استراتيجية “الفوضى الخلاقة”.. الخطر الأعظم | بقلم د. محمد حسب الرسول
لم تسعف البيئة الغربية المستشرق اليهودي البريطاني الأصل، الأميركي الجنسية، برناند لويس في إنتاج ما يعزز التعايش السلمي ويرسخ الأمن والاستقرار الدوليين، ففي العام 1983 أنتج نظرية “الفوضى الخلاقة Creative Chaos” التي جاءت معبّرة عن منطلقاته الأيديولوجية المرتكزة على أسطورتَي العماليق والأغيار (الغوييم) والتي لا تؤمن بوحدة الأصل الإنساني وتكافؤ الناس على وجه الكرة الأرضية، وهي التي تحصر الطبيعة والصفات الإنسانية فقط في شريحة “شعب الله المختار” بصفة خاصة، و”المليار الذهبي” بشكل عام.
ووفقاً للأساطير الصهيونية، فإنّ الصهيوني هو وحده من تنطبق عليه الشروط المؤهلة لحمل صفة الإنسان، فيما غيره من البشر ليس إلا صورة حية من صور الشر توصف بالأغيار تارة، وبالعماليق تارة أخرى.
ترتبط كلمة الفوضى عند الناس بصورة سلبية، لأنها تعني الاختلال والاضطراب والزعزعة والهرج والمرج، وتعني التوتر والشغب والفتنة وفقدان التوازن، ولأن الفوضى هي نقيض النظام والترتيب.
أما “الفوضى الخلاقة” فهي مصطلح سياسي، ذو طابع أيديولوجي، يهدف إلى خلق حالة من الاضطراب في قطر ما، من خلال توظيف جماعات وأفراد، وعبر صناعة وإثارة قضايا، وتوظيف كل ذلك بخطاب شعبوي يحمل مضامين أيديولوجية وسياسية مناهضة للموروثات العقائدية والثقافية والقيمية لمجتمع الدولة المستهدفة، لهز قناعات المجتمع بثوابته الحضارية، وإضعاف قدراته الذاتية، ومن ثمّ تغذيته بعقائد ومرئيات جديدة تتناقض مع معتقداته وتصوراته الأصيلة.
تنطوي “الفوضى الخلاقة” على تحطيم مرتكزات البناء الوطني في الدولة المستهدفة وقواعده، وإضعاف الشعور والانتماء الوطني، وإحداث ضعف وهشاشة عامة في هيكل الدولة وفي بنيتها، بالقدر الذي يمكن من السيطرة عليها، واستلاب قرارها وسيادتها، ونهب ثرواتها، وتشكيل حاضرها، وصناعة مستقبلها على نحو جديد، بعد فقدان المجتمع للأمن والاستقرار الناتج من الفوضى والعنف والخوف، وتحت تأثير الخطاب الشعبوي الذي يعمل على إشاعة الكراهية والنعرات واللعب على التناقضات الثانوية.
وقد اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية “الفوضى الخلاقة” استراتيجيةً لعملها بديلاً من العمل العسكري المباشر، بعد تجربتها في فيتنام لفاعلية الفوضى ولقلة كلفتها.
تعود جذور مصطلح “الفوضى الخلاقة” التاريخية إلى الفكر الماسوني، ويعود بروزه حديثاً إلى عام 1902 على يد المؤرخ الأميركي ألفريد تاير ماهان (Alfred Thayer Mahan)، وتوسع في تسويقه مايكل ليدين (Michael Ledeen) الذي شغل وظيفة مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي (1981-1982)، وشغل قبل ذلك وظائف مهمة في مركز الدراسات الاستراتيجية (1971-1982) وتولى وظائف في المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، وقد حاول مايكل أن يُضفي بعض الغموض و”الإيجابية” على هذا المصطلح حين سمّاه بالفوضى “البناءة”.
