الاحدثالملف العربي الصيني

سياسة الانفتاح في الصين وتجاربي كأكاديمي وباحث | بقلم د. محمد زريق

خلال العقود الماضية، شهدت الصين تحولًا ملحوظًا على الساحة العالمية. لم يقتصر هذا التحول على إعادة تشكيل الاقتصاد الصيني فقط، بل ساهم أيضًا فهي تقديم رؤية استراتيجية قائمة على التنمية السلمية وتعزيز العلاقات الجيدة مع جيرانها والمجتمع الدولي بشكل عام. تعتبر سياسة الانفتاح واستراتيجية “النهضة السلمية” من العناصر الأساسية في تطور الصين المستمر، وفي تبوءها مكانة رائدة على المستوى العالمي في مجالات عدة، مثل التكنولوجيا والدبلوماسية والتعليم.
ظهرت فكرة “النهضة السلمية” لأول مرة من قبل القيادة الصينية في أوائل القرن الواحد والعشرين، بهدف طمأنة المجتمع الدولي بأن نمو الصين سيكون غير تهديدي ويركز على التعاون المتبادل. تطورت هذه السياسة لتصبح إطارًا واسعًا يشمل التنمية الاقتصادية، والتمثيل الدبلوماسي، والتبادل الثقافي، مع التركيز على تعزيز التناغم داخليًا ودوليًا. إحدى أبرز سمات هذه السياسة هي تأكيد الصين على علاقات حسن الجوار، حيث استثمرت بشكل كبير في تنمية محيطها المباشر، مع ضمان استقرار المنطقة وسلامتها.
بصفتي باحثًا ومراقبًا لصعود الصين، كان لي شرف الفرصة لمعاينة تنفيذ هذه الاستراتيجيات عن كثب، خصوصًا في سياق تقدم الصين الأكاديمي والتكنولوجي. في جامعة صن يات-سين في مدينة تشوهاى، أنا جزء من مجتمع أكاديمي حيوي يساهم بشكل مباشر في هذه الرؤية للانفتاح. تُعد جامعة صن يات-سين من أرقى الجامعات في الصين، ولها سمعة عالمية في مختلف المجالات الأكاديمية. وقد وفقت الجامعة في مواءمة سياساتها مع أهداف الصين الكبرى في التدويل، حيث توفر الجامعة تحصصات اللغات الإنجليزية والعربية والإسبانية والفرنسية والروسية، والعديد من اللغات الأخرى. يعكس هذا التركيز على اللغات الأجنبية والتعاون الدولي النهج الذي تتبناه الصين لتشجيع تواصل عالمي أكبر، خصوصًا في مناطق مثل الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي أركز عليها في أبحاثي الأكاديمية.
تظهر سياسة الانفتاح الصينية ليس فقط في ممارساتها الاقتصادية ولكن أيضًا في التزامها بتطوير المواهب العالمية وتسهيل التبادل الثقافي. بصفتي زميلًا في جامعة صن يات-سين وعضوًا في مجلس إدارة معهد دراسات الشرق الأوسط في الجامعة، أتيحت لي الفرصة للمشاركة بنشاط في الحوارات التي تسعى لسد الفجوات الأكاديمية بين الصين والشرق الأوسط.
يتماشى تركيز الجامعة على البحث بين التخصصات والتعاون الدولي مع استراتيجية “النهضة السلمية”، مما يساعد في خلق شبكة عالمية من العلماء والباحثين الذين يعملون نحو أهداف مشتركة من التنمية والابتكار.
أحد أبرز الأمثلة على نهج الصين في الحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة يظهر في تعاملها مع المناطق الإدارية الخاصة مثل هونغ كونغ وماكاو. على الرغم من اختلاف أنظمة اقتصادهما، إلا أن هاتين المنطقتين ازدهرتا تحت إطار “دولة واحدة، نظامان” الذي يسمح لهما بالحفاظ على مستوى من الاستقلالية مع اندماجهما الكامل في نسيج الدولة. يُظهر نجاح هذا النموذج التزام الصين بالتعايش السلمي والاحترام المتبادل، ويبين كيف يمكنها الحفاظ على التناغم داخل مجتمع متنوع ومعقد. يُعد هذا النموذج عنصرًا مهمًا في السياسة الخارجية الصينية التي تهدف إلى تعزيز التنمية السلمية من خلال الحوار والتفاهم.
من وجهة نظري الشخصية، شاهدت كيف أن انخراط الصين الدولي، خاصة في مجال التعليم، يشهد على التزامها بالتنمية العالمية والسلام. لقد باتت الصين مركزًا أكاديميًا وتقنيًا مهمًا على مستوى العالم.
الجامعات الصينية تتسابق في التصنيف العالمي، كما أن هذه المكانة الأكاديمية المتزايدة تتوازى مع تقدم الصين المذهل في مجال التكنولوجيا. لقد حظيت بشرف حضور العديد من المؤتمرات واللقاءات التي تتناول النمو الأكاديمي والتكنولوجي في الصين، وهذه التجارب قد عَمَّقت من فهمي لنهج الصين في الابتكار وأثره على الساحة الأكاديمية والتكنولوجية العالمية.
خاصةً، فإن المؤتمرات الأكاديمية التي حضرتها في الصين، بما في ذلك تلك التي نظمتها جامعة صن يات-سين، قدمت رؤى قيمة حول كيفية إعادة تشكيل الصين لمستقبل التعليم والبحث والتطوير. إن سياسة الانفتاح التي تعتمدها المؤسسات الأكاديمية الصينية، والتي تدعو إلى التعاون الدولي، كانت عاملًا رئيسيًا في نجاح الصين. من خلال البحث التعاوني والتبادل التعليمي، استطاعت الصين أن تضع نفسها كلاعب رئيسي في المجتمع الأكاديمي العالمي. وهذا، بدوره، لم يعزز سمعة الصين الدولية فحسب، بل أيضًا منح الدول في المنطقة العربية فرصة للمساهمة في تنمية المعرفة في مجالات مثل العلاقات الدولية والدبلوماسية والدراسات الإقليمية.
إن مشاركتي في معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة صن يات-سين هي تجربة غنية للغاية. المعهد يعد منصة لمناقشة القضايا الملحة التي تواجه منطقة الشرق الأوسط واستكشاف دور الصين في المنطقة. في وحدة دراسات الشرق الأوسط، لي شرف تنسيق الفعاليات الأكاديمية، وتيسير التعاونات، والمساهمة في المناقشات الاستراتيجية حول مستقبل العلاقات الصينية-الشرق أوسطية. هذا سمح لي بالمشاركة بشكل فعال في مبادئ “النهضة السلمية” الخاصة بالصين ونهجها في تعزيز العلاقات الجيدة مع الدول الأخرى.
من بين الجوانب الملهمة في سياسة “النهضة السلمية” الصينية هو التزامها بالدبلوماسية متعددة الأبعاد. من خلال مبادرات مثل “مبادرة الحزام والطريق”، استطاعت الصين بناء شبكة من الشراكات التي تمتد عبر القارات. تعتبر مبادرة الحزام والطريق، التي تهدف إلى تعزيز تطوير البنية التحتية وتحسين الاتصال بين الصين والمناطق الأخرى، مثالًا رئيسيًا على كيفية تحول الصين إلى قوة للخير. من خلال التركيز على المنافع المتبادلة والتعاون، استطاعت الصين بناء علاقات قوية ومستدامة مع البلدان التي تشاركها أهداف التنمية والازدهار.
عندما أتأمل في تجاربي الشخصية ورحلتي الأكاديمية في الصين، أزداد إعجابًا بإلتزام هذا البلد بسياسة الانفتاح والنهضة السلمية. من التكامل المتناغم لهونغ كونغ وماكاو في السياق الصيني، إلى تفاعل الجامعة مع العلماء الدوليين، من الواضح أن الصين ماضية في تعزيز بيئة عالمية منفتحة وتعاونية وسلمية. من خلال عملي في جامعة صن يات-سين واشتراكي في معهد دراسات الشرق الأوسط، أفتخر بأنني جزء من هذه الرؤية الكبرى التي تركز على النمو الأكاديمي والتعاون الدولي وتعزيز السلام.
كأكاديمي وباحث، أعتبر نفسي محظوظًا لأنني جزء من هذه الفترة التحولية، أساهم في النقاشات حول دور الصين في العالم بينما أعيش في الوقت ذاته فوائد القوة التعليمية والتكنولوجية المتزايدة للصين. إنها فترة مثيرة للمشاركة في رحلة الصين، وأتطلع إلى رؤية نجاحاتها المستمرة على الساحة العالمية.

د. محمد زريق

د. محمد زريق هو باحث في جامعة صون يات سين، مهتم بدراسة العلاقات العربية-الصينية والسياسة الخارجية الصينية والاقتصاد السياسي. لديه عدة كتب منشورة منها كتاب صدر حديثاً عن دور مبادرة الحزام والطريق في العلاقات الصينية-القطرية؛ بالإضافة إلى دراسات منشورة في مجلات علمية محكمة. يشغل حالياً منصب نائب سكرتير مركز دراسات الشرق الأوسط، كما أنه عضو في مركز دراسات مبادرة الحزام والطريق، وهو أيضاً عضو في الرابطة العربية الصينية للحوار والتواصل والجمعية البريطانية للدراسات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى