العرب بين التنين الصيني والعم سام الأميركي | بقلم خالد زين الدين
شَهدت العاصمةُ السعودية “الرياض” قممٌ ومحادثات عدة بين الرئيس الصيني “شي جين بينغ” والقادة العرب وأسفرت تلك القمم عن وعودٍ وإتفاقات على شراكاتٍ طويلةُ المدى، ومكاسب سياسية وإقتصادية لكلا الطرفين وكذلك إتفاقات بشأنِ القضية الفلسطينية وفي تلك الأثناء أعربت واشنطن عن غضبها من تلك القمم والمحادثات وخاصة مع شُعورها بإقصاء العرب عنها وهي التي دائمًا ما تُهدد وتتوَّعد، ولكنها لم تَترك زمام الأمور وإنما تبذُل كل مساعيها بإتجاه تغيير سياستها ومحاولتها البقاء حتى اللحظة الأخيرة.
وعلى الجانب الآخر نجحت الصين في فرض سيطرتها سريعًا، فلم يَخرج الرئيس الصيني خارج حدود بلاده منذ بداية جائحة كورونا سِوى مرتين: الأولى حينما زار كازاخستان وأوزباكستان، والثانية عندما ذهب إلى الرياض لعقد إجتماعات مُطولةً مع القادة العرب التي كانت قد تأجلت لعامين؛ وسنحت الفرصة أن تُعقَد في ذروة الأزمات العالمية الحالية.
ما نَتيجة تلك القمم؟
وما هي ملامِح العلاقات العربية الصينية؟
عقد الرئيس الصيني ثلاثُ قمم عقب إنتهاء زيارته إلى المملكة العربية السعودية.
القمةُ الأولى كانت سعودية صينية، والثانية خليجيةٌ صينية، والثالثة عربيةٌ صينية، أسفرت هذه القمم عن مجموعة من الصفقات والإتفاقات لمصلحة الطرفين؛ فالصين ترى أن الوقت قد حان للتخلص من فرضية القطب الواحد، وضرورة أن يكون العالم مُتعدد الأقطاب ولا تتحكم فيه دولةٌ واحدة، وهو ما تؤيده روسيا التي ترى أن العرب يُمثلون قُطبًا مهمًا ورئيسيًا من العالم خاصة في ظل ما يحدث من توازناتٍ إقليمية وعالمية، وهو ما يُعدُ تحديًا كبيرًا لهيمنة واشنطن وسيطرتها العالمية على الشرق الأوسط تحديدًا.
كل هذا لم يقف عائقًا أمام بكين التي عقدت قممها في الرياض والتي كان قد تم الإعلانُ عنها في مطلع عام 2020 ، ولكن تسببت جائحة كورونا في تأجيلها لتُعقد في ديسمبر / كانون الأول من العام 2022، مَصحوبة بمجموعة من التغيرات العالمية الكبيرة ، حيث إشتد الصراع بين الصين وأمريكا، وأسفر ذلك عن صراعٍ مفتوح بين واشنطن وروسيا حليفة الصين في أوكرانيا وخاصة
في ظل التغيرات التي يشهدها العالم في الوقت الراهن.
هل قلبت الصين الطاولة على واشنطن بتلك القمم؟
شهدت القمم التي عقدها الرئيس الصيني في الرياض مجموعة من الملفات المهمة أبرزُها تأمين مبادرة الحزام والطريق، وتنفيذ إتفاقية التجارة الحُرة مع الدول العربية، ولاقت هذه الملفات نجاحًا كبيرًا؛ وخاصة مبادرة الحزام والطريق التي تعمل عليها الصين منذ سنوات وتُعتبر الدول العربية رُكنًا أساسيًا فيها ولا يمكن تنفيذها دون الإتفاق معها.
وإتفق المشاركون على تعزيز الشراكة بين الطرفين فيما يتعلق بتنفيذ مبادرة الحزام والطريق، كما إتفقوا على عقد نسخةٍ ثانيةٍ من القمة في بكين، وذلك في وقتٍ لاحق يتم الإتفاق عليه فيما بعد، وكذلك أكد البيان الختامي للقمة العربية الصينية على تعزيز الشراكة بين الدول العربية والصين، والعمل على تعميق التعاون العربي الصيني في كافة المجالات، من أجل تحقيق التنمية المستدامة.
وأوضح البيان أن المشاركة في تنفيذ المبادرة سوف يَمنح المِنطقة فُرصًا هائلة لتقديم الرؤى التنموية للدول العربية، وهذا يعني تحقيق منفعة متبادلة لصالح الطرفين.
وفيما يتعلق بإتفاقيات التجارة الحرة بين الصين ودول الخليج، فقد أوضح بيان القمة بأنه سوف يتم إستكمال المفاوضات التي إنطلقت عام 2004 من جديد ، والتي عُقد منها حتى الآن 9 جولات ، حيثُ عُقدت الجولة التاسعة في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2016 وذلك بعد مُضي 7 أعوامٍ على الجولة الثامنة التي تم فيها تعليق المفاوضات لعدةٍ أسباب ذكرتها وزارة التجارة الصينية على موقعها الإلكتروني؛ وأهمها :
التغيرات التي شهدتها السوق الدولية عقب الأزمة العالمية، مما إستدعى توقف دول مجلس التعاون لجميع المحادثات التي تتعلق بإتفاقية التجارة الحرة مع 17 دولة ومنظمة إقليمية.
وصرحت الوزارة آنذاك أنه في عام 2009 تَوصل الطرفان إلى إتفاقٍ بشأن إختتام المفاوضات، ودخول 97 % بالمئة من السلع إلى الأسواق في إطار تجارة السلع، أما جولة المفاوضات الأخيرة التي عُقدت في عام 2016 تضمنت المسائل العالقة والتي من بينها تجارة الخدمات والإستثمار والتجارة الإلكترونية وتجارة السلع.
وأعلنت الوزارة الصينية آنذاك بأن المفاوضات قد إنتهَت بالموافقة النهائية على التعاون الإقتصادي والفني، والموافقة المبدئية على معاهدة تذليل العوائق أمام التجارة ومواد القانون والتجارة الإلكترونية.
وقد أكد البيان الأخير لقمة الرياض ثناءَ القادة خلال إجتماعهم على ضرورة التعاون بين الجانبين وخاصة في مجالات الطاقة والتجارة والإستثمار والمالية والصناعة والتكنولوجيا المُتقدمة والفضاء والصحة، مِما يُحقق المصلحة المشتركة للجانبين، ويَشمل أيضًا إستكمال مفاوضات التجارة الحرة بينهما في أقرب وقتٍ؛ وهو ما تَسعى إليه الصين على وجه الخصوص مع مبادرة الحزام والطريق.
تهدُف الصين من خلال تلك الإتفاقية للحصول على تصريح رسمي بالدخول التجاري لمنطقة الخليج، حيثُ ترى أن الموقع الإستراتيجي للخليج يُمثل فرصة سانحة لها يُمَّكنها من خلالها تحقيق الإنتشار، وذلك بإعتبار الخليج نقطة تمركز تنطلق الصين من خلالها إلى سائر أنحاء العالم، كما أن البنية التحتية التي تمتلكُها دول الخليج تَجعلها قادرة على إستيعاب كمياتٍ هائلة من البضائع في ظل وجود كافة الإمكانيات والمواقع لتنفيذ مختلف المشاريع سواء كانت موانئ أو مخازن للبضائع في مناطق شديدة الإتساع.
ودعا الرئيس الصيني “شي جين بينغ” قادة دول الخليج العربي إلى بيع النفط والغاز لبكين باليوان الصيني، وهو ما يُعتبر ضربة قاسية للولايات المتحدة الأميركية، إذ أن هذه الخطة تُعتبر بمثابة دعم لبكين في ترسيخ عملتها على المستوى الدولي وإضعاف هيمنة الدولار الأميركي على التجارة العالمية، ولا شك بأن التخلي عن إستخدام الدولار في تجارة النفط يُمثل زلزالًا سياسيًا كانت الرياض قد هددت به في الماضي، للتصدي لجهود الولايات المتحدة الأميركية في محاولتها لإصدار تشريعٍ أمريكيٍ محتملٍ يُعرض أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول 《أوبك》 لدعاوىٍ قضائيةٍ لمكافحة الإحتكار، وبذَلت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها ، مساعيها لمقاومة الضغوط الأميركية للتخلي عن روسيا بعد حربها على أوكرانيا، وللحد من التعاملات مع الصين، حيث تسعى هذه الدول إلى التعامل مع نظامٍ عالميٍ يشهد إستقطابًا مع التركيز على إقتصاداتها ومصالحها الأمنية بعيدًا عن الصراع الروسي الأميركي المستمر.
وعلى الصعيد السياسي، أسفرت القمم الثلاث عن عدة نقاط أظهرت مدى تقارب الطرفين في بعض وجهات النظر؛ فعلى الصعيد الإيراني، إتفق الطرفان على ضرورة تعزيز التعاون المشترك لضمان سِلمية البرنامج النووي الإيراني، ووجه الجانبان دعوةً لإيران للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والحفاظ على منظومة عدم الإنتشار، وأكدا على إحترام مبادئ حُسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
أما في ما يتعلق بالملف الفلسطيني، ناقش الجانبان تطورات القضية الفلسطينية، وأكدا على ضرورة تكثيف الجهود التي تسعى للتوصل إلى تسويةٍ شاملةٍ وعادلة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي ، وإيجادِ سُبل فعالة يمكن من خلالها تحقيق السلام وفقًا لمبدأ حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية بما يضمن للشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته المستقلة على حدودها التي سُلبت عام ١٩٦٧ وعاصِمتها القدس الشرقية.
أما فيما يتعلق بالملف السوري، حرص الجانبان على ضرورة تكثيف الجهود للوصول إلى حلٍ سياسي يكفل وحدة سوريا وسلامة أراضيها ويُعيد لها أمنها وإستقرارُها وإقصاء الإرهاب عنها وإتاحة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين، كما أكد الجانبان على إستمرار دعمهما لجهود الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص لسوريا.
وعلى الصعيد اللبناني، أوضح الجانبان مدى حِرصهما على أمن الأراضي اللبنانية وإستقرارها ووحدة أراضيها، وشددّا على ضرورة إجراء الإصلاحات اللازمة ودعم سُبل الحوار والتشاور بما يضمن تجاوز الأزمة اللبنانية؛ مع الحرص على ألا يكون ذلك نقطة إنطلاق لأي أعمالٍ إرهابية، أو بؤرة للتنظيمات والجماعات الإرهابية التي تتسبب في زعزعة أمن وإستقرار المنطقة أو ربما تكون معبرًا لتهريب المخدرات.
وبالنسبة للشأن العراقي، أكد الجانبان على دعمهما للعراق، ورحبا كل الترحيب بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة.
وفيما يتعلق بالشأن الأفغاني، أكد الجانبان على ضرورة دعم كل السبل التي تُحقِّق الأمن والإستقرار في البلاد بما يضمن أن لا تصبح أفغانستان ملجئًا للجماعات الإرهابية والمتطرفة.
وتناول البيان الختامي في النهاية الأزمة الأوكرانية، حيث تَطرق الجانبان إلى ضرورة تسوية الخلافات بالسبل السلمية، وبذل كافة الجهود الممكنة لخفض التصعيد، مما يُسهِم في إعادة الأمن والإستقرار، ويقلل من التبعيات السلبية لهذه الأزمة على مستوى العالم أجمع.
وكذلك أكدت القمم على مبدأ صينٍ واحدةٍ والتي من بينها تايوان ورفضت أي محاولات لمنح تايوان الإستقلال التام عن الصين الأُم.
وتطرق البيان الختامي أيضًا لإتفاق سعودي صيني يتضمن تعزيز التعاون الدفاعي والعسكري مستقبلًا وذلك حرصًا على مصلحة الجانبين والحفاظ على أمنهما وإستقرارهما.
ولكن ما الذي يثير قلق واشنطن بصدد هذه الإتفاقيات والصفقات وتطابق وجهات النظر؟
عُقدت قمم الصين الثلاث بعد ثلاثة أشهر من عقد قمة أمريكية سعودية وقمة عربية سعودية في المملكة العربية السعودية أيضًا وبحضور الرئيس الأميركي جو بايدن، لكنها لم تنل كل هذا الصدى سواءً فيما يتعلق بالإستقبال أو الإتفاقيات ولا حتى على مستوى الإعلام، ووُصِفَت حينها أنها بمثابة صفعة كبيرة وجهتها الرياض لواشنطن، إذ لم ينجم عنها أيةُ إتفاقات بشأن مطالب واشنطن التي كانت تسعى لأن تكون دول الخليج والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص بديلًا عن روسيا خاصة فيما يتعلق بملف الطاقة بالنسبة لأوروبا، وهو ما رفضته المملكة رفضًا قاطعًا، وأكدت على إلتزامها بالإتفاقيات الدولية وعدم السماح بتحويل سوق العمل إلى سوق عالمي للمضاربة.
ولا شك أن القمم التي عقدتها الصين زادت من حدة التوتر، حيث عززت تلك القمم من شراكاتها مع العرب، ووضعت الحجر الأساس لمستقبل العلاقات معها، مما يضمن لها تنفيذ المبادرة التي تسعى واشنطن إلى عرقلتها، وهي 《مبادرة الحزام والطريق》 وإضافة إلى ذلك فإن توقيع الصين لمجموعة من الإتفاقيات والصفقات مع دول الخليج سيعود بلا شك بالفائدة عليها مع مرور الوقت، في حين أنها تعاني من ديون كبيرة على المستوى الداخلي.
ورسخت الصين بذلك فكرة عدم وجود قطب واحد في العالم، ودَعمت وجود أقطاب عديدة يُمكنها قلب الموازين وعقد الإتفاقيات دون موافقة واشنطن.
ولعب العرب دورًا بالغ الأثر في حل بعض المشكلات منذ إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية أحدثها تدخل الإمارات والمملكة العربية السعودية في عملية تبادل الأسرى بين واشنطن وموسكو؛ في حين أن واشنطن ترددت في الإعلان عن هذه الوساطة، في الوقت الذي كان فيه العرب يستقبلون الرئيس الصيني بالرياض.
وبشكل عام جاءت لقاءات العرب مع الصين في وقت حساس تتغير فيه كافة المعادلات الدولية، فواشنطن التي تريد أن تبقى سيدة العالم، وروسيا التي تسعى إلى كسر جماح واشنطن، والصين التي تريد أن تكون حليفة الجميع فيما عدا واشنطن حتى تصبح من بين الكبار في كافة المجالات، وترى أن الإتفاق مع العرب يُمثل ركيزةً أساسيةً للوصول لتلك المكانة.
في غضون تلك الأوضاع لا شك أن هناك مستقبل كبير ينتظر العرب مع الصين، وربما تَخرج واشنطن عن هدوءها وتُفجر غضبها، أو ينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى إنكسار واشنطن وتسليمها بالأمر الواقع دون عودة، في عهد أصبح فيه العرب يفرضون هيمنتهم دون ضوء أخضر من أحد.
فهل زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض ستكون البداية في إزاحة أمريكا عن عرش العالم ؟
أم أنها ستكون البداية في إنهاء الحلم الصيني وتدمير مشروعها في التوسع والسيطرة على العالم ؟
وهل ستنجح الصين في كسر مبدأ القطب الأوحد ؟
أم أن الولايات المتحدة الأميركية ستنهي حلم التنين الصيني وتعيده إلى مكانته الحقيقية؟
لقراءة الأجزاء الـ20 السابقة من ملف القمم العربية الصينية : اضغط هنا