الاحدثالملف العربي الصيني

الفرص والتحديات وتوقّعات المستقبل من منظورَي الرياض وبكين | بقلم وارف قميحة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبات تطوير العلاقات الثنائية مع مناقشة المستجدات اتي تهم الرياض وبكين.

يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية.

وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع ان علاقات التعاون والتبادل التجاري بدأت قبل عقود قبل ذلك بين البلدين. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

تُعدّ الصين اليوم لشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهم في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023.

تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيس، وتعتبر المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ 55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ”edgemiddleeast “، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استنادا إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية.

وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام “مؤتمر الأعمال العربي الصيني” الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك،. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفدًا كبيرًا بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر “دافوس الصيفي” في الصين.

وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى “معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة” الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفعالية في المعرض والجناح السعودي المعنون “استثمر في السعودية”.

كذلك وقعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق “رؤية 2030” التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة “تي سي إل تشونغ هوان” لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية وشركة توطين للطاقة المتجددة وشركة “رؤية للصناعة” السعوديتين لتأسيس شركة باستثمار مشترك من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقا للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك حوالي 2.08 مليار دولار.

التعاون السياسي والدبلوماسي

تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما ادى الى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين أسهم في توطيد الاستقرار وقلل من حدة التوترات وعزز من الأمن الإقليمي.

الزيارات الرسمية والقمم

المعروف انه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا.

وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية، خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل.

بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في “قمة الرياض”، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا.

من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة كوفيد-19 وتعزيز العلاقات الاقتصادية، وزار وزير الطاقة السعودي الصين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، ووقّعت حينذاك اتفاقيات لتعزيز التعاون في مجالات الطاقة النظيفة وتقنيات الهيدروجين.

رؤية استراتيجية وحسابات مستقبلية

وباتجاه تحقيق “رؤية 2030″، التي تهدف عبرها السعودية إلى تنويع اقتصادها وتطوير قطاعات جديدة مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا، يبرز التركيز السعودي على تعزيز العلاقة مع بكين كجزء من استراتيجية شاملة لتعزيز الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية المستدامة.

وفي هذا السياق، انضمت السعودية إلى “منظمة شنغهاي للتعاون” في عام 2021، ما يعكس رغبتها في تعزيز الروابط الاقتصادية والأمنية مع دول آسيا. وتعزّز هذه الخطوة من مكانة السعودية كداعم رئيس لمبادرة “الحزام والطريق”، وتفتح آفاقاً جديدة للتعاون في مجالات متعددة تشمل التجارة والاستثمار والبنية التحتية.

الثقافة والتعليم والمشاريع المشتركة

وحقاًـ شهدت العلاقات الثقافية الثنائية نموّاً ملحوظاً، تمثّل بتوقيع عدد من الاتفاقيات الثقافية والتعليمية، وتضم هذه الاتفاقيات تبادل الطلاب والباحثين وتنظيم الفعاليات الثقافية المشتركة. وعام 2019، افتتحت السعودية “مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لدراسات اللغة العربية” في بكين لتعزيز التبادل الثقافي واللغوي بين الشعبين.

ايضاً، سعيًا لتعزيز التعاون الثنائي، اتُّفق إبّان زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى بكين على إدراج اللغة الصينية كمقرّر دراسي في جميع مراحل التعليم بالمملكة. وتهدف هذه الخطوة بجانب تعزيز الروابط الثقافية والتجارية، إلى توفير فرص جديدة للطلاب السعوديين. وفي هذا دعم لأهداف “رؤية 2030″، وفتح أبواب التعاون في المجالات العلمية والتجارية، وفرصة تخلق 50 ألف وظيفة لمعلمين سعوديين، وتعزيز لقدرة السعودية على الاستفادة من الاقتصاد الصيني، ما يخدم الأهداف السياحية والتجارية للمملكة، بما في ذلك اجتذاب 20 مليون سائح صيني.

