قصة إبادة الأرمن | بقلم د. كمال اليازجي
منذ سنوات، تقدمت مني مجموعة من الطلاب الأرمن بطلب إلقاء محاضرة عامة في الجامعة في ذكرى 24 أبريل، ذكرى المجازر بحق الأرمن.
جاءت ردة فعلي الأولى بصيغة سؤال: “هل أنتم متأكدون من اختياركم لي؟”. قالوا نعم. أجبت: “بصراحة، أشعر بعدم الراحة. على الرغم من تعاطفي مع الشعب الأرمني، إلا أنني لست خبيراً في موضوع الإبادة الجماعية. ماذا يمكنني ان أقدم او اضيف؟”.
وأضفت: “قبل بضع سنوات، كان لي فرصة حضور محاضرة الدكتور ريتشارد هوفانيسيان من جامعة كاليفورنيا اثناء زيارته لبنان، وهو مرجع رئيسي عن الإبادة الجماعية الأرمنية. كانت المحاضرة رائعة، علمية وأنيقة. ساعتان، شعرت خلالهما انها عشر دقائق. لذا فإن المقارنة مع الدكتور هوفانيسيان لا تخيفني فحسب، بل قد تجعلني أبدو سخيفاً”.
طمأنتني المجموعة الأرمنية بحكمة. قالوا: “نريد فقط أن تقدم قراءة موضوعية”. بعد ادراكي لصعوبة التفلت من الطلب، قبلت. في اليوم التالي، بدأت التحقيق في الموضوع.
غصت في اوراقي المدفونة منذ سنوات، وارتأيت الكشف عن بعضها المتصلة بالموضوع، علها تكون فكرة جيدة. أجريت بعض التغييرات الطفيفة على دراسة قديمة، مع الحفاظ على الأسلوب الأصلي. ثم استدركت ان عليّ استهداف جمهور غير أرمني، فالأرمن يعرفون القصة جيداً. جمهور أوسع قد يحتاج إلى الاطلاع.
24 أبريل… الحدث
في ليلة 23-24 أبريل 1915، اعتقلت الحكومة التركية المئات من قادة الجالية الأرمنية في القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية العثمانية. وتم إرسالهم إلى سجن في الأناضول (تركيا الآسيوية)، بعدها تم إعدامهم.
كان من بين الأشخاص الذين تم اختطافهم في تلك الليلة وجهاء الجالية الأرمنية: القادة السياسيون والدينيون والمثقفون والمهنيون. في نفس اليوم، تم ذبح 5000 من أفقر الأرمن في شوارع القسطنطينية، وفي منازلهم.
إذا، 24 أبريل هو اليوم الذي تعاد فيه الذكرى السنوية للإبادة الجماعية للأرمن، باعتباره تاريخ بداية هذه المجازر.
معنى الإبادة الجماعية
الإبادة الجماعية هي القتل العمد والمنظم لشعب. بسبب نطاقها، تتطلب الإبادة الجماعية تخطيطاً مركزيًا وآلية للتنفيذ. الحكومات وحدها تملك الموارد اللازمة لتنفيذ عمليات قتل جماعي بهذا الحجم.
تعود جذور كلمة “إبادة جماعية” الى مصطلح “genos” اليوناني، وهو يعني العِرق، و “cide”اللاتيني، الذي يعني القتل. صاغ المصطلح رافائيل ليمكين عام 1944، وهو فقيه قانوني أميركي من أصل بولندي يهودي. اتى المصطلح في سياق وصف الممارسات الإجرامية لألمانيا النازية في جميع أنحاء أوروبا المحتلة، وبشكل رئيسي ضد اليهود. لكن ليمكين أشار أيضًا إلى مذبحة الأرمن التي ارتكبتها تركيا.
على مر التاريخ، غالباً ما تعرض السكان المدنيون لوحشية الجيوش الغازية. عندما غزت مجموعة أخرى، كان من الشائع قتل جميع الرجال-المدنيين والجنود على حد سواء. فأسماء كأتيلا، الهون، وجنكيز خان تتبادر إلى الذهن مباشرة.
في الحالة الأرمنية، فقد تم قتل شريحة من السكان بشكل منهجي قامت به حكومتهم. مثل اللصوص في الليل، ارتكب الأتراك جرائمهم تحت غطاء حرب عالمية.
الأرمن في التاريخ
الأرمن شعب قديم. يرجع أصلهم إلى ثلاثة آلاف سنة. تم غزو أرمينيا عدة مرات في تاريخها الطويل والمعقد. ميديس، الفرس، الإغريق، الرومان، البيزنطيين، العرب، السلاجقة الأتراك، المغول، المماليك، الأتراك العثمانيون والروس خلفوا بعضهم البعض.
في بعض الأحيان تعرضت أرمينيا للحكم الأجنبي المباشر، وفي أحيان أخرى حافظت على درجة من الحكم الذاتي في ظل الأمراء الأصليين الذين تبعوا لقوى الأجنبية.
تاريخياً، بنى الملك ديكران الثاني، في أوائل القرن الأول قبل الميلاد، إمبراطورية أرمنية مستقلة امتدت من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط، تضمنت أجزاء من جورجيا وسوريا. كان هذا أوسع نطاق لحكم أرمني في التاريخ، تضمن جنوبي سوريا، إضافة الى لبنان وفلسطين.
هزم الرومان ديكران الثاني في 69 قبل الميلاد فأصبحت أرمينيا جزءًا من الإمبراطورية الرومانية.
في عام 303 بعد الميلاد، أصبحت أرمينيا أول دولة تتبنى المسيحية كدين للدولة – قبل 20 سنة من إعلان الإمبراطور الروماني قسطنطين الدين المسيحي ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية.
بحلول عام 1514، سيطرت الإمبراطورية العثمانية على أرمينيا الغربية. في حين كانت أرمينيا الشرقية تحت الحكم الفارسي حتى عام 1824، الى ان ضمتها روسيا.
مثل الأقليات الأخرى غير المسلمة في الدولة العثمانية، تمت معاملة الأرمن على أنهم “أهل ذمة”. وهذا يعني وضعهم في الدرجة الثانية في سلم المواطنة، دفع ضرائب إضافية، عدم جواز شهادتهم القانونية ومنعهم من حمل السلاح. وكان نظام الملل العثماني قد أعطى للأقليات غير المسلمة حكماً ذاتياً مجتمعياً، بينما حرمها من جميع أشكال المشاركة السياسية. على الرغم من هذه القيود، عاش الأرمن تلك الحقبة في سلام نسبي.
بحلول القرن التاسع عشر عاشت الإمبراطورية العثمانية تدهوراً خطيراً، أنتج نزعة ثقافية وسياسية لدى الشعوب الخاضعة ونضالات للتحرر الوطني، دعمتها أحيانًا القوى الأوروبية، ما نجم عنه خسارة تركية لليونان ومعظم مقاطعات البلقان.
كان الأرمن هم الأقل تشددًا من بين الشعوب الخاضعة للحكم التركي. على عكس البلقان المسيحي أو العرب، فقد تم تفريقهم في جميع أنحاء الإمبراطورية. لهذا السبب، لم يفكر معظم القادة الأرمن في الاستقلال.
تشكلت الجماعات السياسية الأرمنية وبدأت في التحفيز على الحكم الذاتي، وأحيانًا لجأت إلى العنف. وكان قد سعى حزب واحد في غرب أرمينيا، هو الاتحاد الثوري الأرمني، الذي يُطلق عليه عادة اسم طاشناق Dashnak أو Tashnag ، إلى الاستقلال داخل الإمبراطوريتين العثمانية والروسية. في حين دعا حزب الهانشاك Hunchak إلى أرمينيا اشتراكية مستقلة.
تعاملت الحكومتان العثمانية والروسية مع مطالب القوميين الأرمن بالقمع. بين 1894 و1896، قتل العثمانيون مئتي ألف أرمني في ظل حكم السلطان عبد الحميد الثاني. هذه الموجة المبكرة من القتل تسمى “المجازر” أو “المجازر الحميدية” لتمييزها عن الفظائع الكبرى أي الإبادة، التي ستحصل لاحقاً. على الرغم من أن قمعها ليس بمستوى الحكومة العثمانية، فقد قامت الحكومة الروسية بإغلاق المدارس الأرمنية وصادرت ممتلكات الكنيسة.
الإبادة
حدثت الإبادة الجماعية خلال الحرب العالمية الأولى. اتخذ قرارها الحزب الحاكم في الدولة العثمانية المعروف باسم جمعية الاتحاد والترقي الذي أطاح بالحكم العثماني، والتي يطلق عليها العموم اسم الأتراك الشباب. كان الحزب الحاكم عبارة عن مجموعة قومية عنصرية معادية للأجانب، أرادت دولة تركية جديدة متجانسة، كبديل عن الإمبراطورية العثمانية المتحللة والمتعددة الجنسيات. دعت أيديولوجية الحزب، التي تعرف بالبانطورانية Pan-Turanism إلى دولة يكون سكانها أتراك حصراً، ما “برّر” تصفية الأرمن في الإمبراطورية.
سيطرت ثلاث شخصيات على هذا التيار: محمد طلعت باشا، وزير الداخلية عام 1915 ورئيس الوزراء عام 1917؛ إسماعيل إنفر باشا، وزير الحرب؛ وأحمد جمال باشا، وزير البحرية ووالي سوريا.
ولتنفيذ الإبادة الجماعية، تم إنشاء وكالة سرية تسمى “المنظمة الخاصة”. المسؤول عن هذه المنظمة هو بهاء الدين صقر، وهو طبيب. أنشأت المنظمة الخاصة “كتائب خاصة” تتكون من المجرمين العنيفين الذين أطلق سراحهم من السجون. وتم فصل المسؤولين العثمانيين الذين لم يلتزموا ببرنامج الإبادة. كما امتد العنف الى الأتراك العاديين الذين قتلوا لمحاولتهم حماية الأرمن. سارت الإبادة الجماعية بطريقة منهجية، ما يثبت أن قرار القضاء على الأرمن لم يكن قرارًا متسرعًا تمليه الظروف، بل نتيجة لمداولات مكثفة.
أولاً، تم تجريد المجندين الأرمن في الجيش العثماني من السلاح، ووضعوا في فيالق العمل، وقتلوا على دفعات.
بعدها جاءت اعتقالات 24 أبريل/نيسان، وتم القبض على وجهاء ومثقفين أرمن ثم قتلوا.
أخيراً، تم جمع الأرمن المتبقين معاً، وابلغوا أنه سيتم نقلهم، ثم أجبروا على الذهاب إلى معسكرات الاعتقال في الصحراء السورية. تمثل عمليات الترحيل فصلاً آخر من فصول المذبحة. فقد فُصل الذكور البالغين والمراهقين عن قوافل الترحيل وتم قتلهم. في بعض الأحيان تم ربطهم بمجموعات وإلقائهم في الأنهر، وكان الحراس الأتراك يطلقون رصاصة على رأس أحدهم فيسحب جسده المجموعة الى قعر النهر.
تم دفع النساء والأطفال لعدة أشهر فوق الجبال والصحاري. في المسيرة، غالباً ما حُرموا من الطعام والماء. جاع الكثيرون وعطشوا حتى الموت تحت الشمس الحارقة. تعرضت عشرات الآلاف من النساء الأرمن للاغتصاب على أيدي حراسهن الأتراك. تم تعذيب العديد منهم أو قتلهم على أيدي حراسهم أو من قبل اللصوص. سقط مئات الآلاف على طول الطرق المؤدية إلى الصحراء.
تجددت الفظائع بين عامي 1920 و1923. وقد قام بها هذه المرة القوميون الأتراك الذين مثلوا حركة سياسية جديدة معارضة للأتراك الشباب، لكنهم تشاركوا في الأيديولوجية العنصرية.
اكتمل الفصل الأخير من معاناة الأرمن في الأناضول، في سميرنا (إزمير) عام 1922. حيث أدى حريق في الحي الأرمني إلى استهلاك الجزء المسيحي من المدينة بأكمله، ودفع السكان إلى الشاطئ حيث أبحروا إلى المنفى محرومين من جميع ممتلكاتهم.
الإنكار
اعترفت الدولة الألمانية التي خلفت النازيين بذنبها التاريخي في المحرقة اليهودية. ومع ذلك، نفت الحكومات المتعاقبة في تركيا -باستثناء واحدة- ارتكاب إبادة جماعية.
لكن الإبادة الجماعية وقعت تاريخياً وبوضوح كامل. شهدها مئات المبشرين والدبلوماسيين المتمركزين في الإمبراطورية العثمانية، وعلى رأسهم هنري مورغن ثاو، السفير الأميركي. تمت تغطية الإبادة الجماعية بشكل جيد في وسائل الإعلام الأميركية والغربية وتم استنكارها في باريس ولندن وواشنطن باعتبارها جريمة حرب. حتى ألمانيا والنمسا، اللتان كانتا حليفتين لتركيا، أدانتها.
وقد اعترف الأتراك أنفسهم بذلك في أوقات سابقة. بعد الحرب، في عام 1919، عقدت حكومة دامات فريد باشا محاكمات جرائم الحرب وحكمت بالإعدام على كبار مرتكبي الإبادة الجماعية. في مقابلة عام 1926 مع مراسل سويسري، صرح مصطفى كمال عن الشباب الأتراك ما يلي: “يجب أن يُحاسبوا بسبب مسؤوليتهم عن حياة الملايين من رعايانا المسيحيين الذين طردوا بلا رحمة بشكل جماعي من منازلهم وذبحوا”.
إذن كيف يمكن لتركيا إنكار الإبادة الجماعية؟
لا تنكر تركيا مقتل العديد من الأرمن، لكنها تصر -وهذه هي النقطة الأساسية- على أنها لم تكن إبادة جماعية مخططة.
يسير السرد التركي إلى حد ما على النحو التالي… ما حدث في عام 1915 لم يكن إبادة جماعية. لم تكن هناك خطة متعمدة للقضاء بشكل منهجي على السكان الأرمن، كما يشير مصطلح الإبادة الجماعية. تم طرد الأرمن فقط من “منطقة الحرب”. كان لا بد من نقلهم من جبهة الحرب الشرقية حيث كانوا يساعدون الروس الذين وعدوهم بوطنهم. ارتكبت الفظائع من كلا الجانبين، كما يحدث في جميع الحروب. ذبحنا الأرمن. ذبحناهم. كانت حرب أهلية. توفي العديد من الأرمن في القتال العرقي والترحيل، نتيجة للإجراءات القمعية التي نفذت في سياق الحرب. ما حدث خلال الحرب كان مأساة وليس إبادة جماعية…
لكن في الواقع، تم محو الوجود الأرمني من كل الأناضول، وليس فقط من المناطق الشرقية. صحيح أن العديد من الأرمن قاتلوا لحماية أنفسهم، لكن هذا لا يجعلها حرباً أهلية.
تعترض تركيا كذلك على الأرقام، حيث قدرت عدد القتلى بـ 600.000، بدلاً من 1.5 مليون، الرقم الشائع. ولكن هل هذا يحدث فرقاً؟ هل يغير من الحقيقة الأساسية التي حدثت، المذبحة، الإبادة جماعية؟ هل ستجعل فوارق الأرقام من الحدث أقل أهمية، وأقل من إبادة جماعية؟ إن مسألة عدد الضحايا برمتها ليست ذات صلة وهي غير لائقة.
لكن لماذا تنفي تركيا الإبادة الجماعية؟
سببان. واحد يتعلق بنزعة الغرور القومي المبالغ فيه. والآخر يتعلق بالخوف من التعويضات. تخشى تركيا أنها إذا اعترفت بالإبادة الجماعية، فإن المطالبة بالتعويضات ستتبعها، وسيتعين عليها إعادة الأرمن إلى الأراضي والممتلكات المصادرة بعد عام 1915.
يعتبر الأرمن الإنكار التركي جريمة قتل ثانية. لكن المفارقة ان هذا الانكار يساهم في تحفيز الوعي الأرمني.
لماذا يجب أن نتذكر الإبادة الجماعية للأرمن؟
عادة ما يحب الضحايا مشاركة حزنهم. إنهم يحبون أن يشعروا بأنه قد تم الاعتراف بحزنهم.
ولكن هناك سبب آخر يمنعنا من النسيان. بتجاهل الإبادة الجماعية الأرمنية، فقد تم إعداد المسرح لمحرقة الحرب العالمية الثانية ولمجازر أخرى. فهتلر لم يترك ذكر المجزرة الأرمنية يذهب سداً. قبل إرسال قواته إلى بولندا، ورد أن هتلر قال لضباطه: “امضوا قدماً، اقتلوا بدون رحمة. فمن الذي يتذكر اليوم إبادة الأرمن؟”.