقَ عربي واحد إن بقيت حالتنا هذه الحالة بين حكومات الكسبة”.
وبرحيله تفقد الساحة العربية أحد أشهر شعرائها العظام؛ بل وأكثرهم ذكاءً حينما احتمى بمن لهم البقاء الأبدي؛ عندما احتمى بالجماهير.