من أبرز المشاريع المشتركة بين السعودية والصين مشروع مدينة جازان الاقتصادية ومشاريع أخرى ضمن مبادرة “الحزام والطريق”. وتشارك الشركات الصينية راهناً في تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى في المملكة، كمشروع “نيوم” الضخم المشيدة مرافقه في شمال غرب المملكة العربية السعودية ومن المتوقع أن تستوعب 450.000 شخص بحلول عام 2026. وقد حظي أحد التطورات داخل “نيوم” والمعروف باسم “ذا لاين”، بأكبر قدر من الاهتمام لكونه أول مدينة مغلقة بالكامل بطول 170 كم وعرض 200 متر وارتفاع 500 متر.

التكنولوجيا والابتكار

ومن جهة ثانية، يعد التعاون في مجالات التكنولوجيا والابتكار من الركائز الأساسية للعلاقات السعودية الصينية، إذ تسعى المملكة إلى تعزيز شراكتها مع الصين في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية والطاقة النظيفة. وفي هذا السياق، شاركت شركة هواوي في بناء شبكة الجيل الخامس والشبكة الأساسية لنقل المعلومات ومركز البيانات والمنصة السحابية ومنصة الذكاء الاصطناعي في مدينة نيوم السعودية تلقت شركة “بوني إيه آي Pony.ai” الصينية للقيادة الذاتية تمويلا بقيمة 100 مليون دولار من صندوق استثماري تابع لمدينة نيوم.

ويضاف إلى ذلك، تأسيس الجانبين شركة مشتركة في “نيوم،” حيث يُعد أسطول سيارات الأجرة الذاتية القيادة (Robotaxi) ومركز إنتاج وتصنيع وبحث للقيادة الذاتية.

وشاركت شركة داهوا تكنولوجي أيضاً في بناء مركز تصنيع التكنولوجيا المستدامة في المملكة. وأنشأت مشروعاً مشتركاً مع شركة آلات، المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة، لإنشاء الشركة الجديدة “آلات إيه آي فيزيو تكنولوجي المحدودة” (إيه آي فيزيو) لاستكشاف المدن الذكية والنقل الذكي والمباني الذكية والتعليم الذكي بشكل مشترك وغيرها من مجالات البنية التحتية الحضرية. وجرى توقيع توقيع العديد من الاتفاقيات التي تدعم هذا التعاون، مثل مذكرة التفاهم بين “مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة” و”مؤسسة الطاقة النووية الصينية” لتعزيز البحث والتطوير في مجال الطاقة المتجددة.

تطوير البنية التحتية والمشاريع الكبرى

وأخيراً، لا آخراً، ضمن اطر تعاون السعودية والصين في المشاريع الكبرى، تُعد مبادرة “الحزام والطريق” منصة أساسية لتعزيز التعاون في البنية التحتية. وفي طليعة هذه المشاريع، كما سبق، مدينة “نيوم” التي يساهم فيها عدد من الشركات الصينية الكبرى، بما في ذلك “شركة الصين للطاقة الكهربائية” و”شركة الصين للبناء والهندسة”. ومعلوم أنه في مجال المياه والزراعة، رحّب الجانب السعودي بدخول القطاع الخاص الصيني في شراكة مباشرة مع القطاع الخاص السعودي للاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة في المملكة ضمن مجالات محطات تحلية المياه المالحة، ومياه الشرب، وخطوط نقل المياه، ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، والسدود، وتنظيم أنشطة تجارية بين ممثلي القطاع الخاص في البلدين لمناقشة إمكانيات الاستثمار في القطاع الزراعي والصناعات الزراعية والغذائية، وتنمية المشاريع الاستثمارية الزراعية.

تُعَدُّ الشراكة بين السعودية والصين فرصة كبيرة لتعزيز التعاون في مجالات حيوية عدة. إذ يوفر التعاون في الطاقة النظيفة والابتكار التكنولوجي فرصاً لدعم أهداف السعودية في تحقيق «رؤية 2030» وزيادة استخدام الطاقة المستدامة، كما أن الاستثمار في مشاريع كبرى مثل «نيوم» يفتح آفاقاً واسعة للتنمية المستدامة ويعزز من النمو المشترك.

