سلسلة المجتمع المدني يتحدّث (٣) | بقلم ماهر أبو شقرا ، منظم سياسي في”لحقي”
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
المحور الأول:
معضلة القيادة ميزت الحراك اللبناني منذ تحركات عام 2015 وحتى انتفاضة17 تشرين وما تلاها. هناك عدة مقاربات لمسألة القيادة: القيادة تصنع بالتناقض وليس بالوحدة، القيادة تنتج عن الدروس والتراكمات من نجاحات وفشل، لا قيادة موحّدة لأن لا خلفيات ولا رؤى موحدة او اخيراً القيادة الموحدة للثورة ليست قدراً . اين انتم من موضوع غياب القيادة؟
بداية يجب الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية اللبنانية شوهت مفهوم القيادة على مرّ السنين، وفي معظم الأحيان يُنظر إلى القيادة من منظار السياسة في لبنان.
ينتظر من القيادات اليوم أن تكون على شاكلة القيادات السياسية التقليدية، طبعا ليس لناحية الفساد بل لناحية القدرات والأداء السياسي. هناك مقارنة يقوم بها الناس بشكل تلقائي وغير واعٍ بين الكوادر السياسية من ثوار انتفاضة تشرين والقوى السياسية الحديثة التغييرية وبين القيادات السياسية التقليدية. وإذا نحن ننطلق من أفكار ومبادئ ثورة تشرين، فإنه من جملة الأشياء التي يجب أن تهدمها ثورة تشرين هو المعايير والأسس التي تبرز وفقها القيادات، وأيضاً المبادئ.
هناك قيادات في ثورة تشرين، لكن ثورة تشرين والحراك السياسي التغييري بمجمله متنوع بشكل كبير، وقيادته جماعية. حتى أنه هناك نفور تلقائي وغير مقصود يتكون في نفوس الثوار إزاء أي متزعّم، وهذا النفور جزئيًا مردّه نفور من المبادئ التي يقوم عليها النظام السياسي في لبنان: أي الهيمنة الفردية والتسلط. لكن هناك ظلم إعلامي كبير لكوادر التنظيمات السياسية وشبه تغييب.
الظهور الإعلامي يقتصر على الناشطين الذين لديهم علاقات جيدة بالإعلام، أو الذين لديهم خطاب معين متمحور حول الفساد وليس حول البرامج السياسية والمشاريع. وهذا يصعّب المهمة على ظهور كوادر سياسية جديدة.
إذن، المسألة ليست مسألة غياب قيادات بل أزمة غياب المشاريع. هذه المشاريع السياسية تقوم بها تنظيمات سياسية، أحزاب منظمة، لديها رؤيا معينة ومشروع متكامل.
مع الأسف التنظيمات التي لديها مشاريع قليلة جدًا على مستوى قوى الحراك السياسي التغييري، و “لحقي” إحدى التنظيمات التي لديها مشروع وتصور متكامل للمجتمع والبلد. عندما يصبح هناك مشروع ويتكتل أكبر عدد من الناس حوله يصبح هناك توجه سياسي يشكل بوصلة ما يهتدي بها عدد كبير من الأشخاص. هذا هو المعنى الحقيقي للقيادة، وهي أبعد من مسألة أشخاص وتتعداها إلى رؤيا ومشروع سياسي متكامل. وهنا تبرز مسألة أساسية هي مسألة اختيار القيادات.
يجب أن تكون القيادة السياسية للحراك السياسي التغييري منتخبة بشكل ديمقراطي وليس أن تنصب نفسها بناء على امتيازات معينة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
لقد طرحنا منذ بدايات انتفاضة تشرين هذه الفكرة: أن يكون هناك مجالس محلية ومجلس وطني منتخب من الثوار يقوم بمهام قيادة ديمقراطية تشاركية للثورة. إذن، يجب أن نوسع منظارنا للقيادة عندما نتحدث عن انتفاضة وثورة وتغيير سياسي حقيقي ويجب أن نهدم مفاهيم القيادة الكلاسيكية نحو قيادة ديمقراطية تشاركية.
المحور الثاني:
الشللية والتفتت وغياب التحالفات طويلة االجل وغياب المثل المضاد لتشتت السلطة الواسع هم من سمات الحراك. اين تكمن المشكلة بالضبط؟ الأنانية؟ عقلية الإقصاء؟ تمدد مرض السلطة الى الثورة؟
في الواقع إن غياب المشروع السياسي لدى الغالبية الكاسحة لمجموعات وتنظيمات الحراك السياسي التغييري هو العامل الأساسي خلف عدم وجود تحالفات واضحة أو ثابتة.
التحالفات تبنى على أسس معينة وعلى اتفاق سياسي وعلى نقاط التقاء وعلى غياب أي تعارض استراتيجي بين التنظيمات.
هذا مفقود اليوم، وقليلة هي التنظيمات التي لديها مشروع سياسي. يجب أن تعرف التنظيمات على أي أسس تختلف وتتفق. اليوم معظم التحالفات مبنية على تصورات غير دقيقة وعلى انطباعات وعلى أسس شخصانية ووصولية تهدف للوصول إلى مقعد نيابي أو اثنين. معظم التنظيمات مرتبطة بأشخاص محددين، وفي كثير من الأحيان شخص واحد. قوى النظام الحاكم في لبنان جميعها تتبنى برنامجًا موحدًا: المصالح واستدامة الهيمنة والنفوذ والتبعية الإقليمية والدولية. لذلك من السهل على تلك الأحزاب أن تتحالف وتتقاطع.
أما القوى السياسية التغييرية فإن تحالفاتها يجب أن تبنى على أساس سياسي واضح ومشروع سياسي ونقاط التقاء، وهذا أصعب، ويتطلب أن تتبلور تلك المشاريع لكي تبنى التحالفات على أساسها، وإلا ستبقى التحالفات مزاجية وظرفية وتنافسية تتمحور حول أفراد بدلاً من البرامج والمبادئ. ثم إن معظم المجموعات صغيرة، وبعضها عدد أعضاؤها لا يتعدى أصابع اليدين أو حتى اليد الواحدة.
أي جبهات وأي تحالفات تقوم على هذا العدد الضئيل من الأشخاص؟ يجب أن تتبلور مشاريع سياسية وأن ينضم الناس على أساسها إلى المجموعات لكي تتحول هذه المجموعات إلى تنظيمات سياسية حقيقية فيها مئات وآلاف الأعضاء. وعلى المجموعات الصغيرة جدًا أن تندمج لتشكل تنظيمًا أوسع وأكبر. عندها يصبح هناك للتحالفات السياسية معنى حقيقيًا ودورًا مؤثراً.
هذا ما فعلناه في “لحقي” إذ ركزنا ونركز على نمو التنظيم وانتشاره وهو اليوم يضم مئات الأعضاء والعضوات منظمين ومنظمات بشكل قاعدي لامركزي وعلى أسس الديمقراطية المباشرة والتشاركية.
المحور الثالث:
الطريق الى التغيير يكون عن طريق الإنتخابات أولًا او إطاحة الطبقة اولاً؟ هل لا زالت الأمال قائمة في اي انتخابات مقبلة؟ ماذا عن ما يحكي عن انتصار الثورة المضادة وإعادة امساك الطبقة السياسية بالوعي؟
ليس للتغيير في لبنان درب وحيد، بل مسارات وأدوات متعدّدة. نحن في “لحقي” نتبنى هذه الوجهة. بالدرجة الأولى، يجب تأمين صمود المجتمع لأنه من دون صمود المجتمع والناس لا إمكانية ولا مكان ولا معنى للتغيير. وعندما نتحدث عن الصمود، نتحدث هنا عن مقاومة اجتماعية والضغط لتأمين الغذاء والصحة والسكن لجميع الناس لاسيما الفقراء، وتمويل هذه التأمينات من جيوب المسؤولين عن الانهيار. طبعاً لا ننتظر الكثير من السلطة الحالية، لذلك فإن بناء شبكات التضامن الاجتماعي والمؤسسات الاقتصادية التضامنية أساسي لتأمين صمود المجتمع والناس.
المسار الثاني هو مسار انتقال السلطة من قبضة المنظومة الطائفية الحاكمة إلى قبضة الناس. إن هذا المسار الذي نتحدث فيه عن سلطة انتقالية، حكومة انتقالية، يحتاج إلى تعديل كبير في موازين القوى، فالتغيير ليس مسألة تقنية بل سياسية. يجب ألا ننسى أن قوى المنظومة الحاكمة متجذرة في مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية والاقتصاد والمجتمع. وإن إمكانية أي حكومة انتقالية بأن تقوم بإجراءات إنقاذ ومحاسبة حقيقية شبه منعدمة بظل تجذر قوى النظام السياسي وتعاظم قوتها مقابل تضاؤل قدرة الناس اقتصاديًا ونفسيًا. ثم إن السلطة الانتقالية تُعلن ولا يُطالب بها. وهذه من أشد ملاحظاتنا على رفع شعار المطالبة بحكومة انتقالية في المظاهرات. إن السلطة الانتقالية تُعلن في ظرف سياسي معين وبظل موازين قوى مؤاتية. وإذا هذه الظروف وموازين القوى هذه غير متوفرة، ينبغي بناءها.
المسار الثالث هو مسار الانتخابات النيابية. وبظل القوانين الانتخابية الموجودة، وبظل غياب إدارة مستقلة وعدالة في الظهور الإعلامي وغياب تحديد سقف الإنفاق الانتخابي فإن فرص تحقيق خرق جدي من خلال الانتخابات ضئيلة جدًا. لذلك نحن نقارب الانتخابات كمرحلة من مراحل العمل التغييري، وفرصة لإيصال مشروعنا السياسي وبرنامجنا السياسي للناس، وللحشد حول هذا المشروع ولتنظيم الناس حوله. والمقاعد الانتخابية، إذا حصلنا عليها، تكون إضافة ومكسب نراكم عليه وهي ليست هدفًا قائمًا بذاته.
المسار الرابع هو المسار البعيد المدى، وهو المشروع السياسي الذي نرى فيه تغييرًا جذريًا للنظام السياسي في لبنان، وحيث نتصور مجتمعاً وبلدًا مبنيًا على أسس اللامركزية والعلمانية والعدالة الاجتماعية.
المحور الرابع:
بما خص البرنامج، هل يكفي التمايز عن الطبقة السياسية لإعطاء مشروعية لمجموعات الثورة؟ هل هناك مشروعية خارج المشروع التغييري المتكامل؟
إن المشكلة في لبنان هي ليست أزمة فساد فقط كما يتم تصويرها، بل هي أزمة مركبة تبدأ من النظام السياسي وتنتهي بالسياسات الاقتصادية والمالية التي قادت للانهيار. الفساد هو نتيجة طبيعية وحتمية لنظام سياسي طائفي قائم على الزبائنية والتنفيعات والخدمات الضيقة بدلاً من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى رفاهية المجتمع والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
إن اختزال المشكلة بالفساد وكأن المشكلة هي مشكلة أشخاص وليست مشكلة نظام سياسي وسياسات اقتصادية ونموذج اقتصادي يؤدي إلى خطاب سياسي في غالبيته خطاب شعبوي اعتراضي حيث تغيب البرامج والمشاريع السياسية. تصبح المسألة وكأن الهدف هو استبدال أشخاص بأشخاص آخرين غير فاسدين. ولكن أي ضمانات بأن البديل هو أفضل من السابق؟ ليس هناك ضمانات حول الأشخاص. لذلك نجد أن الناس تتردّد في التكتل حول المعارضة لأن معظم المعارضة، خصوصًا التي تظهر على الإعلام، تركز على مسألة الفساد وكأنه هو كل الأزمة وبأن الحل هو رحيل أركان وأفراد المنظومة الحاكمة واستبدالهم بأشخاص آخرين. الناس ليسوا أغبياء وهم يدركون أنه ما من يضمن أن الأشخاص البديلين ليسوا اقل سوءًا أو فسادًا. وهذا من العوامل التي تجعل الثقة ضعيفة بالمعارضة.
جميع الناس، حتى جمهور أحزاب السلطة القائمة اليوم، يدركون أن الأحزاب التي يناصرونها أو يوالونها سيئة. هذا لا يخفى على أحد، غير أن البدائل لا توحي بالثقة. أقصى ما يمكن أن تطرحه هو استقلالية القضاء كحل لأزمة الفساد. غير أن الثقة تتكوّن عندما يصبح هناك مشاريع سياسية تحملها تنظيمات سياسية جدية ومنظمة توحي بالثقة وتوحي بأنها تعرف ماذا تفعل وأي مشروع تحمل وأي أهداف تريد للمجتمع والبلد.
إذن الاعتراض وحده لا يكفي، ومعارضة القوى الحاكمة لا تعطي أي مشروعية. المشروعية تُستمد من عاملين: المشروع والرؤيا السياسية بالإضافة إلى الثقة والتأييد الشعبي. يجب التركيز على هذا الأمر: بناء تنظيمات كبيرة وجدية ليتكتل حولها الناس وليصبح هناك أمل بتكوين شرعية شعبية للثورة تكون بديلة عن شرعية قوى السلطة التي تستمدها من نتائج انتخابات 2018، وهي شرعية ساقطة وظيفيًا بعد ثورة تشرين والانهيار والإفلاس الكامل وتفجير 4 آب الرهيب.
لمن فاتته متابعة الجزئين السابقين: