سؤال الهوية والتنوع الثقافي | بقلم محمد محفوظ
مفتتح:
ثـمـة عـلاقـة عـمـيـقـة تـربـط بـين مـفـهـوم الـهـويـة وحـقـيـقـة الـتـنـوع الإنـسـانـي. ولا يمـكـن إدراك هـذه الحـقـيـقـة الإنـسـانـيـة بـدون تـظـهـيـر قـيـمـة الـتـنـوع الـثـقـافي. فـالإنـسـان لا يمـكـن فـهـم ذاتـه بـدون فـهـم وادراك الآخـر. لـذلـك ثـمـة ضـرورة لـفـهـم قـيـمـة الـهـويـة بـوصـفـهـا شـامـلـةلـكـل الخـصـائـص الـثـقـافـيـة والاجـتـمـاعـيـة والـنـفـسـيـة المـتـوفـرة لـدى كـل الجـمـاعـات الـبـشـريـة.
ويـخـطـأ مـن يـتـعـامـل مـع مفهوم الهوية، بوصفه مفهوما إصـطفائيا وخاصا بفئة دون أخرى. وعليه فـإن مـفـهـوم الـهـويـة، لا يمـكـن إخـتـزالـه أو تجـفـيـف روافـده الإنـسـانـيـة. وأية محاولة للاختزال أو التجفيف فإن مآلها الأخير هو الفشل والإخفاق.
اكتشاف الذات:
هـل يمـكـن لـلإنـسـان الـفـرد أو الجـمـاعـة، أن يـفـهـم نـفـسـه بـدون الآخـر ..
وهـل يـسـتـطـيـع الإنـسـان أن يـسـتـغـنـي عـن الآخـر .. أم الـعـلاقـة بـين الـذات والآخـر، مـن الـعـلاقـات المـركـبـة عـلـى المـسـتـويـين الـفـردي والجـمـاعـي، بـحـيـث أنـه لا يمـكـن فـهـم الـذات إلا بـفـهـم الآخـر.. وبـالـتـالـي فـإن الـعـلاقـة بـين الـذات مـهـمـا كـان عـنـوان تـعـريـفـهـا، هـي بـحـاجـة إلـى الآخـر مـهـمـا كـان عنوانه و تعريفه..
فـإذا كـان عـنـوان الـذات ديـنـيـا، فـإن هـذه الـذات بـحـاجـة مـاسـة لـفـهـم ذاتـهـا ولـلـعـيـش الإنـسـانـي الـسـلـيـم مـع الآخـر الديـنـي. وإذا كـان عـنـوان الـذات قـومـيـا أو عـرقـيـا أو مـذهـبـيـا، فـإنـه لا يمـكـن لـهـذه الـذات مـن إدراك حـقـائـق الحـيـاة بـدون نـسـج عـلاقـات سـويـة مـع الآخـر.. فـالآخـر بـكـل دوائـره، هـو مـرآة الـذات بـكـل دوائـرهـا .. ومـن يـبـحـث عـن ذاتـه، لا يمـكـن الـقـبـض عـلـى حـقـيـقـتـهـا وجـوهـرهـا بـدون اسـتـيـعـاب الآخـر وفـهـمـه وإدراك حـاجـاتـه ومـتـطـلـبـاتـه . فـالآخـر هـو مـرآة الـذات، ولا ذات حـقـيـقيـة بـدون آخـر حـقـيـقـي. لـذلـك فـإنـنـا نـعـتـقـد ومـن مـنـطـلـق فـلـسـفـي ومـعـرفي إن كـل دعـوات الاسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن مـهـمـا كـانـت مـبـرراتـهـا ومـسـوغـاتـهـا أو عـنـاويـنـهـا، هي دعوات لا تنسجم ونواميس الحياة الإنسانية ..
فـدعـوات نـفـي الآخـر واسـتـئـصـالـه، لـم تـؤد ولـن تـؤدي إلا إلـى تـشـبـت الذات بكل خصوصياتها وحيثياتها المباشرة وغير المباشرة .
لـذلـك فـإنـنـا نـرى أن كـل الأيـديولـوجـيـات والـنـزعـات الاصـطـفـائـيـة والتطهيـرية، لم تفض إلا إلى المزيد من بروز الهويات الفـرعية والخصوصيات المراد طمسها وتغييبها.
وعـلـيـه فـإن الآخـر الـديـنـي هـو ضـرورة وجـوديـة لـلـذات الـديـنـيـة. كـمـا أن الأخـر المـذهـبـي هـو ضـرورة وجـوديـة ومـعـرفـيـة لـلـذات المـذهـبـيـة وهـكـذا بـقـيـة الـعـنـاويـن ودوائـر الانـتـمـاء الـتـي تحـدد مـعـنـى الـذات والآخـر.. فـالـذات الـتـي لـم تـتـجـاوز حـدودهـا عـلـى أحـد تـعـبـيـر الـكـاتـب المـصـري سـمـيـر مـرقـص، مـهـمـا كـان ثـراء هـذه الـذات ومـهـمـا حـمـلـت مـن خـبـرات، تـظـل في حـاجـة كـيـانـيـة – مـاسـة ـ إلـى أن تـعـبـر هـذه الحـدود انـطـلاقـا مـن احـتـمـالـيـة أن الآخـر قـد يـحـمـل ثـراء وخـبـرة لـم تـعـرفـهـا أو قـد تـدركـهـا الـذات مـن جـهـة، وإن اسـتـمـرار الـذات في الـوجـود يـعـتـمـد إلـى حـد كـبـيـر عـلـى اخـتـبـار مـا لـدى هـذه الـذات مـن غـنـى وخـبـرة بـالـتـفـاعـل أو بـاكـتـشـاف – عـلـى الأقـل – مـا لدى الآخر من جهة أخرى.
والآخـرـ بـحـكـم الـتـعـريـف ـ هـو مـغـايـر لـلـذات، ويـظـل مـنـطـقـة تحـتـاج إلـى الإدراك.
والـذات في عـمـلـيـة خـروجـهـا إلـى الآخـر – اكـتـشـافـا – إنمـا تـعـيـد اكـتـشـاف نـفـسـهـا، وربمـا تـبـدأ في إدراكـهـا. والـذات لا يمـكـن أن تـكـون ذاتـا إلا بـوجـود الآخر.
فـمـن يـبـحـث عـن اكـتـشـاف ذاتـه، ومـعـرفـة مـنـظـومـتـه الـقـيـمـيـة والـثـقـافـيـة، فعليه بالتواصل مع قيم الآخرين ومنظوماتهم الثقافية.
فـالـعـزلـة والانـكـفـاء لا يـقـودان إلـى اكـتـشـاف الـذات، حـتـى ولـو كـان خـيـار العزلة خيارا أيدلوجيا.
والـنـظـرة الـنـرجـسـيـة إلـى الـذات وقـيـمـهـا ومـا تمـلـك مـن مـبـادئ ومـعـارف، فـإنـهـا لا تـؤدي أيـضـا إلـى إدراك وفـهـم حـقـيـقـة الـذات الـثـقـافـيـة والـقـيـمـيـة.. وذلـك لأن الـنـزعـة الـنـرجـسـيـة لـدى الإنـسـان، تـقـوده إلـى شـعـور وهـمـي بـالاسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن بـكـل مـعـارفـهـم ومـكـاسـبـهـم الـعـلـمـيـة والحـضـاريـة. فـلا الـعـزلـة تـقـود إلـى الـفـهـم واكـتـشـاف الـذات، كـمـا إن الاسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن، والـتـكـور والـتـمـحـور حـول الـذات، لا يـفـضـي إلـى اكـتـشـافـها، وإنمـا يـفـضـي إلـى بـنـاء صـورة نمـطـيـة حـول الـذات، لـيـسـت قـادرة عـلـى اسـتـنـهـاض الإنـسـان واكـتـشـاف قـدراتـه وطـاقـاتـه الـكـامـنـة. وحـده الـتـواصـل والانـفـتـاح هـو الـذي يـقـود إلـى اكـتـشـاف الـذات . مـن هـنـا نـصـل إلـى حـقـيـقـة اجـتـمـاعـيـة وحـضـاريـة مـهـمـة . وهـي أن الـعـزلـة والانـكـفـاء، لـيـسـت هـي وسـيـلـة الـدفـاع الحـضـاريـة والـثـقـافـيـة عـن الـذات، بـل هـي تـعـتـبـر وسـيـلـة لـلـهـروب مـن اسـتـحـقـاقـات الـراهـن.
ولـم يـسـجـل لـنـا الـتـاريـخ تجـربـة إنـسـانـية عـن مـجـتـمـع، تمـكـن مـن حـفـظ ثـوابـتـه وصـيـانـة مـكـتـسـبـاتـه مـن خـلال الانـكـفـاء والانـعـزال . ويـبـقـى الانـفـتـاح الـرشـيـد والـتـواصـل الـعـلـمـي والـثـقـافي والاجـتـمـاعـي، بـين مـخـتـلـف الـتـعـبـيـرات والمـكـونـات، هـو وسـيـلـة الـدفـاع عـن الـذات . فـالـتـمـسـك بـالـثـوابـت والـدفـاع عـن الخـصـوصـيـات، لايمـكـن أن يـتـحـقـق بـانـغـلاق الـذات، وإنمـا بـانـفـتـاحـهـا وتـواصـلـهـا المـسـتـديم مـع الآخـر. ومـهـمـا كـانـت الـتـبـايـنـات ونـقـاط الاخـتـلاف، لا مـبـرر حـقـيـقـي لـلانـكـفـاء والانـعـزال .. بـل عـلـى الـعـكـس مـن ذلـك تمـامـا . ولا يمـكـن إدارة الاخـتـلافـات الـديـنـيـة والمـذهـبـيـة والـفـكـريـة، بـدون تـواصـل المخـتـلـفـين مـع بعضهم البعض .
لـهـذا كـلـه فـإننـا نـعـتـقـد وبـشـكـل عـمـيـق أن اكـتـشـاف الـذات يـتـطـلـب الاهتمام بالأمور التالية :
- إن الإنـسـان مـهـمـا امـتـلـك مـن إمـكـانـيـات وكـفـاءات وطـاقـات، لا يـسـتـطـيـع أن يـحـقـق ذاتـه ويـعـزز مـ كـاسـبـهـا الـعـامـة , بـدون نـسـج عـلاقـات طـبـيـعـيـة وسـويـة مـع مـحـيـطـه الاجـتـمـاعـي والـثـقـافي والـوطـنـي..
فـالإنـسـان الـسـوي لا يمـكـنـه الاسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن وإنمـا مـن الـضـروري أن يـنـسـج عـلاقـات سـويـة مـعـهـم . ولا ريـب أن بـوابـة هـذه الـعـمـلـيـة هـوالانفتاح والتواصل والتعاون مع الآخرين.
فـالـعـلاقـة شـرطـيـة وجـدلـيـة في آن واحـد ( عـلـى حـد تـعـبـيـر الـكـاتـب سـمـيـر مـرقـص ) بـين الـذات والآخـر . وهـذه الـعـلاقـة غـايـة في الـتـعـقـيـد، حـيـث يـصـبـح الآخـر شـرطـا لـتـحـرر الـذات مـن ذاتـيـة عـمـيـاء لا تـرى إلا نـفـسـهـا – وربمـا لا تـراهـا – ومـن ثـم تحـمـل نـهـايـة لـصـيـرورتـهـا، وهـنـا يـكـمـن الـبـعـد الـشـرطـي في الـعـلاقـة . وفي الـوقـت نـفـسـه فـإن تحـرر الـذات مـن حـدودهـا والخـروج إلـى الآخـر، إنمـا يـعـنـي الـتـجـدد بـإدراك نـقـاط الـقـوة لـدى الآخـر والـتـي تـعـنـي نـقـاط الـضـعـف لـدى الـذات مـا يـعـنـي تحـقـق الـبـعـد الجـدلـي في الـعـلاقـة، والـعـكـس صـحـيـح بـطـبـيـعـة الحـال.هـذا بـالإضـافـة إلـى تـصـحـيـح الـصـور الـنـمـطـيـة أو الـرؤى سـابـقـة الـتـجـهـيـز الـتـي يـشـكـلـهـا كـل طـرف مـن الـطـرفـين – الـذات والآخـر – بعضهما عن بعض .
- إن الآخـر المخـتـلـف، لـيـس مـوضـوعـا لـلـنـبـذ والإقـصـاء والـسـبـاب والـشـتـيـمـة، وإنمـا هـو مـوضـوعـا لـلـحـوار والـتـواصـل والـتـعـارف . وإن الاخـتـلافـات والـتـبـايـنـات مـهـمـا عـلا شـأنـهـا، لاتـشـرع لأحـد ممارسة الحيف والظلم بحق الآخر المختلف .
فـالمـطـلـوب مـن كـل الأطـراف، لـيـس الـتـنـابـز بـالألـقـاب، وممـارسـة سـوء الـظـن المـتـبـادل، وإنمـا المـطـلـوب هـو ممـارسـة الـعـدل تجـاه بـعـضـنـا البعض ..
ولا يمـكـن أن نـحـقـق مـفـهـوم الـعـدل في الـعـلاقـة مـع المخـتـلـف، بـعـيـدا عـن قيم الحوار والتواصل والتعاون ..
فليس عيبا أن نختلف، لأن ذلك من لوازم الحياة الإنسانية، ولكـن الـعـيـب كـل الـعـيـب حـيـنـمـا يـقـودنـا هـذا الاخـتـلاف إلـى الخـصـام والـعـداء المتبادل ..
فـتـعـالـوا جـمـيـعـا مـن مـواقـعـنـا الـفـكـريـة والـثـقـافـيـة والاجـتـمـاعـيـة المـتـعـددة والمـتـنـوعـة، أن نمـد أيـديـنـا لـبـعـضـنـا الـبـعـض، ونـطـرد مـن واقـعـنـا كـل أسـبـاب الإحـن والـبـغـضـاء، ونـتـعـاون مـع بـعـضـنـا الـبـعـض لإرسـاء مـعـالـم وحـقـائـق الاحـتـرام المـتـبـادل وصـيـانـة الحـقـوق والحـفـاظ عـلـى أسـبـاب الوئام وموجبات الاستقرار والتضامن ..
3- حـين الحـديـث عـن ضـرورة نـسـج عـلاقـات إيـجـابـيـة بـين الـذات والآخـر، وإن جـمـيـع مـكـونـات وتـعـبـيـرات المجـتـمـع الـواحـد، مـن الـضـروري أن تـنـفـتـح عـلـى بـعـضـهـا، وتـتـواصـل اجـتـمـاعـيـا ومـعـرفـيـا .. فـإنـنـا نـدرك وبـعـمـق أن الـتـوجـيـهـات الأخـلاقـيـة بـوحـدهـا، لا تـصـنـع هـذه الحـقـائـق، ولا تـبـنـي الـعـلاقـات الإيـجـابيـة بـين مـخـتـلـف الأطـيـاف والتعبيرات ..
لـذلـك فـإنـنـا نـعـتـقـد أن تـنـمـيـة فـضـاء المـصـالـح المـشـتركـة، بـين مـخـتـلـف المـكـونـات والـتـعـبـيـرات، هـو الـذي يـسـاهـم مـسـاهـمـة رئـيـسـيـة في تـعـزيـز التواصل والعلاقة ..
فـحـيـنـمـا تـكـون مـصـالـح الـنـاس مـتـبـاعـدة، فـإن الـتـوجـيـهـات الأخـلاقـيـة، سـتـعـالـج في الحـدود الـقـصـوى بـعـض الحـالات الـفـرديـة.
أمـا إذا كـانـت شـبـكـة المـصـالـح الـيـومـيـة بـين الـنـاس مـتـداخـلـة، فـإن هـذه الـشـبـكـة بمـتـوالـيـاتـهـا ومـقـتـضـيـاتـهـا المـتـعـددة، سـتـفـرض واقـعـا جـديـدا عـلـى صـعـيـد الـعـلاقـات الـداخـلـيـة في المجـتـمـع الـواحـد. وتـأتـي الـتـوجـيـهـات الأخـلاقـيـة، لـتـضـيـف إلـى هـذا الـواقـع نـزعـة أخـلاقـيـة – روحـيـة، تـسـاهـم في ضـبـط الـعـلاقـة الـيـومـيـة، وتـخـرجـهـا مـن دائـرة الـعـلاقـة بـين الأجـسـاد والعقول، وتدخلها في رحاب الروح والالتزامات الأخلاقية.
إنـنـا نـشـعـر بـأهـمـيـة أن تـكـون الـعـلاقـة بـي تـعـبـيـرات المجـتـمـع إيـجـابـيـة وحـسـنـة، ومـتـجـاوزة لإرث الـقـطـيـعـة والانـفـصـال . ولاسـبـيـل حـيـوي وفاعل لذلك إلا بتوسيع شبكة المصالح المشتـركة بين مختلف الأطراف .
بـحـيـث يـشـعـر الجـمـيـع، أن مـصـلـحـة الجـمـيـع تـقـتـضـي الـتـمـسـك بـكـل أسباب الانسجام الاجتماعي والتضامن الوطني .
وصـفـوة الـقـول : إنـنـا يـنـبـغـي أن لا نـذعـن إلـى إكـراهات الـقـطـيـعـة ومـنـاخـات المـفـاصـلـة والجـفـاء بـين أطـيـاف المجـتـمـع والـوطـن، ونـعـمـل مـن مـواقـعـنـا المـتـعـددة عـلـى إشـاعـة أجـواء الـتـفـاهـم والـتـواصـل، ونـوفـر كـل الأسـبـاب المـؤديـة إلـى بـنـاء عـلاقـة إيـجـابـيـة وحـيـويـة ومـتـضـامـنـة بـين جميع المكونات والتعبيرات .
في سياقات الهوية:
لا نجـانـب الـصـواب، إذا قـلـنـا أن الـتـطـورات الحـديـثـة بـأشـكـالـهـا المخـتـلـفـة ومـؤسـسـاتـهـا المتـنـوعـة وآفـاقـهـا الـرحـبـة، لا تـلـغـي ضـرورة الانـتـمـاء إلـى هـويـة واضحة المعالم، ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والمجتمع .
ولا يمـكـنـنـا بـأي حـال مـن الأحـوال، أن تـكـون مـؤسـسـات الـعـلـم الحـديـث، هي البديل عن الانتماء إلى تلك الهوية . كما يـطالب ( جوزيف شـتـرايـر ) حـيـنـمـا يـقـول : ” لـقـد أصـبـح ممـكـنـا الاسـتـغـنـاء عـن الـطـرق الـقـديمـة، لـعـثـور المـرء عـلـى هـويـتـه داخـل مـجـتـمـع مـا. إن شـخـصـا بـدون عـائـلـة، وبـدون مـسـكـن ثـابـت، وبـدون انـتـمـاء ديـنـي، يمـكـن أن يـعـيـش حياة مكتملة بصورة كافية ” .
إن هـذه الـنـظـرة وأمـثـالـهـا، الـتـي تـنـظـر إلـى عـمـلـيـة الانـتـمـاء إلـى هـويـة وطـنـيـة ثـابـتـة. وعـلـى صـلـة عـمـيـقـة بـالجـذور الـتـاريـخـيـة والـديـنـيـة مـسـألـة ثـانـويـة، أو بـإمـكـان الإنـسـان أن يـسـتـبـدلـهـا بـهـويـة أخـرى مـتـحركـة. لا شـك أن هـذه الـنـظـرة، تـدفـع بـاتجـاه إلـغـاء الـضـوابـط الأخـلاقـيـة والاجـتـمـاعـيـة، وتـقـضـي عـلـى عـمـلـيـة الاسـتـقـرار الـنـفـسـي، الـتـي تـوفـرهـا الـهـويـة المـنـسـجـمـة والمـعـبـرة عن التكوين العقدي للناس .
إن الـهـويـة حـيـنـمـا نـتـمـسـك بـهـا بـشـكـل إيـجـابـي وواع، ونـتـرجـم قـيـمـها اومـبـادئـهـا إلـى خـطـط عـمـل وبـرامـج حـضـاريـة. هـي الـتـي تـصـنـع الـتـطـورات والأشـكـال المـؤسـسـيـة الحـديـثـة . ولا يمـكـنـنـا بـأي شـكـل مـن الأشـكـال أن نـعـتـقـد أن الأشـكـال المـؤسـسـيـة الحـديـثـة، الخـاضـعـة لـلـتـحـول والـتـطـور، هـي التي تخلق لنا هوية وثابتا وطنيا نسير عليه .
فـالـهـويـة هـي الـتـي تـصـنـع الـعـمـران الاجـتـمـاعـي والحـضـاري، ولـيـس الـعـكـس. فـلـيـس صـوابـا أن تحـل الـتـكـنـولـوجـيـا مـحـل الـهـويـة وضـرورة الانـتـمـاء الحـضـاري .. لـهـذا نجـد أن عـمـلـيـات المـسـخ والـتـبـديـل الحـضـاري الـتـي مـارسـهـا الاسـتـعـمـار بـحـق الـشـعـوب المـسـتـعـمـرة ذات الـتـاريـخ والحـضـارة، لـم تـؤد إلـى تـخـلـي تـلـك الـشـعـوب عـن هـويـتـهـا . بـل كـان لـتـلـك الـعـمـلـيـات الخـارجـيـة الـدور الأسـاسـي، فتـكـريـس الـهـويـة في نـفـوس الـنـاس وتـشـبـثـهـم بـهـا. لـهـذا كـانـت دائـمـا الـهـويـة بـعـنـاصـرهـا الـعـقـديـة والـثـقـافـيـة . تـشـكـل عـنـصـرا أسـاسـيـا لـتـوازن الـكـيـان المجـتـمـعـي، بـحـيـث أن وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية التراجـع الحضاري .
فـوظـيـفـة الـهـويـة الأسـاس، هـي صـيـاغـة الـكـيـان المجـتـمـعـي، بمـا يـتـنـاغـم والمـنـطـق الـعـقـدي والـتـاريـخـي لـتـلـك الجـمـاعـة الـبـشـريـة. وفي كـل الحـقـب الـتـاريـخـيـة الـتـي مـر بـهـا الإنـسـان عـلـى وجـه هـذه الـبـسـيـطـة، كـان لـغـيـاب الـهـوية أو ضـمـورهـا الـدور الجـوهـري في دخـول الـكـائـن الـبـشـري في نـفـق الـلاتـوازن والـلااسـتـقـرار الـنـفـسـي والاجـتـمـاعـي ..
وفي المـقـابـل كـان الاسـتـقـرار الـنـفـسـي والاجـتـمـاعـي، كـقـاعـدة لـتـطـويـر الإنـتـاج وتحـسـين ظـروف المـعـيـشـة المـاديـة والمـعـنـويـة، رهـيـنـا بـحـسـن الـعـلاقـة الـتـي تـربـط تـلـك المجموعة البشرية بهويتها وعناصرها العقدية والحضارية .
فـالـتـاريـخ الحـقـيـقـي الـذي يـتـجـه إلـى صـنـع المـنـجـز الحـضـاري لأي مـجـتـمـع. يـبـدأ مـنـذ اتـسـاق الـعـلاقـة بـين الحـركـة الاجـتـمـاعـيـة والـهـويـة، بـحـيـث تـكـون الحـركـة الاجـتـمـاعـيـة مـجـسـدة لـعـنـاصـر الـهـويـة الـذاتـيـة لـلـمـجـتـمـع .. وهـذا مـا يـقـربـنـا مـن المـفـهـوم الاجـتـمـاعـي لـلـزمـن . بـحـيـث أن حـركـة الـنـاس الـعـشـوائـيـة تـبـقـى خـارج الـتـاريـخ وعـلـى هـامـشـه . بمـعـنـى أن هـذه الحـركـة لا تـقـود إلـى تـوظـيـف كـل الـطـاقـات والـقـدرات في سـبـيـل بـنـاء الـواقـع الحـضـاري . وإنمـا هـي حـركـة في أحـسـن الـظـروف تـقـلـيـديـة، لاهـثـة وراء مـنـجـزات الـغـيـر لاقـتـنـائـهـا، دون تمـثـل الـقـيـم الأصـلـيـة الـتـي أوجـدتـهـا، وكـأن الحـضـارة سـلـعـة تـبـاع وتـشـتـرى.إن الـهـويـة بـعـنـاصـرهـا الـعـقـديـة والحـضـاريـة، بمـثـابـة الـقـدرة الخـلاقـة المـسـتـمـرة، الـتـي تمـد الـكـيـان الاجـتـمـاعـي بـأسـبـاب وعـوامـل تحـقـيـق الـتـوازن بـين الحـاجـات المـاديـة والمـعـنـويـة، الـروح والجـسـد، المـصـلـحـة الـفـرديـة والجـمـاعـيـة، الـدولـة والمجتمع، الداخل و الخارج .
وهـكـذا تـكـون الـهـويـة هـي صـانـعـة الـتـضـامـن بـين أبـنـاء المجـتـمـع، وبـهـا يـسـعـى أبـنـاء المجـتـمـع جـمـيـعـا إلـى تحـصـيـل الـكـمـالات الإنـسـانـيـة، والـدخـول في غـ مـار مـنـافـسـة الأمم والـشـعـوب، عـلـى بـلـوغ سـبـل الـعـلـم والمـدنـيـة والحـضـارة . وإن أفـول نجـم الـهـويـة أو الـتـخـلـي عـنـهـا يـورث المجـتـمـع نمـطـا من الـتـقـلـيـد الأعـمـى لـشـعـوب الـعـالـم وطـرائـقـهـم في الحـيـاة . وكـتـب ( إدريـس شـرايـبـي ) تـصـويـرا رائـعـا إلـى هـذه الحـالـة يـقـول فـيـهـا : تـصـور أن زنجـيـا أبـيـض بـين لـيـلـة وضـحـاهـا، ولـكـن بـقـى أنـفـه أسـود , بـسـبـب إهـمـال الـقـدر . كـنـت أرتـدي سـتـرة وبـنـطـالا، وفي قـدمـي زوج مـن الجـوارب وقـمـيـص وحـزام عـلـى الخـصـر ومـنـديـل في جـيـبـي . كـنـت فـخـورا، كـنـت مـثـل أوروبـي صـغـيـر، ولـكـنـي وجـدت نـفـسـي مـضـحـكـا عـنـدمـا وقـفـت بـين أصـدقـائـي، ولـقـد كـنـت مـضـحـكـا فـعـلا”. فـالمـنـظـور الـذي يـنـبـغـي أن نـنـظـر مـن خـلالـه إلـى مـسـألـة الـهـويـة، لـيـس بـوصـفـهـا مـعـادلا مـوضـوعـيـا للـتـقـلـيـديـة والمـاضـويـة، كـمـا أن الحـداثـة لـيـسـت مـعـادلا مـوضـوعـيـا لـلـغـرب والـنـمـوذج الحـداثـي الأوروبـي . إنـنـا يـنـبـغـي أن نـنـظـر إلـى الـهـويـة، بـوصـفـهـا تـنـمـية سريعة ومتينة لكل طاقات الأمة في سبيل البناء والتطور .
بمـعـنـى أن خـيـارات الـنـهـوض الـثـقـافي والحـضـاري، وتجـاوز المـآزق الـراهـنـة الـتـي تـعـانـي مـنـهـا الأمـة، لا تـتـم إلا عـلـى قـاعـدة انـسـجـام هـذه الخـيـارات مـع هـويـة الأمـة ومـعـادلـتـهـا الـذاتـيـة، أو مـنـبـثـقـة مـن مـضـمـون الـهـويـة والـذات الحـضـاريـة . ودائـمـا حـسـن الـعـلاقـة مـع الـهـويـة بمـكـونـاتـهـا الأصـلـيـة، كـفـيل بـأن يـعـيـد لـلأمـة حـيـويـتـهـا الحـضـاريـة، ويـقـوي مـن إمـكـانـات قـيـامـهـا بـدورهـا التاريخي تجاه العالم .
ويـكـفـي أمـتـنـا عـشـرات الـسـنـين وضـخـامـة الإمـكـانـات والـطـاقـات الـتـي بـذلـت في سـبـيـل الـنـهـوض اعـتـمـادا عـلـى خـيـارات ومـشـاريـع نـهـضـويـة لـيـسـت مـنـسـجـمـة وهـويـة الأمـة. فـكـانـت المحـصـلـة الـنـهـائـيـة لـكـل تـلـك الخـيـارات والمـشـاريـع، هـي المـزيـد مـن الـتـراجـع الحـضـاري واسـتـفـحـال المـآزق الـداخـلـيـة، بـحـيـث أن الأمـة أصـبـحـت مـكـبـلـة بمـجـمـوعـة مـن الـقـيـود الـداخـلـيـة والخـارجيـة الـتـي تمـنـع عـلـى المـسـتـويـين الـنـظـري والـعـمـلـي مـن انطلاقة الأمة حضاريا.
فـالـتـطـور الـعـلـمـي والـتـكـنـولـوجـي الـهـائـل، الـذي أسـقـط الحـدود وأوصـل مـنـاطـق الـعـالـم بـبـعـضـهـا الـبـعـض حـتـى أضـحـى ” قـريـة كـبـيـرة ” حـسـب تـعـبـيـر ( مـاك لـوهـان )، والـتـوسـع المـعـلـومـاتـي الـهـائـل، كـل هـذه الـتـطـورات قـد تجـرف الإنـسـان إلـى مـهـاو سـحـيـقـة، أو في أحـسـن الـتـقـاديـر تحـولـه إلـى لاهث وراء الجديد من التكنولوجيا وصناعة المعلومات .
لـهـذا فـإن الـقـاعـدة الأسـاسـيـة لـلـتـعـامـل مـع هـذه الـتـطـورات، هـي تـأسـيـس حـالـة مـن الـتـوازن المجـتـمـعـي، حـتـى يـتـمـكـن المجـتـمـع مـن مـلاحـقـة الـتـطـورات دون إضاعة الذات .
ولاشـك أن تـأسـيـس عـمـلـيـة الـتـوازن المجـتـمـعـي، لا تـتـم إلا عـلـى قـاعـدة الـهـويـة وتـفـعـيـل عـنـاصـرهـا في الـوجـود الاجـتـمـاعـي الـشـامـل. وهـذا لايـعـنـي أن الـهـويـة الـتـي نطـالـب بـإحـيـائـهـا في الـوسـط الاجـتـمـاعـي، تـؤدي إلـى نـظـام مغلق، موغل في العزلة والابتعاد عن حركة الحياة .
إنـنـا نـدعـو إلـى الـتـمـسـك بـالـنـظـام الـثـقـافي الـذي يـتـضـمـن مـجـمـوعـة مـن الـقـيـم والمـبـادئ، الـتـي مـا أن تمـسـكـنـا بـهـا، وعـمـلـنـا عـلـى إحـيـائـهـا في مـسـيرتـنـا، إلا وتـشـبـثـنـا بـأسـبـاب الـتـحـضـر وعـوامـل الـتـمـدن في مـخـتـلـف الحـقـول والمجـالات . لأن هـ ذه الـقـيـم تـسـتـنـفـذ في الإنـسان كـل الـطـاقـات والإمـكـانـات لـوصـل المـسـيـرة الـتـاريـخـيـة لـلأمـة. وتجـاوز كـل عـنـاصـر الـقـطـيـعـة مـع الأمـة حـضـاريـا. ولا شـك أن عـمـلـيـة الـوصـل والاتـصـال بـين راهـنـنـا وحـضـارتـنـا، تـشـكـل الـوعـاء الحـاضـن، والحـقـل المـنـاسـب الـذي تـنـمـو فـيـه كل عمليات التجديد والإبداع الثقافي .
وجـمـاع الـقـول : أن مـن يـطـلـب هـويـة واحـدة بـعـيـدة عـن الـتـنـوع، يـطـلـب أمـرا مـسـتـحـيـلا في الـفـطـرة والـنـامـوس الاجـتـمـاعـي (ولـو شـاء ربـك لجـعـل الناس أمة واحدة ) .
الهويات المركبة:
عـديـدة هـي المـشـروعـات الايـديولـوجـيـة والـفـكـريـة والـسـيـاسـيـة، الـتـي تـعـمـل وتـوجـه كـل طـاقـاتـهـا وإمـكـانـاتـهـا، مـن أجـل أنجـاز هـويـتـهـا الـبـسـيـطـة. أي الـهـويـة أو الـعـنـوان الـعـام، الـذي يـشـكـل ركـيـزة المـشـروع الأيديولـوجـي أو الفكري أو السياسي..
ولـم تـتـوانـى هـذه المـشـروعـات الـشـمـولـيـة، مـن اسـتـخـدام الـقـوة والـقـهـر، لـتـعـمـيـم أيـديـولـوجـيـتـهـا وهـويـتـهـا، والـعـمـل عـلـى إفـنـاء وطـمـس كـل الـهـويـات والعناصر الثقافية والأيدلوجية المغايرة لها.
لـهـذا نـسـتـطـيـع الـقـول أن هـذه المـشـروعـات، بـشـكـل أو بـآخـر مـارسـت الـقـهـر تجـاه مـكـونـات مـجـتـمـعـهـا، وتـوسـلـت بـوسـائـل الـسـلـطـة مـن أجـل دحـر بـعـض الخـصـوصـيـات، وإبـراز وإظـهـار خـصـوصـيـات أخـرى. ويـبـدو أن هـذا الـنـهـج هـو أحـد المـسـئـولـين الأسـاسـيـين عـن الـعـديـد مـن الأزمـات والـتـوتـرات الـعـمـوديـة والأفـقـيـة، الـتـي تـعـانـي مـنـهـا بـعـض مـجـتـمـعـاتـنـا الـعـربـيـة والإسـلامـيـة . وذلـك لأنـه وبـفـعـل عـوامـل وأسـبـاب ذاتـيـة ومـوضـوعـيـة عـديـدة، لا تـوجـد هـويـات بـسـيـطـة في حـيـاة الجـمـاعـات الـبـشـريـة. وإنمـا جـميـع الـهـويـات الموجودة، والتي تعرف الجماعات الإنسانية نفسهـا، هي هويات مـركـبـة.. بمـعـنـى أنـهـا نـتـيـجـة روافـد وقـنـوات عـديـدة، سـاهـمـت في صـيـاغـة الـوضـع أو الـصـورة الـثـقـافـيـة والأيـديولـوجـيـة الـراهـنـة لـكـل الأفـراد والجـمـاعـات البشرية.
فـالـعـلاقـة بـين الأنـا والآخـر، لـيـس بـهـذه الحـديـة والـقـطـعـيـة الـتـي يـتـصـورهـا أصـحـاب الـرؤى الـشـمـولـيـة والمـشـروعـات الأيـديولـوجـيـة ذات الـطـابـع المـانـوي إمـا مـع أو ضـد. فـبـعـض الآخـر الـثـقـافي والاجـتـمـاعـي هـو مـن الـذات الـثـقـافـيـة والاجـتـمـاعـيـة، كـمـا أن بـعـض الـذات الـثـقـافـيـة و الاجـتـمـاعـيـة، هـي مـن الآخـر الـثـقـافي والاجـتـمـاعـي. وبـهـذه الـعـمـلـيـة تـتـداخـل الـقـنـوات والـروافـد، وتـصـبـح كـل الـهـويـات الـعـامـة للـمـجـمـوعـات الـبـشـريـة، هـي هـويـات مـركـبـة، اشـتـركـت عـوامـل وروافـد عـديـدة في صـنـعـهـا وبـلـورتـهـا. ومـن يـبـحـث عـ ن الـهـويـة الخـالـصـة والـصـافـيـة، فـهـو لا يـجـدهـا إلا في ذهـنـه ونـظـريـاتـه الأيديولوجية.
أمـا الـوقـائـع الإنـسـانـيـة والاجتـمـاعـيـة، فـهـي تـثـبـت بـشـكـل لا لـبـس فـيـه أن هـويـات الـنـاس أضـحـت مـركـبـة. بمـعـنـى الـتـداخـل الـثـقـافي والاجـتـمـاعـي والـنـفـسـي بـين الأنـا بـكـل مـسـتـويـاتـهـا، والآخـر بـكـل مـسـتـويـاتـه ودوائـره. لـذلـك فـإن كـل جـهـد فـردي أو مـؤسـسـي، يـسـتـهـدف الـهـويـة الخـالـصـة، هـوجـهـد تـعـصـبـي، لأنـه سـيـعـمـل عـلـى مـعـاداة بـعـض الجـوانـب أو المجـالات الثقافية أو الاجتماعية الموجودة في الفضاء العام..
والـتـعـصـب في أحـد وجـوهـه، يـعـنـي كـل عـمـل نـظـري أو عـمـلـي، يـسـتـهـدف تـعـمـيـم رؤيـة أو مـوقـف ويـتـوسـل في سـبـيـل ذلـك بـوسـائـل عـنـفـيـة أو قـهـريـة أ وهما معا.
كـمـا أن الـشـعـور بـالاسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن، أو الاعـتـقـاد أن مـا عـنـد الـذات أرقـى وأصـفـى ممـا لـدى الآخـر، هـو يـؤسـس أيضـا لـنـزعـة إصـطـفـائـيـة – طوباوية، لا تنسجم ومقتضيات الوقائع الإنسانية والاجتماعية.
فـالـنـرجـسـيـة في الـنـظـر إلـى الـذات وكـل مـقـتـضـيـاتـهـا ولـوازمـهـا، يـقـود إلـى الـشـعـور بـالخـصـومـة والـعـداوة مـع كـل مـا يـحـمـلـه الآخـر مـن تـاريـخ وثـقـافـة وسـيـاقـات حـضـاريـة واجـتـمـاعـيـة. لـهـذا فـإن المـوازنـة في الـنـظـرة بـين الـذات والآخـر، والانـفـتـاح والـتـواصـل مـع الآخـر، هـو الـذي يـسـاهـم في خـروج الـنـاس مـن أنـاهـم الـضـيـقـة والـنـرجـسـيـة، وتـدفـعـهـم نـحـو نـسـج عـلاقـات إيـجـابـيـة وسـويـة مـع كـل الأطـراف المخـتـلـفـة مـعـهم، بـكـل درجـات الاخـتـلاف والـتـبـايـن. فـانـتـمـاءات الإنـسـان المـعـاصـر، لـيـسـت بـسـيـطـة، وإنمـا هـي مـركـبـة ومتداخلة مع بعضها البعض..
فـأغـلـب الأفـراد الـيـوم إن لـم يـكـن كـلـهـم، يـحـتـضـنـوا في عـقـولـهـم ونـفـوسـهـم مجموعة دوائر من الانتماء والروافد التي تغدي نفسه وعقله في آن..
لـهـذا فـإن قـسـر الـنـاس عـلـى دائـرة واحـدة، أو شـكـل واحـد لـلـهـوية، يـفـضـي إلـى تـشـبـث هـؤلاء الـنـاس بـكـل خـصـوصـيـاتـهـم ودوائـر انـتـمـاءاتـهـم المـتـعـددة وعناصر هويتهم المركبة.
ولـعـل عـمـلـيـة الـقـسـر والـقـهـر عـلـى هـذا الـصـعـيـد، هـي الـتـي تـؤسـس لـلـكـثـيـر مـن عـنـاصـر الـتـأزم والـتـوتـر في مـ جـالـنـا الـعـربـي والإسـلامـي. ولـقـد أجـاد الأديـب الـفـرانـكـفـونـي ( أمـين مـعـلـوف) في كـتـابـه (الـهـويـات الـقـاتـلـة) في بـيـان هـذه الحـقـيـقـة. فـالـتـعـامـل الـتـعـسـفـي والـقـهـري مـع الـروافـد المـتـعـددة لـهـويـة الإنـسـان فـردا و جـمـاعة, هـو الـذي يـحـول في المحـصـلـة الـنـهـائـيـة هـذه الهويـة، إلى هوية قاتلة. إذ يقول [ تتكون هوية كل من الأفراد من مـجـمـوعـة كـبـيـرة مـن الـعـنـاصـر لا تـقـتـصـر بـالـطـبـع عـلـى تـلـك المـدونـة عـلـى الـسـجـلات الـرسـمـيـة فـبـالـنـسـبـة إلـى الـغـالـبـيـة الـعـظـمـي هـنـالـك الانـتـمـاء إلـى ديـن أو جـنـسـيـة وأحـيـانـا إلـى جـنـسـيـتـين، أو إلـى مـجـمـوعـة أثـنـيـة أو لـغـويـة، إلـى عـائـلـة ضـيـقـة أو مـوسـعة، إلـى مـهـنـة أو مـؤسـسـة كـمـا إلـى بـيـئـة اجـتـمـاعـيـة. لـكـن الـلائـحـة قـد تـطـول أيـضـا ويمـكـن الافـتـراض أنـهـا لا تـقـف عـنـد حـد إذ يمـكـن الـشـعـور بـانـتـمـاء نـسـبـي إلـى مـقـاطـعـة أو قـريـة أو حـي، إلـى عـشـيـرة أو فـريـق ريـاضـي ومـهـنـي أو زمـرة مـن الأصـدقـاء، إلـى نـقـابـة أو شـركـة أو جـمـعـيـة أو أبـرشـيـة. وإلـى رابـطـة مـن الأشـخـاص تجـمـعـهـم أهـواء مـشـتركـة. بـالـطـبـع إن هـذه الانـتـمـاءات لـيـسـت عـلـى درجـة مـتـسـاويـة مـن الأهـمـيـة، في الـوقـت نـفـسـه عـلـى الأقـل. لـكـن لا يمـكـن إغـفـال أي مـنـهـا إغـفـالا تـامـا فـهـي الـعـنـاصـر المـكـونـة للـشـخـصـيـة أو مـا يمـكـن تـسـمـيـتـه ( جينات النفس ) شرط التأكيد أن أغلبها ليس غريزيا ].
وطـبـيـعـة الـعـلاقـة مـع هـذه الـعـنـاصـر مـن قـبـل الـواقـع الخـارجـي أي المحـيـط بـكـل دوائـره، هـو الـذي يـحـدد نـوعـيـة الـعـلاقـة الـتـي تـربـط الإنـسـان بـعـنـاصـر هويته المتعددة.
فـإذا كـانـت عـلاقـة صـادمـة، ومـتـعـسـفـة، وقـهـريـة، فـإن هـذا الإنـسـان سـيـنـدفـع عقليا ونفسيا للتمسك التام بتلك العناصر المستهدفة.
أمـا إذا كـانـت الـعـلاقـة مـرنـة، ومـتـسـامـحة، ومـتـفـاهـمـة، فـإن هـذا الإنـسـان سـيـعـمـل عـلـى تـرتـيـب عـلاقـة إيـجـابـيـة وحـيـويـة ومـثـمـرة مـع كـل عـنـاصـر هويته.
والـتـوتـرات الـديـنـيـة أو المـذهـبـيـة أو الـقـومـيـة أو الـعـرقـيـة، هـي في أحـد جـوانـبـهـا ولـيـدة الـسـعـي الـتـعـسـفـي في الـتـعـامل مـع بـعـض روافـد أو دوائـر انـتـمـاء الإنـسـان فـردا وجـمـاعـة. مـن هـنـا فـإن المـطـلـوب، وذلـك مـن أجـل الـتـعـايـش الـسـلـمـي بـين مـخـتـلـف المـكـونـات والـتـعـبـيـرات، والاسـتـقـرار الـسـيـاسـي والاجـتـمـاعـي لأوطـانـنـا ومـجـتـمـعـاتـنـا، هـو الـتـعـامـل الايـجـابـي والمـنـفـتـح مـع كـل هـذه الـعـنـاصـر والـروافـد الـتـي تـتـشـكـل مـنـهـا كـل هـذه المـكـونـات والأطياف..
فـالمجـتـمـعـات المـسـتـقـرة سـيـاسـيـا واجـتـمـاعـيـا، هـي تـلـك المجـتـمـعـات، الـتـي تعاملت بمرونة وتسامح مع خصوصيات أطرافها ومكوناتها .. ومـن يـبـحـث عـن الاسـتـقـرار بـعـيـدا عـن ذلـك، فـإنـه لـن يـجـنـي إلا المـزيـد مـن الـفـوضـى والاضـطـراب والـتـوتـر عـلـى أكـثـر مـن صـعـيـد .. لأنـه وبـبـسـاطة شـديـدة أن الـتـعـسـف تجـاه خـصـوصـيـات الجـمـاعـات الـبـشـريـة، يـقـود هـذه الجـمـاعـات إلـى الإصـرار عـلـى الـفـروقـات والـتـمـايـزات والاخـتـلافـات. وهـذه هـي الـنـواة الأولـى لـلـعـديـد مـن صـور الـتـوتـر والـتـأزم بـين مـخـتـلـف الأطـيـاف والتعبيرات.
لـهـذا فـإن الخـطـوة الأولـى في مـشـروع الأمـن الاجـتـمـاعـي والاسـتـقـرار السياسي، هي إعادة بناء العلاقة بين الهويات الفـرعية على أسس الحـوار والاحـتـرام المـتـبـادل، وصـولا إلـى مـبـدأ المـواطنـة الـذي يـحـتـضـن الجميع، ويجعلهم على حد سواء في كل الحقوق والواجبات ..
محددات الاعتدال:
يـبـدو لـي أن المـشـهـد الـثـقـافي في أي مـجـتـمـع، لا يمـكـن أن يـتـطـور، ويـراكـم مـن خـبـراتـه ويـزيـد مـن فـعـالـيـاتـه ومـنـاشـطـه المـتـعـددة، بـدون تحـديـد دقـيـق لـلـمـصـطلـحـات المـسـتخدمـة .. وذلـك لأن الـكثـيـر مـن المـفـردات والمـصـطـلـحـات المـتـداولـة، لا يـتـم الـتـعـامـل مـعـهـا بـوصـفـهـا ذات مـضـمـون مـوحـد ومـشـتـرك، ممـا يـؤدي إلـى الـكـثـيـر مـن الالـتـبـاس والـتـعـمـيـة المـعـرفـيـة والاجتماعية ..
فـحـيـنـمـا نـتـحـدث عـن الـديمـقـراطـيـة مـثـلا، فـإنـنـا نـتـحـدث عـن هـذا المـفـهـوم دون أن نـحـدد مـضـمـونـه . وكـل الأطـراف والأطـيـاف، تـسـتـخـدم هـذا المـفـهـوم وغـيـره، وكـل طـرف يـحـمـل مـعـنـى ومـضـمـونـا مـخـتـلـفـا ومـغـايـرا عـن هـذا المـصـطـلـح أو المـفـهـوم . لـذلـك فـإنـنـا نـعـتـقـد أن حـجـر الـزاويـة في تـنـشـيـط وتـفـعـيـل الحـيـاة الـثـقـافـيـة والمـعـرفـيـة في أي مـجـتـمـع، هـو في الـعـمـل وبـذل الجـهـد الـعـلـمـي والمـعـرفي لـتـحـديـد المـعـنـى الـدقـيـق لـكـل المـفـاهـيـم المـتـداولـة والمصطلحات السائدة ..
ولـعـل مـن أهـم هـذه المـفـاهـيـم، والـتـي يـتـم تـداولـهـا بـكـثـرة هـذه الأيـام، هـو مـفـهـوم الاعـتـدال .. وكـل طـرف أو كـاتـب يـنـادي بـالاعـتـدال، ويـعـتـبـره هو طوق النجاة من العديد من الفتن والمشاكل، ولكن ما معنـى الاعـتـدال ومـا هـي مـحـدداتـه؟؟ فـإن الـقـلـيـل مـن الجـهـود الـتـي تـبـذل لـبـلـورة مضمون هذا المفهوم ..
فـالاعـتـدال لـيـس مـفـهـومـا شـكلانـيـا، حـتـى نـعـتـبـره، هـو الـنـقـطـة الـوسـطـ بين رذيـلـتـين، وإنمـا هـو مـن المـفـاهـيـم الـفـكـريـة والـسـيـاسـيـة الـعـمـيـقـة، الـتـي تتجاوز المعنى المتداول للوسطية ..
وذلـك لأن جـمـيـع المجـتـمـعـات الإنـسـانـيـة قـاطـبـة، تـعـتـقـد وبـشـكـل عـمـيـق، أن القـيـم والمـبـادئ الـتـي تحـمـلـهـا، هـي الـقـيـم والمـبـادئ الإنـسـانـيـة – الـطـبـيـعـيـة، والـتـي تـقـف بـشـكـل دقـيـق بـين رذيـلـتـين.. فـكـل المجـتـمـعـات ترفض الغلو والتنطع في الدين والتطرف في الالتزام بمقتضيات القيم .
كـمـا أنـه في المـقـابـل، كـل المجـتـمـعـات عـلـى الـصـعـيـد الـنـظـري، تـرفـض الانسلاخ من الثوابت والتفلت من القيم الذاتية العليا..
فـكـل المجـتـمـعـات بـصـرف الـنـظـر عـن ديـنـهـا وأيـديولـوجـيـتـهـا، تـنـظـر إلـى ذاتـهـا، بوصفها هي التجسيد العملي لمفهوم الاعتدال والوسطية ..
وكـل هـذه المجـتـمـعـات عـلـى الـصـعـيـد الـعـمـلـي، تـخـتـلـف مـع بـعـضـهـا عـلـى مـسـتـوى الـتـزام هـذه المجـتـمـعـات بمـقـتـضـيـات الاعـتـدال ومـتـطـلـبـات الـوسـطـيـة .
وبـهـذا يـتـحـول هـذا المـفـهـوم، إلـى مـفـهـوم سـائـل غـيـر مـحـدد المـعـالـم. فـالإنـسـان يـنـظـر إلـى ذاتـه بـوصـفـه مـعـتـدلا، والآخـر يـنـظـر إلـيـه بـوصـفـه متنطعا وبعيدا عن مقتضيات ومحددات هذا المفهوم والعكس .. لـهـذا فـإنـنـا مـن الـضـروري أن نـعـمـل عـلـى بـيـان وتـوضـيـح مـحـددات الاعـتـدال .. وذلـك لأن هـذا المـفـهـوم لـيـس أيـديولـوجـيـا أو عـقـيـدة مـتـكـامـلـة ، وإنمـا هـو رؤيـة مـعـرفـيـة وثـقـافـيـة وسـيـاسـيـة، تحـدد مـعـنـى ومـضـمـون هـذا المـفـهـوم.. لـذلـك فـإن الـسـؤال المـلـح في هـذا الـسـيـاق هـو : مـا هـي مـحـددات مـفـهـوم الاعـتـدال، بـصـرف الـنـظـر عـن الأيـديولـوجـيـة الـتـي تـقـف خـلـف هـذا المـفـهـوم؟ لأن كـل أيـديولـوجـيـة تـدعـي لـنـفـسـهـا أنـهـا الـوحـيـدة الـقـابـضـة عـلـى حـقـيـقـة الاعـتـدال ومـعـنـاه الحـقـيـقـي والـعـمـيـق لـهـذا كـلـه فـإنـنـا نـعـتـبـر أن محددات الاعتدال هي النقاط التالية:
- 1. القبول بحقيقة التعددية والتنوع في الاجتماع الإنساني :
لـعـل مـن أهـم المحـددات الـتـي تحـدد بـدقـه مـعـنـى الاعـتـدال , وحـدوده المـعـرفـيـة والاجـتـمـاعـيـة والـسـيـاسـيـة، هـو مـدى الـقـبـول والانـسـجـام مـع حـقـيـقـة الـتـعـدديـة المـوجـودة في المجـتـمـعـات الإنـسـانـيـة بـكـل مـسـتـويـاتـها ودوائرها .
لا يمـكـن أن يـكـون الإنـسـان مـعـتـدلا، وهـو يـرفـض هـذه الحـقـيـقـة، أو لا يـلـتـزم بمـقـتـضـيـاتـهـا ولـوازمـهـا.. فـكـل الـنـاس يـدعـون لأنـفـسـهـم، أنـهـم هـم الـوحـيـدون الـذيـن عـلـى الجـادة، وهـم الـوحـيـدون المـتـمـسـكـون بـأهـداب الـفـضـائـل كـلـهـا، ولـكـن مـا الـدلـيـل الـعـملـي عـلـى هـذا الادعاء، لا شيء ..
إنـنـا نـعـتـقـد أن المـعـنـى الـدقـيـق والمـعـرفي لـلاعـتـدال، لـيـس هـو الـذي يـفـسـر هـذه الـقـيـمـة بـوصـفـهـا الـقـيـمـة الخـيـرة الـتـي تـقـف في الـوسـط بـين رذيـلـتـين وهـمـا الـغـلـو والـتـشـدد مـن جـهـة، ومـن جـهـة أخـرى الانـسـلاخ والاسـتـلاب الـقـيـمـي والمـعـرفي. فـالاعـتـدال يـعـنـي : المـوقـف المـعـرفي الأخـلاقـي، الـذي يـعـتـرف بـحـقـيـقـة الـتـعـدد، ويـتـعـامـل مـع قـيـمـة الـتـنـوع بـوصـفـهـا مـن الـقـيـم الخـالـدة، الـتـي لا يمـكـن مـحـاربـتـهـا أو الـعـمـل عـلـى استئصالها ..
وكـل إنـسـان يـحـارب هـذه الـقـيـمـة والحـقـيـقـة، هـو إنـسـان غـيـر مـعـتـدل، حـتـى وإن ادعـى ذلـك.. المـعـتـدل حـقـا هـو الـذي يـتـعـامـل بـعـقـلـيـة حضارية ورؤية متسامحة مع حقيقة التعدد بكل مستوياتها ..
وإنـنـا نـعـتـقـد أن الـقـبـول بـهـذه الحـقـيـقـة الإنـسـانـيـة الخـالـدة، هـو مـن أهـم محددات مفهوم الاعتدال ..
وعـلـيـه فـإن كـل فـرد أو مـجـتـمـع، يـحـتـرم هـذه الحـقـيـقـة، ويـتـعـامـل مـعـهـا بـعـقـلـيـة حـضـاريـة، هـو إنـسـان ومـجـتـمـع مـعـتـدل بـصـرف الـنـظـر عـن ديـنـه أو أيـديولـوجـيـتـه. وعـلـى هـذا المـقـيـاس قـد يـكـون المـعـتـدل مـسـلـمـا وقـد لا يـكـون. فـالـعـبـرة في تـقـديـرنـا هـو في مـدى الـتـزام الإنـسـان فـردا وجـمـاعـة بالقبول بحقيقة التعددية والالتزام بكل لوازمها ومقتضياتها ..
- 2. احترام الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية :
هـل يمـكـن أن يـكـون الإنـسـان مـعـتـدلا، وهـو يـنـتـهـك حـقـوق الإنـسـان، ويـتـعـدى عـلـى مـقـدسـاتـهـم وخـصـوصـياتـهـم ولـوازمـهـم الإنسانية؟!
إنـنـا نـعـتـقـد أنـه لا يمـكـن لـلإنـسـان أن يـصـبـح مـعـتـدلا، بـدون احـتـرام الإنـسـان بـصـرف الـنـظـر عـن ديـنـه وعـقـيـدتـه وصـيـانـة حـقـوقـه الأسـاسـيـة. فـالاخـتـلاف في الـديـن والـعـقـيـدة، لا يـشـرع لـلإنـسـان مـهـمـا عـلا شـأنـه، أن ينتهك حقوق المختلف معه أو يتعدى على خصوصياته.
بـل إن هـذا الاخـتـلاف يـلـزم الإنـسـان أخـلاقـيـا وديـنـيـا، إلـى المـبـالـغـة في احترام الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية ..
[ فـالـنـاس صـنـفـان إمـا أخ لـك في الـديـن، أو نـظـيـر لـك في الخـلـق ] ولا يـجـوز بـأي نـحـو مـن الأنـحـاء الـتـعـدي عـلـى حـقـوقـه أو عـدم احـتـرام آدمـيـتـه وإنسانيته ..
وعـلـيـه فـإن كـل المـشـروعـات الأيـديولـوجـيـة والـفـكـريـة، الـتـي تـسـوغ لـنـفـسـهـا الـتـعـدي عـلـى حـقـوق المخـتـلـفـين مـعـهـا، هـي مـشـروعـات مـتـطـرفـة حـتـى وإن ادعـت الاعـتـدال.. فـالـعـبـرة دائـمـا بـالـسـلـوك الـعـمـلـي ومـسـتـوى الالـتـزام الفعلي باحترام الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية .
ولا يمـكـن صـيـانـة حـقـوق الإنـسـان، بـدون وجـود رؤيـة مـتـكـامـلـة لـهـذه الحـقـوق، وكـيـفـيـة حـمـايـتـهـا وصـيـانـتـهـا، وتـوفـر إرادة مـجـتـمـعـيـة مـتـكـامـلـة، لـتـحـويـل تـلـك الـرؤيـة إلـى واقـع حـي عـلـى صـعـد الحـيـاة المخـتـلـفـة.. فـالمجـتـمـع المـعـتـدل والـوسـطـي، هـو الـذي يـحـتـرم ويـصـون حـقـوق الإنـسـان، ويـعـمـل عـبـر مـؤسـسـاتـه المخـتـلـفـة الـرسـمـيـة والأهـلـيـة، لـتـوفـيـر كـل الأسـبـا ب والشروط المفضية للإعلاء من شأن الإنسان وجودا وحقوقا .
- 3. الانفتاح والتواصل مع الثقافات الإنسانية :
لـعـل الجـذر الـثـقـافي والمـعـرفي لمـفـهـوم الاعـتـدال، هـو نـسـبـيـة الـثـقـافـة والحـقـيـقـة. وإنـه لا يـوجـد إنـسـان عـلـى وجـه هـذه الـبـسـيـطـة، يمـتـلـك كـل الحـقـيـقـة، وإنمـا هـو يمـتـلـك بـعـضـهـا، والـبـقـيـة مـوزعـة عـلـى بـقـيـة الخـلـق . ونـسـبـيـة الحـقـيـقـة والـثـقـافـة، يـنـبـغـي أن لا تـقـود إلـى الانـكـفـاء والـتـقـوقـع، والـشـعـور الـوهـمـي بـالامـتـلاء، وإنمـا مـن الـضـروري، أن تـقـود إلـى الانـفـتـاح والـتـواصـل مـع الآخـريـن . فـلـكـون الحـقـيـقـة مـوزعـة بـين الـبـشـر، فـلا مـنـاص مـن الانـفـتـاح والـتـواصـل مـع الآخـريـن،لأن هـذا الـتـواصـل و الانـفـتـاح، هـو الـتـعـبـيـر الـطـبـيـعـي، لـلاسـتـفـادة مـن معارف الآخرين وثقافاتهم .
وعـلـيـه فـإن الاعـتـدال الـثـقـافي والـسـيـاسـي والاجـتـمـاعـي، لايـسـاوي الانـعـزال والانـكـفـاء والاسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن وإنمـا هـو يـعـنـي الـتـفـاعـل مع الآخرين، والانفتاح على ثقافاتهم والتواصل مع معارفهم .
فـالانـكـفـاء عـلـى الـذات لـيـس مـن مـقـتـضـيـات الاعـتـدال والـوسـطـيـة. كـمـا أن تـضـخـيـم الـذات والـنـظـر إلـيـهـا بـفـوقـيـة ونـرجـسـيـة لـيـس مـن لـوازم الـوسـطـيـة.. إن الاعـتـدال كـمـفـهـوم مـعـرفي وثـقـافي يـفـتـح الـبـاب واسـعـا للانفتاح والتفاعل الخلاق مع كل الثقافات الإنسانية ..
ولاسـيـادة حـقـيـقـيـة لمـفـهـوم الاعـتـدال في أي مـجـتـمـع مـن المجـتـمـعـات، بـدون هـذه المحـددات. فـهـي جـوهـر هـذا المـفـهـوم ومـضـمـونـه الحـقـيـقـي. وبـدونـهـا تـكـون كـل الـوقـائـع انـحـبـاس عـلـى الـذات لا مـبـرر لـه، أو هـروب من تحديات الحاضر إلى كهف الماضي والأمجاد التاريخية.
فـجـوهـر الاعـتـدال في المجـتـمـع والـثـقـافـة والـسـيـاسـة، هـو الـقـبـول بـحـقـيـقـة الـتـعـدديـة، والـتـفـاعـل الإيـجـابـي مـع مـقـتـضـيـاتـهـا ومـتـطـلـبـاتـهـا. واحـتـرام الإنـسـان بـوصـفـه إنـسـانـا، بـصـرف الـنـظـر عـن مـنـبـتـه الديـنـي أو عـرقـه أو قوميته ..
فـالإنـسـان مـحـتـرم لـذاتـه، إذ يـقـول تـبـارك وتـعـالـى [ ولـقـد كـرمـنـا بـنـي آدم ] ومـقـتـضـى الـتـكـريم الـربـانـي، هـو صـيـانـة وحـمـايـة حـقـوقـه الخـاصـة والعامة .
وهـكـذا يـتـحـول مـفـهـوم الاعـتـدال، مـن مـفـهـوم شـكـلـي – تـبـريـري، إلـى مـفـهـوم حـضـاري، لا يـلـغـي الـتـدافـع بـين الـنـاس، ولا الـتـنـافـس بـين المجـتـمـعـات، وإنمـا يـوفـر الأرضـيـة الـضـروريـة والمـنـاخ المـؤاتـي لانـطـلاق المجـتـمـع بـكـل أطـيـافـه وتـعـبـيـراتـه، لاجـتـراح فـرادتـه، وبـنـاء تجـربـتـه المفتوحة والمتفاعلة مع المنجز الحضاري والثقافي الإنساني ..
التعددية والاحترام المتبادل:
لـيـس سـا مـن الأسـرار، حـين الـقـول أن مـجـتـمـعـنـا كـبـقـيـة المجـتـمـعـات الإنـسـانـية، يـحـتـوي تـعـدديـات وتـنـوعـات عـديـدة. وإن هـذه الـتـعـدديـات إذا أحـسـن الـتـعـامـل مـعـهـا، تـتـحـول إلـى مـصـدر إثـراء وحـيـويـة لمجـتـمـعـنـا ووطننا.. وإن وجود هذه الحقيقة في أي مجتمع إنسانـي، ليس عيبا يـجـب إخـفـاؤه، أو خـطـئـا يـنـبـغـي تـصـحـيـحـه، وإنمـا هـو جـزء طـبـيـعـي مـن حـيـاة المجـتـمـعـات الإنـسـانـية، بـل هـو أحـد نـوامـيـس الـوجـود الإنـسـانـي.. فـالأصل في المجـتـمـعـات الإنـسـانـية، إنـهـا مـجـتـمـعـات مـتـعـددة ومـتـنـوعـة. وإن شـقـاء المجـتـمـعـات لا يـنـبـع مـن وجـود هـذه الحـقـيـقـة، وإنمـا مـن الـعـجـز عـن صـيـاغـة أنـظـمـة اجـتـمـاعـيـة وثـقـافـيـة وسـيـاسـيـة وقـانـونـيـة، قـادرة عـلـى إدارة هـذه الحـقـيـقـة بـدون افـتـئـات وتـعـسـف. وعـلـيـه فـإن أي مـحـاولـة لـطـمـس هـذه الحـقـيـقـة، أو الـتـعـدي عـلـيـهـا، هـو إضـرار بـاسـتـقـرار المجـتـمـع، وإدخـال الجـمـيـع في أتـون المـمـاحـكـات والـسـجـالات الـتـي تـضـر بـالأمـن الاجـتـمـاعـي والسياسي..
وقـبـولـنـا بـحـقـيـقـة الـتـعـدديـة، لايـعـنـي أن المـطـلـوب هـو أن تـتـطـابـق وجـهـات الـنـظـر والـرؤيـة في كـل شـيء. فـمـن حـق أي طـرف ديـنـي أو مـذهـبـي أو قـومـي، أن يـخـتـلـف في رؤيـتـه عـن الـطـرف الآخـر، ولـكـنـه الاخـتـلاف الـذي لايـقـود إلـى الإسـاءة أو الـتـعـدي عـلـى الخـصـوصـيـات والـرمـوز. مـن هـنـا فـإنـنـا نـدعـو جـمـيـع تـعـبـيـرات المجـتـمـع واطـيـافـه المخـتـلـفـة، لـلـعـمـل عـلـى صـيـاغـة مـيـثـاق وطـنـي مـتـكـامـل، يـقـر بـحـقـيـقـة الـتـنـوع والـتـعـدديـة، ويـثـبـت مـبـدأ الاحـتـرام المـتـبـادل عـلـى مـسـتـوى الـوجـود والـرأي والـرمـوز.. فـلـيـس مـطـلـوبـا كلـنـا جـمـيـعـا، مـن مـخـتـلـف مـواقـعـنـا الـديـنـيـة أو المـذهـبـيـة أو الـفـكـريـة، أن تـتـحـد نـظـرتـنـا إلـى كـل الـقـضـايـا والأمـور أو تـتـطـابـق وجـهـات نـظـرنـا في كـل أحـداث الـتـاريـخ أو شـخـوصـه. ولـكـن المـطـلـوب مـنـا جـمـيـعـا هـو أن نـحـتـرم قـنـاعـات بـعـضـنـا الـبـعـض، و أن لا نـسـمـح لأنـفـسـنـا بـأن نمـارس الإسـاءة لقناعات أو أفكار الأطراف الأخرى .
إنـنـا نـرفـض نـهـج الـسـب والـشـتـيـمـة وإطـلاق الأحـكـام الـقـيـمـيـة الجـاهـزة.. وإنـنـا نـعـتـرف بـاخـتـلافـنـا الـفـكـري أو تـعـددنـا الـديـنـي أو المـذهـبـي، ولـكـن هـذا الاعـتـراف يـلـزمـنـا صـيـانـة حـق الإنـسـان الآخـر في الاعـتـقـاد والانـتـمـاء. فـالـتـعـدديـة بـكـل مـسـتـويـاتـهـا، لا يمـكـن أن تـدار عـلـى نـحـو ايـجـابـي، إلا بمـبـدأ الاحـتـرام المـتـبـادل. بمـعنـى أن مـن حـق أي إنـسـان، أن يـعـتـز بـقـنـاعـاتـه الـذاتـيـة، ولـكـن يـنـبـغـي أن لا يـقـوده هـذا الاعـتـزاز إلـى الإسـاءة إلـى الآخـريـن. فـبـمـقـدار اعـتـزازه بـذاتـه وقـنـاعـاتـهـا، بـذات الـقـدر يـنـبـغـي أن يحترم قناعات المختلف واعتزازاته.
وبـهـذه الـكـيـفـيـة نـخـرج طـبـيـعـيـة الـعـلاقـة بـين المخـتـلـفـين مـن دائـرة الـسـجـال والاتـهـام وسـوء الـظـن والـبـحـث عـن المـثـالـب والـقـراءات الـنـمـطـيـة، إلـى دائـرة الـعـلاقـة الإنـسـانـيـة والمـوضـوعـية، الـقـائـمـة عـلـى الاعـتـراف بـحـق الجـمـيـع بالاختلاف وضرورات الاحترام المتبادل بكل صوره وأشكاله..
وفي سـيـاق الـعـمـل عـلـى ضـبـط حـقـيـقـة الـتـعـدديـة بـكـل مـسـتـويـاتـهـا بمـبـدأ الاحترام المتبادل، أود التطرق إلى النقاط التالية:
1- إن كـل الـنـاس عـلـى وجـه هـذه الـبـسـيـطـة، يـعيـشـوا انـتـمـاءات مـتـعـددة، وإن الـعـنـصـر الحـ يـ وي الـذي يـؤدي إلـى تـكـامـل هـذه الانـتـمـاءات بـدل تناقضها أو تضادها، هو الاحترام المتبادل..
فـكـل الـنـاس يـنـتـمـوا إلـى عـوائـل وعـشـائـر وقـومـيـات وأديـان ومـذاهـب، وبـإمـكـان كـل هـذه الـدوائـر في حـيـاة الأفـراد والجـمـاعـات، أن تـكـون مـتـكـامـلـة ولا تـنـاقـض بـيـنـهـا. والـبـوابـة الحـقـيـقـيـة لـهـذا هـو الالـتـزام بمـقـتـضـيـات الاحـتـرام المـتـبـادل. بـحـيـث يـحـتـرم كـل واحـد مـنـا ديـن الآخـر أو مـذهـبـه، كـمـا يـحـتـرم عـائـلـتـه أو عـشـيرتـه أو قـبـيـلـتـه. واعـتـزاز الـنـاس بـدوائـر انـتـمـاءهـم، لا يـعـنـي الإسـاءة إلـى انـتـمـاءات الآخـريـن بـكـل دوائـرهـا ومـسـتـويـاتـهـا. فـالـتـنـاقـض بـين هـذه الانـتـمـاءات، لـيـس تـنـاقـضـا ذاتـيـا وإنمـا عـرضـيـا. بمـعـنـى حـين تـغـيـب قـيـمـة الاحـتـرام المـتـبـادل، تـنـمـو الـوقـائـع والمـنـاخـات المـضـادة لـتـكـامـل دوائـر الانـتـمـاء. أمـا إذا سـاد الاحـتـرام المـتـبـادل، فـإن تـكـامـل هـذه الدوائر، يضحى طبيعيا ومثمرا.
فـالاعـتـزاز بـالـديـن أو الـعـائـلـة أو أيـة دائـرة مـن دوائـر الانـتـمـاء الـطـبـيـعـيـة في حـيـاة الإنـسـان، لـيـس جـريمـة، مـا دام لا يـؤدي إلـى رفـض المـشـتـرك أو تجـاوز مقتضيات الاحترام المتبادل ..
فـالـعـرب جـمـيـعـا الـيـوم، يـنـتـمـون إلـى أوطـان مـتـعـددة، وبـيـئـات اجـتـمـاعـيـة مـخـتـلـفـة، وتجـمـعـات إقـلـيـمـيـة مـتـنـوعـة، إلا أنـهـم جـمـيـعـا يـعـتـزوا بـعـروبـتـهـم وبكل عناصرهم المشتركة..
ولا يـرى المـواطـن الـعـربـي سـواء في المـشـرق أو المـغـرب، أي تـنـاقـض بـين اعتزازه بوطنه ومنطقته، وبين اعتزازه بعروبته وقوميته.
ومـا يـصـح عـلـى المـواطـن الـعـربـي عـلـى الـصـعـيـد الـقـومـي، يـصـح عـلـيـه في مختلف دوائر الانتماء…
2-نـعـيـش جـمـيـعـا ولاعـتـبـارات عـديـدة، لحـظـة تـاريـخـيـة حـسـاسـة، يمـكـن أن نطلق عليها لحظة انفجار الهويات الفـرعية في حياة الناس والمجـتـمـعـات. وهـذه الـلـحـظـة إذا لـم يـتـم الـتـعـامـل مـعـهـا بـحـكـمـة وعـقـلـيـة تسوية، فإنها تنذر بالكثير من المخاطر والتحديات.
لـذلـك فـإن تـعـزيـز خـيـار الاحـتـرام المـتـبـادل، بـين مـختـلـف الانـتـمـاءات والـتـعـدديـات، سـيـسـاهـم في ضـبـط تـداعـيـات ومـتـوالـيـات انـفـجـار الـهـويـات الـفـرعـيـة. بمـعـنـى إن غـيـاب الاحـتـرام المـتـبـادل، أو الـتـعـامـل مـع هـويـات الـنـاس والمجـتـمـعـات الـفـرعـيـة بـعـقـلـيـة الإقـصـاء والاسـتـفـزاز والـتـحـقـيـر، سـيـؤدي إلـى المـزيـد مـن الـتـشـظـي والـتـوتـرات الاجـتـمـاعـيـة والـسـيـاسـيـة والأمـنـيـة، ولا يمـكـن وقـف هـذا الانـحـدار إلا بـتـعـزيـز خـيـار الاحـتـرام المـتـبـادل بـكـل حـقـائـقـه ومقتضياته ومتطلباته.
فـلـيـس مـطـلـوبـا عـلـى الـصـعـيـد الاجـتـمـاعـي والـوطـنـي، أن يـنـحـبـس الـنـاس في هـويـاتـهـم الـفـرعـيـة، لأن هـذه الانـحـبـاس والـتـوتـر المـتـرتـب عـلـيـه، يـقـود إلـى المـزيـد مـن الأزمـات. لـذلـك فـإن المـطـلـوب هـو الـتـعـامـل بـوعـي وحـضـاريـة مـع هـويـات الـنـاس الـفـرعـيـة. بـحـيـث تـتـوفـر لجـمـيـع المـواطـنـين الأقـنـيـة المـنـاسـبـة والأطـر الـقـادرة لاسـتـيـعـابـهـم وإزالـة الالـتـبـاسـات والـهـواجـس، حـتـى لا يـتـم التعامل مع هذه الهويات بوصفها أطر نهائية، لا يمكن التحرر منها..
3-إن مـقـولـة الاحـتـرام المـتـبـادل تـتـضـمـن المـوقـف الايـجـابـي مـن الآخـر المخـتـلـف والمـغـايـر والـكـلـمـة الـطـيـبـة وعـدم الاكـتـفـاء بـأدنـى الـفـهـم فـهـا يـتـعـلـق والـرؤيـة ومـعـرفـة الآخـر و سـن الـقـوانـين الـنـاظـمـة لـلـعـلاقـة بـين مـخـتـلـف الـتـعـدديـات. فـنـحـن حـيـنـمـا نـتـحـدث عـدم الاحـتـرام المـتـبـادل، لا نـتـحـدث فـقـط عـن الجـوانـب الأخـلاقـيـة، وإنمـا نـحـن نـتـحـدث عـن كـل مـقـتـضـيـات الاحـتـرام المـتـبـادل سـواء عـلـى صـعـيـد الـسـلـوك الـشـخـصـي أو الـرؤيـة الـثـقـافـيـة والاجـتـمـاعـيـة والالـتـزام الـسـيـاسـي والحـمـايـة الـقـانـونـيـة. إنـنـا نـتـحـدث عـن ضـرورة حـمـايـة حـقـيـقـة الـتـعـدديـة بـكـل مـسـتـويـاتـهـا في مـجـتـمـعـنـا مـن خـلال بوابة الاحترام المتبادل.
وجـمـاع الـقـول: إنـنـا نـعـتـقـد إنـه لـكـي لا تـتـحـول هـذه الحـقـيـقـة المجـتـمـعـيـة، إلـى مـصـدر لـلـتـوتـر والأزمـات، نـحـن بـحـاجـة إلـى تـعـزيـز خـيـار الاحـتـرام المـتـبـادل، حـتـى نـتـمـكـن مـن صـيـانـة تـنـوعـنـا والمحـافـظـة عـلـى اسـتـقـرارنـا الاجتماعي والسياسي.
الحوار الإسلامي وتفكيك الرؤية النمطية:
في إطـار الـعـلاقـة الـداخـلـيـة بـين المسلمين، بمـخـتـلـف مـذاهـبـهـم ومـدارسـهـم الـفـقـهـيـة والـفـلـسـفـيـة والـفـكـريـة، ثـمـة مـشـاكـل وعـقـبـات عديـدة، تحـول دون تـطـويـر هـذه الـعـلاقـة، وإيـصـالـهـا إلـى مـصـاف الـعـلاقـات المـتـمـيـزة عـلـى كـل الأصعدة والمستويات ..
فـفـي كـل الـبـلـدان الـعـربـيـة والإسـلامـيـة، حـيـث تـتـواجـد المـذاهـب الإسلامية المختلفة، والمدارس الفقهية المتعددة، هناك مشاكـل وحـسـاسـيـات، تـعـرقـل مـشـروع الـتـفـاهـم والـتـعـاون والـوحـدة بـين المسلمين ..
ممـا يـجـعـل الجـفـاء والـتـشـرذم وسـوء الـظـن، وغـيـاب الـتـواصـل الحـيـوي والـفـعـال، هـو سـمـة الـعـلاقـ ة الـداخـلـيـة بـين المـسلـمـين في كـل الـبـلـدان والمـنـاطـق .. وأقـول وأدون هـذا الـكـلام، لـيـس مـن أجـل جـلـد الـذات، أو تـبـريـر وتـسـويـغ الـواقـع الـقـائـم، وإنمـا مـن أجـل الـتـفـكـيـر في بـنـاء مـقـاربـة ورؤية جديدة، تساهم في تطوير العلاقة الداخلية بين المسلمين ..
فـلـيـس قـدرنـا أن نـعـيـش مـتـبـاعـديـن ومـتـجـافـين، كـمـا أن مـشـاكـلـنـا سـواء الـتـاريـخـيـة أو الـراهـنـة، لـيـسـت مـسـتـحـيـلـة المـعـالجـة . وإنمـا نـحـن نـحـتـاج إلـى وعـي جـديـد وإرادة مـجـتـمـعـيـة جـديـدة، تـعـطـي الأولـويـة لإصـلاح حـقـل الـعـلاقـات الإسـلامـيـة الـداخـلـيـة. لأنـنـا نـعـتـقـد أن الـكـثـيـر مـن المـشـاكل والأزمـات الـداخـلـيـة في كـل بـلـدانـنـا ومـنـاطـقـنـا، لا يمـكـن الـتـغـلـب عـلـيـهـا، بـدون تـرتـيـب الـبـيـت الـداخـلـي لـلـمـسـلـمـين .. فـتـوزع المـسـلـمـين بـين مـذاهـب ومـدارس فـقـهـيـة مـتـعـددة، لـيـس مـبـررا لاسـتـمـرار الـقـطـيـعـة والـتـبـاعـد، كـمـا أن وجـود آراء وقـنـاعـات مـخـتـلـفـة بـين المـسـلـمـين، لا يـشـرع لأي طـرف إعلان الخصومة والعداوة بين المسلمين ..
فـالـبـاري عـز وجـل يـقـرر في كـتـابـه الحـكـيـم، أن طـبـيـعـة الـعـلاقـة الـداخـلـيـة بـين المـسـلـمـين بمـخـتـلـف ألـوانـهـم ومـنـاطـقـهـم ومـدارسـهـم هـو الـرحـمـة . امـتـثـالا لقوله تعالى [ رحماء بينهم ] ..
فـالمـطـلـوب هـو أن تـكـون قـيـمـة الـرحـمـة، هـي الـسـائـدة والحـاكـمـة في عـلاقـة المـسـلـمـين مـع بـعـضـهـم الـبـعـض . والاخـتـلافـات المـذهـبـيـة أو الـفـكـريـة أو القومية بين المسلمين، ليست مبررا لتجاوز مقتضيات الرحمة..
ومـا يـجـري الـيـوم في الـعـديـد مـن الـبـلـدان بـين المـسـلـمـين سـنـة وشـيـعـة، حـيـث الـقـتـل المجـانـي وحـروب الإلـغـاء والـتـمـيـيـز والـتـكـفـيـروالـتـضـلـيـل، لاتـنـسـجـم والـدعـوة الـقـرآنـيـة إلـى أن تـكـون الـعـلاقـة بـين المـسـلـمـين تجـسـيـدا واقعيا لقيمة [رحماء بينهم ]..
فـلـيـس مـن الـرحـمـة قـتـل المخـتـلـف مـعـك مـذهـبـيـا أو الإسـاءة إلـى مـعـتـقـداتـه ومقدساته، أو التعدي على حقوقه المادية والمعنوية .
إن مـقـتـضـى الـرحـمـة هـو حـمـايـة المخـتـلـف والاعـتـراف بحقه في الـوجـود والتعبير، واحترام رموزه ومقدساته .
فـلا يـلـيـق بـأي إنـسـان مـسـلـم أن يـسـيء إلـى أخـيـه المـسـلـم، أو يـنـتـهـك حقوقه ومقدساته، مهما كانت حجم الاختلافات والتباينات ..
فـالاخـتـلافـات بـكـل مـسـتـويـاتـهـا، لاتـشـرع لأحـد إطـلاق الأحـكـام جـزافـا،أوامـتـهـان كـرامـات الـنـاس، وإنمـا هـي تـشـرع لـضـرورة الحـوار والـتـواصـل والـبـحـث الـعـلـمـي والمـوضـوعـي في الآراء والـقـنـاعـات بـعـيـدا عـن الآراء والمواقف المنمطة السابقة ..
وفي سـيـاق ضـرورة الـعـمـل لـتـنـقـيـة الأجـواء الإسـلامـيـة الـداخـلـيـة، مـن كـل الأشـيـاء الـتـي تـعـكـر صـفـو الـعـلاقـة الإيـجـابـيـة، أود الـتـأكـيـد عـلـى الـنـقـاط التالية :
- 1. إنـنـا كـمـسـلـمـين بمـخـتـلـف مـذاهـبـنـا ومـدارسـنـا، لا يمـكـن أن نـعـيـد عـقـارب الـسـاعـة لـلـوراء. و أحـداث الـتـاريـخ وتـطـوراتـه المخـتـلـفـة، لا يمـكـن إعـادتـهـا مـجـددا، لـهـذا فـإن إحـيـاء هـذه المـشـاكـل، يـفـاقـم من أزمـات الـعـلاقـة الـراهـنـة . والمـطـلـوب مـن الجـمـيـع هـو بـلـورة وعـي جـديـد من أحداث التاريخ .
وقـوام الـوعـي الجـديـد هـو قـراءة أحـداث الـتـاريـخ قـراءة عـلـمـيـة ومـوضـوعـيـة، مـع احـتـرام تـام لـكـل الـرمـوز الـتـاريـخـيـة لـلـمـسـلـمـين . فـوجـود تـقـيـيـمـات تـاريـخـيـة مـخـتـلـفـة بـين المـسـلـمـين، لا يـشـرع لأي طـرف الإسـاءة إلـى رمـوز الـطـرف الآخـر ومـقـدسـاتـه. لـهـذا فـإنـنـا نـرفـض ولاعـتـبـارات ديـنـيـة وأخـلاقـيـة وإنـسـانـيـة، نـهـج الشـتـائـم والـسـب، ونـعـتـقـد أن هـذا الـنـهـج لايـنـسـجـم وأخـلاق الإسـلام ومـثـلـه الـعـلـيـا، كـمـا أنـه لا يـتـنـاغـم ومقتضيات الأخوة والشراكة.
2- في تـقـديـرنـا أن الـتـعـايـش هـو مـصـيـرنـا كـعـرب ومـسـلـمـين . وإن عـلـيـنـا أن نـفـتـح عـقـولـنـا وكـيـانـنـا عـلـى آفـاق هـذه الـعـمـلـيـة، لـيـسـت لأنـهـا تـنـسـجـم وقيم الإسلام فحسب، بل لأنها تفاعل وانفتاح على المصير .
وهـذا يـعـنـي أن نـخـرج مـن الـتـنـاحـر والاقـتـتـال، وأوهـام الـتـمـيـز و الـفـرادة . ونـعـلـن بـعـقـل نـاضـج ضـرورة تجـاوز مـعـانـاتـنـا الـطـويـلـة، بـالـوعـي الـكـامـل لـتـحـديـات راهـنـنـا وآمـال مـسـتـقـبـلـنـا. فـالـتـعـايـش الاجـتـمـاعـي جـهـد مـتـواصـل ضد اللامقبول على مختلف الصعد والمستويات . وقوامه تسالـم الإرادات الـوطـنـيـة، وانـصـهـار مـصـالحـهـا في الـكيـان الاجـتـمـاعـي الوطني ..
3-إن الـبـدايـة الـفـعـلـيـة لـلـتـغـلـب، عـلـى الـكـثـيـر مـن الـنـوازع والـغـرائـز، الـتـي تمـيـز وتـفـصـل بـين الإنـسـان وأخـيـه الإنـسـان، وتـزرع الـشـقـاق، وتـؤكـد الخـصـام، هـو طـغـيـان حـب الـذات وتـضـخـيـمـهـا بـحـيـث لا يـرى الإنـسـان إلا ذاته ومصالحها ..
أمـا الـتـوجـيـهـات الإسـلامـيـة، فـتـؤكـد عـلـى ضـرورة أن يـتـم الـتـعـامـل مـع الآخـريـن، وفـق الـقـاعـدة الـنـفـسـيـة والاجـتـمـاعـيـة، الـذي يـحـب الإنـسـان نـفـسـه، أن يـعـامـل ويـنـظـر إلـيـه مـن خـلالـهـا . ف( مـا كـرهـتـه لـنـفـسـك فـاكـره لـغـيـرك، ومـا أحـبـبـتـه لـنـفـسـك فـأحـبـبـه لأخـيـك، تـكـن عـادلا في حكمك , مقسطا في عدلك ) .
من منا لا يحب أن يحترمه الآخرون، ويتعاملون معه بإنسانيـة راقـيـة، وأخـلاق حـضـاريـة. مـن مـنـا لا يـشـعـر بـالاشـمـئـزاز، حـيـنـمـا لا تـكـون عـلاقـة الآخـريـن مـعـه سـويـة وسـلـيـمـة، وذلـك لـدواعـي لـيـسـت مـن كسبه .
إن بـوابـة تـصـحـيـح كـل هـذا الاعـوجـاج، يـبـدأ بـتـعـامـلي مـع الآخـريـن . فـإن مـسـاواة الآخـر مـع الـذات هـو الـذي يـخـلـق الـنـسـيـج الاجـتـمـاعـي المتداخل والمتواصل والمنسجم في حركته وعلاقاته المتعددة ..
ولا شـك أن مـسـاواة الآخـر مـع الـذات، سـيـعـلـي مـن شـأن الـقـيـم المـشـتركـة، وسـيـجـعـلـهـا حـاضـرة بـاسـتـمـرار في الـوسـط الاجـتـمـاعـي. كـمـا أنها تزيد من حالة الإحساس بالمسؤولية المشتـركة تجاه بعضنا الـبـعـض. وكـل هـذه الـعـنـاصـر ضـروريـة لـبـنـاء سـلـم اجـتـمـاعـي مـتـراص ومستديم ..
4- إن صـيـاغـة الـعـلاقـة بـين مـخـتـلـف المـذاهـب الإسـلامـيـة، عـلـى أسـس جـديـدة، يـتـطـلـب مـن جـمـيـع الأطـراف الـعـمـل الجـاد لـتـفـكـيـك الـصـور الـنـمـطـيـة الـقـائـمـة بـين أتـبـاع المـذاهـب الإسـلامـيـة تجـاه بـعـضـهـم الـبـعـض. حـيـث أن الـصـور الـنـمـطـيـة الـسـائـدة، هـي الـتـي تـعـمـق الحـواجـز الـنـفـسـيـة بـين المـسـلـمـين، وهـي الـتـي تحـول دون تـطـويـر مـسـتـوى الـتـفـاهـم والـتـعـاون بين أتباع المذاهب الإسلامية ..
فـالمـذاهـب الإسـلامـيـة لـيـسـت رأيـا واحـدا، أو حـزبـا واحـدا، وإنمـا هـي مـجـمـوعـة مـن الاجـتـهـادات والآراء، الـتـي تـعـتـمـد عـلـى قـيـم وثـوابـت عـلـيـا مـحـددة. وإن مـسـتـوى الـتـبـايـن عـلـى صـعـيـد هـذه الـقـيـم والـثـوابـت الـعـلـيـا بـين المـذاهـب الإسـلامـيـة مـحـدود وضـئـيـل .. كـمـا أن سـنـة الـيـوم كـمـجـتـمـع وحـراك ثـقـافي واجـتـمـاعـي، لـيـسـت كـسـنـة الأمـس.. وشـيـعـة الـيـوم عـلـى الـصـعـيـد ذاتـه، لـيـسـت كـشـيـعـة الأمـس.. والـتـعـامـل مـع هـذه الـعـنـاويـن وكـأنـهـا أقـانـيـم ثـابـتـة ونـهـائـيـة، ولا يـصـيـبـهـا الـتـغـيـر والـتـحـول،هو الذي يعمق الفجوات بين المسلمين ..
لـهـذا كـلـه فـإنـنـا نـعـتـقـد أن تـطـويـر الـعـلاقـات الـداخـلـيـة بـين المـسـلـمـين، يـتـطـلـب الـعـمـل عـلـى تـفـكـيـك الـصـور الـنـمـطـيـة المـتـبـادلـة بـين المـسـلـمـين، وصـيـاغـة الـعـلاقـة عـلـى أسـس الـراهـن وقـنـاعـات المـعـاصـريـن بـعـيـدا عـن إرث التاريخ وحقب الصدام الأعمى …
المواطنة هي الحل:
تـتـعـدد انـتـمـاءات الإنـسـان ومـيـولاتـه والـتـزامـاتـه الأيـديولـوجـيـة والـفـكـريـة والـسـيـاسـيـة. حـيـث إنـنـا مـن الـصـعـوبـة بمـكـان عـلـى المـسـتـوى الإنـسـانـي أن نجـد كـتـلـة بـشـريـة مـتـجـانـسـة في كـل شـيء .. فـإذا كـانـت هـذه الـكـتـلـة الـبـشـريـة مـتـجـانـسـة ديـنـيـا، فـهـي مـتـعـددة مـذهـبـيـا، وإذا كـانـت مـتـجـانـسـة مـذهـبـيـا، فـهـي مـتـعـددة عـرقـيـا أو قـومـيـا،وإذا كـانـت مـتـجـانـسـة عـرقـيـا أو قوميا، فهي متعددة دينيا أو مذهبيا أو مناطقيا ..
فـعـلـى كـل حـال فـإن الـتـعـدد والـتـنـوع مـن لـوازم الحـيـاة الإنـسـانـيـة . ولا يمـكن أن نحصل على حياة اجتماعية واحدة متجانسة في كل شيء ..
وعـدم الـتـجـانـس في بـعـض دوائـ ر الانـتـمـاء والحـيـاة، لا يـعـنـي أن تـسـود حـالات الجـفـاء والـتـبـاعـد بـين الـنـاس، وإنمـا عـلـى الـعـكـس مـن ذلـك تمـامـا. فـإن تـعـدد دوائـر انـتـمـاءهـم يـنـبـغـي أن يـقـودهـم إلـى الحـوار والـتـواصـل وتـنـمـيـة المـشـتركـات. فـالـنـاس جـمـيـعـا بـصـرف الـنـظـر عـن مـنـابـتـهـم الأيـديولـوجـيـة، يـعـتـزوا بـخـصـوصـيـاتـهـم الـذاتـيـة، ولـكـن هـذا الاعـتـزاز لـيـس اسـتـغـنـاء عـن الآخـريـن أو الخـصـومـة مـعـهـم أو الانـغـلاق والانـكـفـاء في الـدوائـر الخـاصـة. فـالحـكـمـة الـربـانـيـة اقـتـضـت لاعـتـبـارات عـديـدة، أن نـكـون مـتـعـدديـن ومـتـنـوعـين في دوائـر وأنـحـاء مـخـتـلـفـة، ولـكـن هـذا الـتـنـوع لـيـس مـن أجـل الانـغـلاق والانـطـواء، أو الخـصـومـة والـعـداء، وإنمـا مـن أجـل الـتـعـارف الـذي يـقـود إلـى الـبـنـاء والـعـمـران . إذ يـقـول تـبـارك وتـعـالـى [ يـا أيـهـا الـنـاس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ] ..
فـالـبـاري عـز وجـل جـعـلـنـا في دوائـر مـتـعـددة ( شـعـوبـا وقـبـائـل لـيـس مـن أجـل أن نـتـخـاصـم ونـتـعـادى ونـقـتل بـعـضـنـا الـبـعـض، وإنما مـن أجـل (لـتـعـارفـوا) وأول الـتـعـارف الاعـتـراف بـحـق الـوجـود والـتـعـبـيـر عـن الـرأي، وتنمية المشتـركات، وتنظيم عناصر وموضوعات الاختلا ف والتباين ..
فـجـمـالـنـا الإنـسـانـي في تـعـددنـا وتـنـوعـنـا، وأيـة مـحـاولـة قسـريـة لـتـوحـيـدنـا أو لإلـغـاء تـنـوعـنـا، هـي مـحـاولـة مـنـاقـضـة لـنـامـوس الخـالـق عـز وجـل ف هـذه الحياة ..
والاعـتـراف بـتـنـوعـنـا، يـحـمـل الجـمـيـع مـسـؤولـيـة الـعـمل عـلـى صـيـانـة وحـمـايـة هـذا الـتـنـوع . ولا حـمـايـة لـهـذا الـتـنـوع إلا بـالاحـتـرام المـتـبـادل والـتـواصـل المـبـاشـر وكـسـر كـل الحـواجـز الـتـي تحـول دون الـتـضـامـن والـتـعـاون .. فـنـحـن يـنـبـغـي لـنـا جـمـيـعـا ومـن هـذا المـنـطـلـق يـجـب عـلـيـنـا أن نـرفـض الإسـاءة إلـى بـعـضـنـا الـبـعـض سـواء كـانـت هـذه الإسـاءة مـبـاشـرة أو غـيـر مـبـاشـرة. قـد تـتـبـايـن آراؤنـا ومـواقـفـنـا، ولـكـن هـذا الـتـبـايـن لا يـشـرع لأحـد ممـارسـة الإسـاءة . بـل عـلـى الـعـكـس مـن ذلـك تمـامـا حـيـث أن التباين في الرأي والموقف ينبغي أن يقود إلى الاحترام المتبادل ..
كـمـا أن وجـود إسـاءة هـنـا أو هـنـاك، يـنـبـغـ ي أن لا يـدفـعـنا إلـى إطـلاق الأحـكـام والمـواقـف الـتـعـمـيـمـيـة . فـالإسـاءة مـرفـوضـة مـهـمـا كـان شـكـلـهـا، وقـيـام الـبـعـض بـهـا، لا يـشـرع لأحـد الـتـعـمـيـم أو الـتـشـنـيـع عـلـى الـكـل.. فـآفـة الـعـدالـة الـتـعـمـيـم ومـن أراد الالـتـزام بمـقـتـضـيـات الـعـدالـة، فـعـلـيـه تـوخـي الحـذر وعـدم الانجـرار وراء المـواقـف والآراء الـتـعـمـيـمـيـة، الـتـي تـأخـذ الجـمـيـع بجريرة البعض..
يـقـول تـبـارك وتـعـالـى [ ولا يـجـرمـنـكـم شـنـئـان قـوم عـلـى أن لا تـعـدلـوا اعـدلـوا هو أقرب للتقوى]..
فـحـيـنـمـا تـتـبـايـن الآراء وتـتـعـدد المـواقـف والـقـنـاعـات والانـتـمـاءات، هـذا ليس مدعاة لتجاوز حدود العدالة في التقوى وصناعة الرأي والموقف ..
فـالانـتـمـاءات الـفـرعـيـة المـتـعـددة، لا تـدار بـحـروب الـتـشـنـيـع المـتـبـادل، ولا تـدار بـعـقـلـيـة الاسـتـئـصـال والـتـشـويـه المـتـبـادل. وإنمـا تـدار بـالحـوار والـتـواصل والاعذار المتبادل وتنمية المشتركات..
والـفـكـر الـقـانـونـي والـدسـتـوري والحـضـاري الحـديـث ,أبـدع رؤيـة قـانـونـيـة مـتـكـامـلـة في تـرتـيـب الـعـلاقـات الـداخـلـيـة بـين مـكـونـات وتـعـبـيـرات المجـتـمـع الواحد .. وهذه الرؤية تتكثف في مقولة [ المواطنة ] ..
فـالانـتـمـاءات المـتـعـددة يـنـبـغـي أن لا تـقـود إلـى الانـطـواء والانـكـفـاء، كـمـا أنـهـا يـنـبـغـي أن لا تـقـود إلـى الخـيـارات الـسـيـاسـيـة والـثـقـافـيـة الـتـي تـهـدد الاسـتـقـرار والأوطـان .. وإنمـا مـن الـضـروري أن تـقـود إلـى بـنـاء الـعـلاقـة عـلـى أسـس مـشـتركـة، تـتـجـاوز حـدود الـهـويـات الـفرعـيـة . وعـلـى رأس الأسـس المـشـتركـة ( المـواطـنـة ) . فـهـي الـقـاعـدة الـقـانـونـيـة والـسـيـاسـيـة الـتـي تـضـبـط الـعـلاقـة بـين جـمـيـع المـواطـنـين، وهـي الـتـي تحـدد المـسـؤولـيـات وتـعـي الحقوق و الواجبات ..
وفي زمـن انـفـجـار الـهـويـات الـفرعـيـة، لاعـتـبـارات عـديـدة، مـن الـضـروري الـعـمـل لإبـراز مـفـهـوم المـواطـنـة . فـهـي ( أي المـواطـنـة ) هـي الحـل، الـتـي تـنـقـل الجـمـيـع مـن دائـرة الـهـويـات الـفرعـيـة، إلـى رحـاب المـواطـنـة المـتـسـاويـة والمجـتـمـع والـوطـن الـواحـد . وفي سـيـاق تـعـزيـز خـيـار المـواطـنـة، نـود الـتـأكـيـد على النقاط التالية :
- 1. إن الـوقـائـع الـطـائـفـيـة الـتـي تجـري الـيـوم في أكـثـر مـن بـلـد عـربـي، لـيـسـت مـدعـاة لـلاصـطـفـافـات الـطـائـفـيـة والـتـمـتـرسـات المـذهـبـيـة، وإنمـا هـي مـدعـاة لـلـوحـدة الـوطـنـيـة وبـنـاء حـقـائـق الائـتـلاف والـتـلاقـي بـين مـخـتـلـف الـتـكـويـنـات المـذهـبـيـة، وخـلـق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة ..
فـلـيـس مـطـلـوبـا مـن الـنـخـب الـثـقـافـيـة والـعـلـمـيـة والـسـيـاسـيـة، في ظـل هـذه الـظـروف الحـسـاسـة، الـتـمـتـرس المـذهـبـي والـتـخـنـدق الـطـائـفـي، وإنمـا المـطـلـوب هـو الـعـمـل عـلـى مـعـالجـة كـل الـوقـائـع الـطـائـفـيـة، الـتـي تـضـر الجميع ولا يربح فيها أحدا ..
فـالمـشـاكـل الطـائـفـيـة والمـذهـبـيـة في أي بـيـئـة اجـتـمـاعـيـة، يـنـبـغـي أن لا تـقـود الـعـلـمـاء والـكـتـاب والمـثـقـفـين، إلـى الاصـطـفـافـات الـطـائـفـيـة الـضـيـقـة ,وتـزخـيـمـهـا عـبـر مـقـالات وأبـحـاث تـعـمـق الـشـرخ في الـوطـن والمجـتـمـع .. وإنمـ ا يـنـبـغـي أن يـنـطـلـق جـمـيـع هـؤلاء ومـن مـوقـع المـسـؤولـيـة الـديـنـيـة والـثـقـافـيـة والـوطنـيـة، إلـى الـبـحـث عـن حـلـول ومـعـالجـات لـهـذه المـشـكـلـة، فـالـتـوتـرات المـذهـبـيـة الـيـوم، لا تـعـالـج بـالـتـعـبـئـة الـطـائـفـيـة، ولابـشـحـن الـنـفـوس ضـد الآخـر المخـتـلـف والمـغـاير المـذهـبـي. وإنمـا بـتـعـزيـز خـيـار المـواطـنـة، وتـشـجـيـع الجـمـيـع عـبـر رؤيـة مـتـكـامـلـة ومـشـروع وطـنـي شـامـل، لجـعـل المـواطـنـة هـي حـجـر الـزاويـة في مـشـروع الـعـلاقـات الـبـيـنـيـة بين جميع المواطنين والمكونات والتعبيرات ..
والمـواطـنـة كـمـشـروع حـل ومـعـالجـة لـلـتـوتـرات الـطـائـفـيـة والمـذهـبـيـة في المجـال الـعـربـي والإسـلامـي، لـيـسـت حـلا سـحـريـا ونـاجـزا، وإنمـا هـي الـبـوابـة الـسـيـاسـيـةوالحـقـوقـيـة والـثـقـافـيـة، لانجـاز الـوحـدة الـداخـلـيـة في المجـتـمـعـات المتعددة دينيا أم مذهبيا أم قوميا وعرقيا.
وحـدهـا المـواطـنـة هـي الـتـي تـخـلـق الـوحـدة بـين المـكـونـات المـتـعـددة في الدائرة الوطنية الواحدة.
2- إن ثـقـافـة الاسـتـئـصـال والـفـصـل بـين مـكـونـات الـوطـن الـواحـد، عـلـى أسـس طـائـفـيـة ومـذهـبـيـة، لا يـبـنـي اسـتـقـرارا، ولايـحـرر المجـتـمـعـات مـن عـقـدهـا وتـوتـراتـهـا الـتـاريـخـيـة والمـعـاصـرة، وإنمـا يـزيـد مـن أوار الـتـوتـر ويـفـاقـم من مشكلات المجتمع والوطن.
وأحـداث الـتـاريـخ تـعـلـمـنا أن المجـتـمـع الـذي يـحـتـضـن تـعـدديـات وتـنـوعـات، لـم يـبن اسـتـقـراره بمـنـهـج الاسـتـئـصـال وبـنـاء الـكـانـتـونـات المـنـعـزلـة، وإنمـا تم بـنـاء الاسـتـقـرار، بـثـقـافـة الاسـتـيـعـاب والمـرونـة الـسـيـاسـيـة وتنمية الجوامع المشتـ ركة، وبناء العلاقة على أساس المواطنة الواحدة.
والمـنـطـقـة الـيـوم حـيـث تـكـثـر فـيـهـا الـعـنـاويـن المـذهـبـيـة، وتـتـزايـد الـتـوتـرات الـسـنـيـةـ الـشـيـعـيـة في أكـثـر مـن مـوقـع عـربـي وإسـلامـي، أحـوج مـا تـكـون إلـى ثـقـافـة الـوصـل والاسـتـيـعـاب، وتـفـكـيـك نـزعـات الـغـلـو والـتـطـرف ومـحـاولات المـفـاصـلـة الـشـعـوريـة والـعـمـلـيـة بـين أبـنـاء الـوطـن الـواحـد عـلـى أسس طائفية ومذهبية.
فـالمـسـألـة الطـائـفـيـة في المـنـطـقـة الـعـربـيـة والإسـلامـيـة، لا تـعـالـج بـالانـكـفـاء والـعـزلـة، ولا تـعـالـج بـتـوتير الأجـواء وخـلـق الخـطـابـات المـتـشـنـجـة الـتـي تـزيـد المـشـكـلـة اشـتـعـالا. وإنمـا تـعـالـج بـالـوعـي والحـكـمـة والإرادة الـعـامـة الـتـي تـفـكـك المـشـكـلـة، مـن مـوقـع الـتـعـالـي عـن الاصـطـفـافـات الـضـيـقـة. فـالـنـخـب الـعـلـمـيـة والـثـقـافـيـة في المجـال الـعـربـي، يـنـبـغـي أن تـكـون جـزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.
وإنـنـا مـهـمـا كـان الـوضـع عـلـى هـذا الـصـعـيـد صـعـبـا ومـتـوتـرا، يـنـبـغـي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والتسامـح والاحترام المتبادل.
ووجـود قـنـاعـات أو ممـارسـات سـيـئـة وسـلـبـيـة مـن أي طـرف، يـنـبـغـي أن لا يـكـون مـبـررا لـلـتـمـتـرس الـطـائـفـي، وإنمـا هـو المـبـرر الحـقـيـقـي لـضـرورة الخـروج مـن هـذا الـسـيـاق الـضـيـق، والـعـمـل عـلـى مـعـالجـة كـل الـظـواهـر الـسـلـبـيـة من خلال الحوار والتواصل والنقد البناء..
3-إن الـتـعـصـب المـذهـبـي بـكـل مـسـتـويـاتـه، هـو أحـد الـعـوامـل المـضـادة لمـفـهـوم المـواطـنـة.. بمـعـنـى أن الـتـعـصـب يـحـول دون أن تـكـون المـواطـنـة، هي قاعدة العلاقة، وتكون بدل ذلك العلاقة المذهبية..
لـذلـك فـإن تـعـزيـز خـيـار المـواطـنـة، يـتـطـلـب بـنـاء كـتـلـه اجـتـمـاعـيـة- مـعـتـدلـةـ ووسـطـيـة, عـابـرة لـلـمـذاهـب ومـتـجـاوزة لـكـل عـنـاويـن الـهـويـات الـفرعـيـة بـدون هـذه الـكـتـلـة الاجـتـمـاعـيـة، سـتـبـقـى الـعـصـبـيـة تـنـخـر في جـسـم المجـتـمـع. وسـيـهـدد الـتـعـصـب المـذهـبـي الاسـتـقـرار الاجـتـمـاعـي والسياسي للوطن..
فـلا يـكـفـي الـيـوم أن نـلـعـن الـطـائـفـيـة، أو نـحـذر مـن الـتـمـتـرس المـذهـبـي، وإنمـا المـطـلـوب هـو الـعـمـل عـلـى خـلـق حـقـائـق وطـنـيـة واجـتـمـاعـيـة مـضـادة لـلـنـزعـات الـطـائـفـيـة. ويـبـقـى الـعـمـل عـلـى خـلـق الـكـتـلـة الاجـتـمـاعـيـة المـتـجـاوزة لـكـل الـعـنـاويـن الخـاصـة، لـصـالـح الـعـنـوان الـوطـنـي الـعـام والجـامـع، هـو الجـواب عـن كـل مـحاولات الـتـخـنـدق الـطـائـفـي والمذهبي..
ومـهـمـة هـذه الـكـتـلـة، هـي حـمـل مـشـعـل الـوحـدة والمـواطـنـة، وصـيـاغـة العلاقة بين مختلف المكونات على أسس المواطنة المتساوية.
بـهـذه الـكـيـفـيـة تـتـحـول المـواطـنـة كـقـيـمـةومـتـطـلـبـات ومـسـؤولـيـات، إلـى حل لكل نزعات التوتر الطائفي بكل مستوياته.
وجـمـاع الـقـول: إن المجـتـمـع الـذي يـحـارب تـنـوعـه، لا يمـكـنـه تـظـهـيـر هـويـتـه.لـذلـك فـإن الـشـرط الـضـروري لـتـظـهـيـر الـهـويـة عـلـى نـحـو كـامـل وايـجـابـي، هـو المجتمع الذي يحترم تنوعه ويحميه من كل المخاطر والتحديات.