في مجالات التكنولوجيا والابتكار، يعزّز التعاون في قطاعي الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية من قدرة السعودية على تحقيق أهدافها التكنولوجية، ويقوّي الروابط الاقتصادية بين البلدين، ومن جهة أخرى، يعزز التبادل الثقافي والتعليم من العلاقات الإنسانية ويزيد من التعاون بين الشعبين.

مع هذا، تواجه الشراكة تحدياتٍ قد تؤثر على العلاقات الثنائية، وتشمل هذه التحديات التوترات الجيوسياسية الدولية التي تتطلب مزيداً من الحكمة والروية من أجل درء تعارض المصالح، والتقلبات الاقتصادية العالمية التي قد تؤثر على حجم التبادل التجاري والاستثمارات. ولا شك أن الاختلافات الثقافية والسياسية تستوجب تعزيز الحوار والتفاهم، كما يتطلب تحقيق التنمية المستدامة التنسيق بين المشاريع المشتركة وضمان توافقها مع معايير البيئة.

مستقبلاً، يتوقع أن يزداد التعاون في الطاقة النظيفة – وتقف مشاريع مثل «نيوم» حافزاً كبيراً لتعزيز الاستثمارات الصينية في المملكة -، كذلك عبر تكثيف الفعاليات الثقافية والتبادلات التعليمية، يؤمل تمتين الروابط بين الشعبين، ويمكن أن يشمل التعاون المستقبلي المجالات الأمنية مثل مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني لتعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. وحقاً، من شأن دعم السعودية مبادرة «الحزام والطريق»، الإسهام في تعزيز البنية التحتية والنقل بين الصين والشرق الأوسط، مع الأخذ في الحسبان تكيّف الشراكة مع التحديات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية باعتماد استراتيجيات مرنة.

إن العلاقات السعودية الصينية اليوم نموذج للشراكة الاستراتيجية المتكاملة التي تستند إلى المصالح المشتركة والرؤية المستقبلية، ومع مواصلة تطوير هذه الشراكة يتوقع أن تشهد العلاقات بين البلدين مزيداً من النمو في مختلف المجالات؛ ما يخدم مكانتيهما على الساحة الدولية. وأخيراً، إن الشراكة بين السعودية والصين لا تقتصر على تعزيز العلاقات الثنائية فحسب، بل تمتد لتسهم في استقرار الاقتصاد العالمي وتنميته بشكل عام. إذ تجسّد هذه الشراكة نموذجاً ناجحاً للتعاون الدولي القائم على تحقيق مصالح مشتركة؛ مما يساهم في تعزيز السلم والاستقرار العالميين. وهنا تبرز خصوصاً الرؤية الاستراتيجية عند البلدين والتزامهما بالابتكار والتعاون ليفتحا أبواباً جديدة للتنمية والتفاهم والتعاون بين مختلف الشعوب والثقافات.

وارف محمود قميحة،رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني الصيني

وارف محمود قميحة • خبير ماليّ واقتصاديّ واختصاصيّ دوليّ في مجال الدّبلوماسيّة الإنسانية. • له العديد من المبادرات التي تصبّ في المجالات الإنسانيّة والتواصل بين الشّعوب. • مؤسّس ورئيس "جمعيّة طريق الحوار اللّبنانيّ الصّينيّ" و"معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث" (كونفوشيوس). • عضو المجلس الإستشاريّ في مجلّة "الصين اليوم" في منطقة الشرق الأوسط. • شارك في العديد من المؤتمرات والندوات والمحاضرات المحلّيّة والعربيّة والدّوليّة. • له أبحاث ودراسات ومقالات في الصّحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة. • حائز عدّة جوائز وشهادات تقدير، منها "جائزة الكفاءة العلميّة في مجال الدّبلوماسيّة الإنسانيّة" و"قلادة التميّز" في مجال الشّراكة المجتمعيّة ...

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى