دول الخليج بين أمريكا والصين: وتكلفة الفرصة البديلة | بقلم حســـان خضـــــر
خلال زيارته للملكة العربية السعودية خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول 2022، حث الرئيس الصيني نظراءه في دول مجلس التعاون الخليجي على الاستفادة الكاملة من بورصة شنغهاي للبترول كمنصة لتنفيذ وتسوية تجارة النفط والغاز بالعملة الصينية (اليوان)، وأبلغهم بأن الصين ستعمل على شراء النفط والغاز باليوان الصيني. إن هذه الخطوة من شأنها أن تدعم هدف بكين في ترسيخ عملتها دوليا وإضعاف قبضة الدولار على التجارة العالمية وربما تؤثر على الاقتصاد الأمريكي.
طلب الرئيس الصيني هذا قد لا يعتبر مطلباً عابراً أو عادياً، لا بالمعنى النقدي ولا الاقتصادي للكلمة، ولكن ربما يقع في إطار العلاقات الدولية التي نشهد تحولاتها منذ فترة زمنية. فالدولتان (الصين والمملكة العربية السعودية) قد ناقشتا هذه المسألة بشكل متقطع لمدة ست سنوات، لكن المحادثات تصاعدت في عام 2022، مع استياء الرياض من المفاوضات النووية للولايات المتحدة مع إيران وعدم دعمها للعملية العسكرية السعودية في اليمن. وهذه المحادثات هي الأحدث في جهد مستمر من قبل بكين لجعل عملتها قابلة للتداول في أسواق النفط الدولية وتقوية علاقتها مع دول الخليج ومع السعودية على وجه التحديد. ولا ننسى أن المملكة العربية السعودية وحلفاؤها الخليجيون قد تحدت الضغوط الأمريكية للحد من التعاملات مع الصين والانفصال عن زميلتها المنتجة للنفط في أوبك + روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، في الوقت الذي يحاولون فيه الإبحار في نظام عالمي مستقطب مع التركيز على المصالح الاقتصادية والأمنية الوطنية.
وفي حين ينتظر الكثيرون قرارات بشأن احتمالية التحول من الدولار الأمريكي إلى اليوان الصيني فيما يتعلق بتداول النفط، ولكن لم يتم الإعلان رسمياً عن أي إعلان رسمي على هذا الصعيد، كما ولم تؤكد لا بكين ولا الرياض الشائعات بأن الجانبين يناقشان التخلي عن البترودولار. وفي حين يرى محللون أن القرار هو تطور منطقي في علاقة الطاقة بين الصين والمملكة العربية السعودية، لكنهم يشيرون إنه ربما ذلك يستغرق المزيد من الوقت. فالتخلي عن البترودولار أمر حتمي في نهاية المطاف لأن الصين كأكبر عميل للمملكة لديها نفوذ كبير، على الرغم من أنه من غير المتوقع أن يحدث ذلك في المستقبل القريب.
ويذكر بأن الصين كانت قد قدمت عقود النفط المسعرة باليوان في عام 2018 كجزء من جهودها لجعل عملتها قابلة للتداول في جميع أنحاء العالم، لكنها لم تؤثر على هيمنة الدولار على سوق النفط. وبالنسبة للصين، أصبح استخدام الدولار خطرًا أبرزته العقوبات الأمريكية على إيران بسبب برنامجها النووي وعلى روسيا ردًا على الغزو الأوكراني.
فبين واشنطن وبكين، أين تكمن مصلحة المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية؟ وكيف يمكن تحديد تكلفة الفرصة البديلة؟ بداية، يشير مصطلح تكلفة الفرصة البديلة إلى فائدة كان من الممكن أن يحصل عليها طرف ما، ولكنه تخلى عن ذلك، لتحقيق هدف آخر. وبغض النظر عن الخيار الذي يتم اختياره، فإن الربح المحتمل بعدم اللجوء الى الخيار الآخر يسمى تكلفة الفرصة البديلة، وكثيرًا ما يعبّر عن ذلك على أنه الفرق بين العائدات المتوقعة لكل خيار. من هنا، فإن احتساب تكلفة الفرصة البديلة في هذا السياق للعلاقات بين العملاقين الاقتصاديين الصين وأمريكا، من قبل دول مجلس التعاون الخليجي قد يكون سابقاً لوقته. فلا الظروف الاقتصادية ولا الأوضاع الجيوسياسة تسمح بإجراء هكذا اختبار، رغم اقتناع كثيرين بأننا سائرون في اتجاه فك الربط ولو جزئياً مع الاقتصاد الامريكي ومع العملة الأمريكية مع مرور الوقت.
فمن جانب تعتبر الرياض ودول مجلس التعاون أكبر مورد نفطي للصين، وستواصل بكين استيراد كميات كبيرة من النفط من دول الخليج العربية وتوسيع وارداتها من الغاز الطبيعي المسال. وحالياً تشتري الصين أكثر من 25% من النفط الذي تصدره السعودية، وإذا تم تسعير تلك الصادرات باليوان، فإن هذا من شأنه أن يعزز مكانة العملة الصينية. ويدرس السعوديون أيضًا إدراج العقود الآجلة باليوان، والمعروفة باسم بترويوان، في نموذج التسعير لشركة الزيت العربية السعودية “أرامكو”. إن قرار بيع كميات صغيرة من النفط باليوان للصين قد يكون منطقيًا من أجل دفع الواردات الصينية مباشرة، لكن: هل هذا هو الوقت المناسب؟
من جانب آخر، فإن معظم أصول واحتياطيات دول الخليج والمملكة العربية السعودية مقومة بالدولار الأمريكي بما في ذلك أكثر من 120 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية تحتفظ بها الرياض. كما أن حيزاً كبيراً من وارداتها يتم تمويله بواسطة الدولار الأمريكي. إضافة لذلك فإن المملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى تربط عملاتها الوطنية بالدولار الأمريكي، وتتبع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في تحديد مسار الفائدة على عملاتها. كما أن المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون لا تقوم بتسعير صادراتها من النفط الخام بأي شيء آخر غير الدولار الأمريكي. كما أن غالبية مبيعات النفط العالمية – حوالي 80% – يتم تسعيرها بالدولار الأمريكي. وكانت المملكة العربية السعودية قد استخدمت منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي الدولار حصريًا في تجارة النفط كجزء من اتفاقية أمنية مع الحكومة الأمريكية.
أما على الصعيد النقدي، فمن نافل القول الإشارة الى أن المنافسة الصينية خلال العقد المنصرم قد أصبحت أكثر جدية وتهديداً للنفوذ الأمريكي. وفي هذا الصدد، يشير التغيير المطلوب في السياسة النقدية العالمية الى أن موقع الدولار الأمريكي كعملة عالمية لم يعد في أولويات الولايات المتحدة. وهذا ما أشار اليه فريد برغستن مدير معهد بيترسسون للاقتصاد قائلاً انه سيكون على صناع السياسة الأمريكيين الاعتراف بأن العجز الخارجي الكبير، وهيمنة الدولار، وتدفق رؤوس الأموال الذي يرافق العجز، كلها عوامل لم تعد لصالح الولايات المتحدة. وحري بواشنطن الآن أن تأخذ المبادرات التي تتقدم بها الصين وغيرها من الدول لبدء حديث جدي حقيقي حول إصلاح النظام النقدي العالمي. وكان حاكم البنك المركزي الصيني قد اقترح في وقت سابق الحد من الدولار في النظام النقدي العالمي واستبداله تدريجياً بعملة احتياط دولية بديلة أو بما سماه عملة ” فائقة السيادة”.
وكلنا نتذكر كيف استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها خيار “سويفت” كسلاح مالي، لـمعاقبة روسيا بعد اجتياح قواتها أوكرانيا. وقطع وصول أي بنك إلى شبكة “سويفت” يعني منعه من تلقي أو إصدار مدفوعات عبر هذه القناة، علماً بأن روسيا تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث عدد المستخدمين، مع حوالي 300 بنك ومؤسسات روسية أعضاء في النظام. وكانت “سويفت” ايضاً جزءاً من العقوبات التي قررتها الولايات المتحدة ضد إيران في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، والتي علّقت بموجبها منصة “سويفت” إمكانية وصول بعض المصارف الإيرانية إلى شبكتها.
إن إخراج دولة مهمة مثل روسيا يمكن أن يسرع من تطوير نظام مصرفي منافس، مع الصين على سبيل المثال، وقد توجه البنوك الروسية المدفوعات عبر دول لم تفرض عقوبات مثل الصين، التي لديها نظام مدفوعات خاص بها وهو ” يونيون باي”. وتعتبر “يونيون باي” أول خدمة ترخيص مسبق على المستوى المالي في الصين للمعاملات المضمونة، وتقوم باستقبال وتحويل طلبات باليوان الصيني. كما تقوم موسكو بإنشاء بنيتها التحتية المالية الخاصة بها، سواء للمدفوعات ببطاقات “مير”، التي تهدف إلى أن تحل محل بطاقات “فيزا” و”ماستركارد”، أو التحويلات عبر نظام يسمى “أس بي أس أف”، وهو نظام تحويل الرسائل المالية روسي نظير لنظام التحويل المالي “سويفت”، الذي يطوره البنك المركزي الروسي منذ عام 2014، عندما هددت حكومة الولايات المتحدة بفصل روسيا عن نظام “سويفت”.
من هذا المنطلق، يبدو بأن الدول لا سيما الكبرى منها قد بدأت في مواجهة الولايات المتحدة في العديد من المفاصل والمواقع وتضع أطر جديدة للتعامل الدولي بعيداً عن الهيمنة الأمريكية. فالحديث عن عملات تمويل تجارة خارجية بديلة للدولار وأنظمة دفع جديدة عوض عن نظام “سويفت” قد أصبح خياراً متاحاً للكثير من الدول التي لم تعد ترغب في الانضواء تحت المضلة الأمريكية. وتأسيساً على ما تقدم، فإن العرض الصيني للدول الخليجية من شأنه أن يضع هذه الدول إمام مسارين يصعب الاختيار بينهما في الوقت الراهن، بل قد يكون الأفضل هو خيار التوفيق بينهما حسب المصالح المشتركة لكلا الطرفين، وفي إطار ما نسميه بتكلفة الفرصة البديلة.
لقراءة الأجزاء الـ14 السابقة من ملف القمم العربية الصينية : اضغط هنا