لقد حظيت استراتيجية “الفوضى الخلاقة” باهتمام المفكر الأميركي صامويل هنتنجتون (Huntington Samuel P)، كما طرحتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس في حديثها لصحيفة “واشنطن بوست” في نيسان/ أبريل 2005 حين قالت إن نظرية “الفوضى الخلاقة” أصبحت أولوية للسياسة الخارجية الأميركية، وقالت رايس إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز/يوليو 2006، إن الهدف من هذا العدوان هو خلق “فوضى خلاقة” في لبنان تعمل كرافعة لمشروع الشرق الأوسط الجديد بقيادة “إسرائيل”.
كان برناند لويس صريحاً وواضحاً حد الوقاحة عند إعداده ديباجة نظرية “الفوضى الخلاقة”، التي جاء فيها أن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لن يتحضروا، ولذلك، فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وأن أمام أميركا خيارين، إما أن تضعهم تحت سيادتها، أو تدعهم يدمرون حضارتها، وحدد لويس 4 أهداف لنظرية “الفوضى الخلاقة” تتمثل في:-
- تدمير ثقافة العرب والمسلمين الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، والضغط على قيادتهم الإسلامية-من دون مجاملة ولا لين ولا هوادة-ليخلصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة.
- تضييق الخناق على الشعوب العربية والإسلامية ومحاصرتها، واستثمار التناقضات والعصبيات القبلية والطائفية فيها.
- إضعاف الدول العربية وتفكيكها، وتقسيم المقسم فيها وتفتيت المفتت، وإعادة المجتمعات إلى هوياتها الثانوية العشائرية والطائفية وتعظيم تلك الهويات لتكون خصماً للهويات الوطنية والقومية الجامعة.
- إعادة احتلال واستعمار الدول العربية والإسلامية، وتشكيل حاضرها وصناعة مستقبلها على نحو جديد، والسيطرة على ثرواتها.
لم تكن استراتيجية “الفوضى الخلاقة” تميمة معلقة على جيد الإدارة الأميركية فحسب، إنما كانت مشروعاً كولونيالياً له تجليات ومظاهر وتمثلت في أقطار عربية وإسلامية عديدة، كان احتلال العراق أول تلك التمثلات، إذ قدم الاحتلال نموذجاً عملياً لطبيعة هذا المشروع ولتجلياته على الأرض، وقد طالت تداعيات هذا المشروع بنية الدولة العراقية بمؤسساتها التي هُدمت، ووحدتها التي قُسمت، ونسيجها الاجتماعي الذي مُزق، وسيادتها التي انتُهكت، وأمنها واستقرارها اللذين ضُربا، وأخيراً بعجز الدولة عن مخاطبة حاجات الناس والوفاء بالتزاماتها تجاه شعبها.
لم تكن بقية الدول التي جُرب فيها هذا المشروع بعيدةً فيما آلت إليه أوضاعها عمّا آلت إليه الحال في العراق، فحال فلسطين التي انقسمت إلى ضفة وقطاع، وعززت فيها آلة القتل والدمار الإسرائيلية قدراتها الإجرامية ليس أحسن من حال العراق، والحال في سوريا ولبنان وليبيا واليمن والسودان ما هي إلا جملة صور مأساوية حية لطبيعة مشروع “الفوضى الخلاقة” ولطبيعة السياسات الأميركية والغربية المحتكرة للقرار الدولي والمهيمنة على النظام العالمي في ظل عجز عربي قادر على التمام.
إن أميركا لن تتخلى عن استراتيجياتها، لهذا فإنّ مناهضة المشروع الأميركي الهادف إلى نشر الفوضى في الأقطار العربية والإسلامية ضرورة وجودية، بعد أن أثبتت التجارب أن التعايش والمساكنة مع الاستراتيجية العدوانية الأميركية يوفران لها فرصاً للتقدم والتمدد، لهذا، على الدول العربية والإسلامية وسائر دول العالم الثالث أن تسعى بجد إلى المساهمة في تشكيل نظام عالمي جديد يتأسس على منظومة قيمية جديدة تقدس الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وتضمن تكافؤ الفرص على قاعدة الشراكة الحقة والمنصفة في إدارة الفضاء الكوني بعيداً من تجارب الأحادية والثنائية القطبية.