لبنان اليوم، الواقع تحت ضغوط داخلية وخارجية هائلة، يتعايش مع أزمة وجودية تهدد كيانه
في لبنان، تحوّلت أزمة الحكومة الممتدة إلى أزمة حكم، برزت معها جملة من المظاهر التي تعتبر طبيعية وليست خارجة عن المألوف في مثل هذه الحالات. نظام سياسي دستوري استهلك بشكل تام، في وقت بدأت المطالبة بتغييره بصوت عال، وسط تذمر وتململ شعبي واسع من تداعيات الطفرة السياسية القائمة، مترافقة مع أوضاع اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية، تعبر عنها التظاهرات الشعبية اليومية في مختلف المناطق وقطع الطرقات، احتجاجاً على انهيار العملة الوطنية (سعر صرف الدولار اليوم في لبنان سوق السوداء) وسوء الأحوال المعيشية.
فمنذ سنة ونصف والوضعان الاقتصادي والمالي في تراجع متسارع ومستمر، إلى أن وصل حالياً الى حالة الانهيار الشامل.. انخفاض حاد للعملة الوطنية دون ضوابط أو كوابح، إذ يساوي الدولار الواحد أكثر من عشرة آلاف ليرة لبنانية، ومرد ذلك عدم قدرة البنك المركزي على الإمساك بزمام أمور المضاربة على العملة الوطنية. في وقت لم يعد يمتلك من العملات الأجنبية سوى الاحتياط الإلزامي العائد للمصارف الخاصة، المقدرة بنحو 17 مليار دولار وهي في الأصل أموال المودعين، وليست أموال المصارف، ما يعني أن استعمالها غير قانوني في تغطية ودعم المواد الأساسية للمواطنين.
ولبنان الذي يستهلك حوالي تسعين في المئة من حاجاته الأساسية وهي مستوردة من الخارج والذي يدفع ثمنها بالعملات الأجنبية غير المتوفرة بسهولة، ناهيك عن أزمة المحروقات وما يستتبعها من تداعيات لا تنتهي، جميعها وضعت المجتمع اللبناني تحت خط الفقر، وبات في مستويات صادمة وغير مسبوقة بالمطلق. فالحد الأدنى لدخل الفرد في لبنان تراجع من 450 دولاراً شهرياً إلى 65 دولاراً شهرياً، وبذلك بات أقل من بنجلاديش وبموازاة كل من أفغانستان وسريلانكا والكونغو، ما أوصل مستوى الفقر في المجتمع اللبناني إلى حدود 70 بالمئة، وهو رقم مهول لم يسبق للبنان أن مرَّ به أو لامس هذه الحدود حتى في أشد أزماته وحروبه السابقة.
ولبنان اليوم الواقع تحت ضغوط داخلية وخارجية هائلة، يتعايش مع أزمة وجودية تهدد كيانه وسط عواصف إقليمية ودولية هوجاء، تتطلب دراية سياسية في الداخل والخارج، وفي وقت لا أحد مستعد لتقديم العون والمساعدة إذا لم يقدم لبنان على مساعدة نفسه قبلاً، أقله إجراء إصلاحات ضرورية تقنع الآخرين بجدية عمليات الإصلاح والقدرة على الاستمرار فيها. لا سيما أن وعوداً كثيرة لا تحصى قدمها المسؤولون اللبنانيون ذهبت أدراج الرياح دون نتائج جدية تذكر، ما أدى عملياً إلى تبخر مشاريع المساعدات التي طرحت عبر مؤتمرات إقليمية ودولية، وهي بالمناسبة عمليات وازنة قادرة على قلب الموازين لو تم التجاوب لبنانياً معها بالطرق السليمة والمقنعة لأطرافها.
إن التحديات الإقليمية التي يواجهها لبنان حالياً تتطلب سبراً للمواقف التي ينبغي عليه اتخاذها والمضي فيها، وهي من النوع الذي لا يمكن غضّ الطرف عنها أو تجاهلها، هي خيارات ينبغي أن تؤدي إلى مواقف محددة، تضع لبنان في طريق واضح المعالم يتماشى مع مصالحه ومصالح محيطه العربي.
ثمّة تحديات قادمة على المنطقة ومنها لبنان تتطلب مواقف مناسبة تسهم في تجنيب لبنان ضغوطاً غير قادر على تحملها أو مواجهتها في هذه الظروف.
ثمة استحقاقات داخلية لبنانية ينبغي تمريرها بأقل الأكلاف الممكنة من بينها تشكيل حكومة قادرة على القيام بالأدوار المفترضة لها، أولها تأمين وتغطية المؤتمرات الدولية المتصلة بالقروض المالية والمساعدات الاقتصادية والتنمية والاستثمار، وهي قضايا تتطلب وحدة وإجماعاً سياسيين غير متوفرين حتى الآن. ولبنان اليوم بات في نفق مجهول، ينتظر انهياراً مالياً واقتصادياً وشيكاً، مع فقر مدقع وانتشار لـ مظاهر الجرائم المنظمة، وتفكك مجتمعي، وسلوكيات مجتمعية عنيفة غير مسبوقة. إنه تفلّت اجتماعي سياسي خطير ينبغي مواجهته قبل فوت الأوان.