الصورة الكبيرة

الحياد يحتاج القوة لا العواطف …بقلم البروفسور بيار الخوري

يُعتَبَرُ طرحُ حياد لبنان قديماً بقدر قِدَم التدخّلات الأجنبية في لبنان. وللحقّ فقد حافَظت قوى اليمين المسيحي اللبناني على خطابٍ عام يدعو الى الحياد بدءاً من حزب الكتائب، مروراً حتى بالرئيس الراحل شارل حلو، وصولاً الى مُتبنّي الدعوة الأخيرة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي.

للمُفارقة فإن القوى نفسها قد لعبت دوراً واسعاً في تغطية التدخّلات الأجنبية في لبنان ومُحالفتها. أمرٌ لعبته بنِسَبٍ مُتباينة طوائف لبنانية عدة في مراحل مُختلفة منذ تأسيس دولة لبنان الكبير.

ويستند استمرار طرح الحياد إلى عنصرِ الحماسة الشعبية له لدى الكثير من اللبنانيين بصفته المُخلّص، إمّا من ضعف الطائفة المُطالِبة به وانكسارها، وإما بسبب التعب من “لعنة الوطن” التي تُلاحق اللبنانيين منذ إعلان الدولة.

وهو بذلك يفتقر الى وعي العناصر الحاسمة في حياد الدول التي تتشكّل من مزيجٍ من العناصر الداخلية والخارجية، وهي، للأسف، عناصرٌ لا يتمتّع لبنان بأيٍّ منها.

إن كافة الدول التي صُنِّفَت كمُحايدة عبر التاريخ هي دولٌ ثرية اقتصادياً. وهذا الثراء الإقتصادي هو بدوره عنصرٌ مُؤثّرٌ في عناصر نجاح الحياد. لدينا هنا أول مطبّ يقع فيه لبنان الذي فَقَدَ دوره الإقتصادي على مشارف الحرب الأهلية اللبنانية. لقد عاش على أموال الحرب عقداً ونصف العقد، وعلى الدَين ثلاثة عقود، ومن الصعب المُخاطرة اليوم بالتنبّؤ كيف سيعيش في المستقبل.

إن القوة الإقتصادية للدولة تؤثّر مباشرة في عنصر القوة العسكرية الضامنة للحياد. جميع القوى التي نجحت في الحفاظ على حيادها نجحت بسبب وجود قوة عسكرية للدولة قادرة على حماية هذا الحياد. المثالان السويسري والبلجيكي واضحان في حربين عالميتين: حافظت سويسرا على حيادها وحشدت نصف مليون عسكري في بلدٍ صغير، وفشلت بلحيكا لأنها لم تستطع حشد اكثر من مئتي ألف. إن حيادَ لبنان يحتاج إلى جيش قوي عالي القدرات التسليحية. وهذا النوع من الجيوش لا تُريده الطوائف في منطقةٍ غلب فيها منطق العسكر على منطق السياسيين، ولا تريده إسرائيل، بالطبع، كما لا تريده سوريا إلّا إذا كانت عقيدته القتالية تشبه عقيدة جيشها، والولايات المتحدة بدورها لا تريده لأنه يُشكّل خطراً على إسرائيل. جيشٌ قوي لا يريده احدٌ سوى عواطف المواطنين النبيلة.

يحتاج الحياد إلى ثقافةِ الحياد لدى الشعب. لم يصوّت أكثر من ٥٥٪ من السويسريين مع مشروع الإنضمام الى الأمم المتحدة بسبب قوة ثقافة الحياد، ولم تدخل سويسرا الإتحاد الأوروبي للسبب عينه. عن أي ثقافة حياد نتحدّث في لبنان؟ اللبنانيون مُحايدون وضد التدخّلات الأجنبية بقدر قوة هزائمهم. إستدعوا ما تيسّر من أُمم الأرض لنصرتهم، ونثروا الأرز والورد على جنودها. هذا لبنان بلا رياء.

الحيادُ ليس خياراً وطنياً صرفاً، فهو بالمحصلة صنيعة توافقات دولية كبرى لها مصلحة في الحياد يعرف القاصي والداني انها تَرَفٌ لا يتوفّر للبنان. الكيسنجرية (كمثال غير حصري) لا تعتبر لبنان بلداً ناجزاً أصلاً، وأفضل مَن عبّر عنها وزير الدفاع الأميركي الأسبق كاسبار واينبرغر، بقوله: “المشكلة في لبنان برأيي، إنه ليس في الواقع بلداً، بل مجموعة من نوع ما، وشكّله خبراء، وحدوده ليست لها أي علاقة مُحدَّدة بالجغرافيِا أو التاريخ، وهو مليء بكل أنواع القبائل المُتحاربة”.

يبقى أن أُشيرَ إلى أن الحياد في سويسرا تحميه اساساً ميليشيات مُسلَّحة مُنَظَّمة. فهل يُشكّل ذلك بارقة أمل للبنان؟ الجواب معروف.

سلّحوا جيشكم أوّلاً، سيطروا على حدودكم واحموها جيداً، وبعدها يبدأ البحث في رحلة الحياد.

نشر اولا في مجلة اسواق العرب اللندنية

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى