نادي القلم

تفاهة الديمقراطية وحكم القلة | الدكتور محي الدين الشحيمي (زيارة ثانية)

لمناسبة ما نشهده اليوم من تصدع لصورة الديمقراطية الاكثر تعقيدا" في العالم، الديمقراطية الاميركية نعيد القاء الضوء على مقالة الدكتور محي الدين الشحيمي التي نشرت في السابع عشر من تموز (يوليو) من العام المنصرم. يلقي الكاتب الضوء على التغيرات الجوهرية التي طرات على حوكمة الانظمة الديمقراطية في الغرب والنزعة نحو حكم القلة الذي بدأ في الاقتصاد وتسلل الى انظمة الحكم. - الناشر

لقد غرق العالم باليقين الاعتباطي وفاض بوهج وبريق العقليات الفاسدة , لذلك يفترض على المرء الانتقال من نعيم الوهم الى علقم الواقع ولوكان مريرا , فالعالم في الحقيقة مختلف وبالفعل ليس كما يبدو لنا ظاهريا ولا كما يحاول أن يصوره لنا المحللون والمدعون وأشباه الخبراء ومقدموا العروض السياسية على الشاشات وكافة وسائل التواصل والاتصالات .
حيث أن منظومة الناخبين أي المجتمع والذي يتيح بدوره لدائرة واسعة من الناس أن يعبروا عن آرائهم السياسية والمشاركة في الانتخابات سواء على مستوى الدولة أو الأحزاب قد تحولت الى أنظمة المختارين , أي القلة التي تختار المسؤولين وتتخذ فيهم القرار بنفسها وهذا يعني أن انتخاب هذه الشخصية أو تلك لرئاسة الدولة أو لعضوية المجالس الاشتراعية والبرلمانية ورسم اتجاه القرار والتطورات فيها كان يتم بالاتفاق بين أوساط النخب العالمية ( السياسية والصناعية والمصرفية والمالية …) وغيرها .
مع بداية القرن الحادي والعشرين تحول المختارون الى مهيمنين أي الى سلطة القلة أو الصفوة الحاكمة ,وحتى العديد من النخب السابقة قد استبعدت من ترتيبات السلطة بعد مواجهات شرسة طبعا وهكذا انحصرت السلطة في أيدي مجموعات صغيرة ما فوق القومية والعابرة للحدود , اذ نشأت بين هذه المجموعات علاقات خاصة لها ارتباط وثيق بأنظمة هياكل التسيير المتقاطعة والمتنوعة والمتزامنة , خالية من التراتبية الهرمية من رؤساء ومرؤوسين وجميع العلاقات فيها قابلة للتغيير ولكن الأهم في هذا الموضوع أن حروبا من توع جديدة نشبت بين هذه الفئات الجديدة هي الحروب ( النفسية والسيبرانية والذهنية والاقتصادية وبالطبع السياسية والاجتماعية والعسكرية الكلاسيكية ) .
لقد انخرطت هذه النخب بصراع من أجل اعادة تشكيل استراتيجي للفضاءات العالمية ( السياسية والتجارية والفكرية ) وترتيب جديد للنظام الاقتصادي العالمي الشامل بالاضافة الى تنظيم سياسة الأحلاف والخصوم ,كفضاء لا ينبغي أن يكون فيه أي دور للدولة القومية فأغلب الأجهزة الأمنية الخاصة تغير توجهاتها بالتدرج مبتعدة عن الدولة باتجاه الشركات العابرة للقوميات أو المتعددة الجنسيات , فهناك عزم لتشكيل المجمع أو المنتدى العسكري الاستخباراتي المالي في العالم والذي سوف يشكل القوة الضاربة للنخب العالمية وهو الذي سوف يشن الحروب المالية الاقتصادية وحروب كسب العقول كذلك الأمر .
يمكننا وصف ما ندرسه في المدارس والجامعات والمعاهد بأنه الستارة الضرورية للحيلولة دون معرفة العامة من الناس بالمواجهات الحقيقية التي يشهدها العالم والسياج الذي يمنع الاغلبية الساحقة في العالم من ولوج عالم اليقين , فخط المواجهة أدق ويغير بالتمام التصورات السائدة عن النظام العالمي وكيف يعمل, هو صراع أدق وأعمق بكثير من الصراع بين الدول أو المعسكرات أو حتى بين الشرق والغرب , لأن الصراع يدور في الحقيقة بين النخب والتي تسربت منذ زمن بعيد وصولا لحقبة العولمة المعاصرة .
فالصراع بين النخب دائما موجود ولكن بظروف وأساليب مختلفة , حيث أن النخب هي تلك المجموعات والتكتلات التي تسير جزء من المجتمع في أي بلد من البلدان , والنخبة فضلا عن ذلك هي جزءا من المجتمع الذي يمتلك الموارد المفصلية وعناصر القوة في لحظة معينة من زمن محدد في جميع أنحاء المعمورة , فعندما كانت الأرض هي مصدر الحضارة الرئيسية , فان ملكيتها جعلت من مالكيها نخبة عالمية ( المجتمع الزراعي والمزارع الغني أو الثري ) , وعندما أضحى النفط والغاز مصدر الطاقة العالمي والأساسي , وبالتالي أضحت صناعة الماكينات والألات هي القطاع الرئيسي في الاقتصاد العالمي , وأصبح خط الانتاج المصنعي النمط المحوري في تنظيم العمل .
ففيما يتعلق بالثورتين الانتاجيتين الأولى والثانية فكل شئ جرى بشفافية ولم تبرز مشكلات في شأن تاريخها وكل من هاتين الثورتين الانتاجيتين يتسم بظهور وسيلة نقل جديدة , ففي الثورة الانتاجية الأولى ظهرت سكك الحديد وأثناء الثورة الصناعية الثانية ظهرت السيارات ثم الطائرات وترافقت هاتين الثورتين مع صنع أنواع جديدة لنماذج نقل المعلومات وأنواع جديدة بالتالي للاتصالات .
لقد ارتبطت الثورة الصناعية الأولى بظهور طباعة الكتب على نطاق واسع وظهور موجة الصحف عالميا وارتبطت الثورة الصناعية الثانية باختراع المذياع ( الراديو) ومن ثم التلفاز وثمة مشكلة أزاء توصيفات الثورتين الثالثة التي عاصرناها والرابعة والتي نحن بصددها حول التخبط في مفهوم الطاقة البديلة والمصدر الذي من المفترض أن يؤمن الخلاص الأممي , هنالك بحث حثيث عن بديل للنفط والغاز كمصادر للطاقة فربما أي نوع متجدد للطاقة صديق للبيئة سوف يغدو المصدر الرئيسي للطاقة في المستقبل ( كالرياح والشمس … أو غيرها ) وعندئذ سوف تكون التقنيات الابتكارية التجديدية هي القطاع الأساسي للانتاج وهو ما نواكبه حاليا .
فعندما ظهر الانترنت وراح يتطور كنا نستخدمه كأحدث وأسرع مصدر للمعلومات والاتصالات , بعد ذلك ظهر انترنت الأشياء والأدوات المنزلية والآن أصبحنا قادرين على الادارة الكاملة والتامة بواسطة الانترنت لكثير من التفاصيل الحياتية من معدات وأجهزة فكل الأشياء يتم برمجتها والتحكم بها عن بعد بواسطة الانترنت. فقد أصبحنا قادرين على مراقبة وضعنا الصحي مثلا بواسطة الانترنت من خلال ما يسمى (بودي نت) , كل ما حولنا يتوحد في انترنت الكل والذي يحتوي بدوره انترنت الأشياء وهذا هو المفهوم المتداول الآن , أي أن التقنيات تتغلغل وتزداد في انغماسها داخل الانسان وهذا هو الواقع حرفيا بانتقالنا من مرحلة انترنت الأشياء الى انترنت الكل أي ( كل الأشياء ) .
سوف يصبح للانسان شبكة وهوية الكترونية واحدة وهنا مكمن النظرية بأن انترنت الكل هو الذي سيكون وسيلة الاتصالات الجديدة , أما وسيلة النقل الجديدة فسوف تتكون من الخدمات اللوجيستية العالمية الشاملة أو شبكة النقل الكونية , فاذا عدنا لتزامن الثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة نجد أن الثالثة تحققت بالظهور المحلق للانترنت وضربت عندما أصبحت البشرية بذروة الحاجة الى هذا المنتج , أما الرابعة فنقارنها بظهور ظاهرة اقتصادية اجتماعية من قبيل انتشار نظام المعطيات أو البيانات الكبرى ( BIG DATA ) , ومنذ ذلك الحين لم نعد نسمع عن الثورة الصناعية الثالثة .
نحن نتكلم الآن وبكثرة عن الثورة الصناعية الرابعة والتي تزامنت مع الثالثة وخطفت وهجها عندما حان وقت المرحلة الجديدة حيث يجري الاندماج بين التقنيات والكائنات الحية , بطرح هذه التقنيات كوسائل اضافية مساعدة لحياة الانسان ولكنها أيضا قد تضطلع بدور ووظيفة مزدوجة فمن جهة يمكنها مساعدة الانسان ومن جهة أخرى قد تنجح بالسيطرة عليه والتجسس عليه أيضا , فلم يعد سرا اليوم أن بعض الهوانف الذكية حتى وان كانت مقفلة يمكنها تماما أن تكون وسيلة للتجسس ولا يقتصر أيضا استخدامها المكثف على الأجهزة الأمنية الخاصة , ففيما يتعلق بأحدث التقنيات فلأي منها كحد أدنى ثلاث أغراض وهي العسكرية والمدنية والجنائية ولا شك أن التقنيات تسير دائما نحو الأمام ولكن مع ذلك تبقى وثيقة الارتباط بكل ما يجري في جميع الحياة الأخرى في العالم .
نشأت بين النخب العالمية العابرة للحدود والما فوق القومية ثلاث مجموعات بارزة على النحو التالي حيث تتألف المجموعة الأولى من كبار رجال المال ويعود الموقع الرئيسي في هذه المجموعة لأهم وأكبر مصارف العالم , والثمة الأساسية لهذاالجزء من النخب العالمية يتمثل باجادة مضاعفة الرساميل وكسب المال حتى من الهواء اذا أمكن .
أما المجموعة الثانية وهي مجموعة أصحاب الشركات الكبرى والمتعددة الجنسيات والتي ينتمي اليها كبار المدراء والشخصيات بمن فيهم المساهمين أي حاملي الأسهم الأساسية وموجهين الحربة الحقيقية في الاحتكارات العابرة للقوميات والدول , وينتمي لهذه النخبة أيضا النسق الأعلى من كبار الموظفين في القطاعين العام والخاص في المؤسسات الحكومية والمالية والاقتصادي والهياكل الما فوق القومية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمات الدولية العالمية والاقليمية .
أما المجموعة الثالثة من النخب الكبرى هي نخبة التقنيات المعلوماتية والتي أخذت بالنشوء والترسخ منذ سبعينيات وتمانينات القرن الماضي وبالدرجة الأولى في أبرز الجامعات الأوروبية والأميركية والأسيوية , فتلى بعدها ظهور الثقل والمستوى التجاري لجميع التقنيات المعلوماتية الأساسية والتي أتاحت تحقيق ثورة الانترنت وولد بهذا المسير اقتصاد عالمي جديد , بحيث جعلت أكبر التجمعات والهياكل الحركية بنشاطاتها المختلفة منصاعة لتعليماته حتى أضحت المؤسسات العسكرية والاستخباراتية مستهلكة ومشغلة لخدماته على نحو واسع .
لقد تضمن تقرير بعنوان التطور التكنولوجي 2050 والذي تعاون على اصداره عدة مراكز أبحاث ومختبرات تحليل استنتاجا مفاده أن العالم اليوم قائما ومسير على حوالي 24 تقنية مفصلية, وانها تشكل أهم الاتجاهات العلمية والاستراتيجية والاستدامية لضمان التقدم والدفاع لمختلف الدول وكذلك لتحفيز قدراتها الابتكارية والتكاملية , اضافة الى تكريس مبدأ الأمن القومي بمفهومه الواسع وليس الضيق أي ( القومي – السياسي – القانوني – العسكري – الصحي – الاجتماعي – الغذائي – التربوي – البيئي..) , وتلك البلدان والتي سوف تمتلك تلك التقنيات ستتمكن بلا شك من تحقيق الثورة الصناعية الجديدة والمساهمة والمشاركة في اطلاق وتأسيس الاقتصاد الجديد وبالتالي النظام الأممي أو العالمي الجديد وستصبح في موقع الصدارة عالميا وطبعا معظم هذه التقنيات موجودة في أوروبا وأميركا وجزء من آسيا .
هنالك اذا نخبة الشركات العابرة للقارات والنخبة المالية والمصرفية ونخبة الشركات التقنية والمعلوماتية وأصحاب المواهب الابتكارية , فاذا تتبعنا مسار تكونهما تاريخيا في القرنين نجده مرتبطا بالعمق والجوهر بكل مفاعيل الثورات الانتاجية التي حدثت والمعاصرة والآتية كذلك , فكل هذه الجوانب وثيقة الترابط فيما بينها ومما لا مناص منه أن هناك علاقة بين تشكل النخب وظهور الثورات الصناعية , فمجموعة النخب الأولى مثلا وهي نخبة الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات والتي تعود لها ملكية جميع حقوق الطاقة فضلا عن ارتباطها بالصناعات الكبرى قد تشكلت في أواخر القرن العشرين مع بداية ظهور النظام المالي الحالي حيث أنها قد بدأت بالتطور تدريجيا وبالتزامن مع المتغيرات العالمية .
لقد تطورت الراسمالية وظهرت أول دولة اشتراكية في العالم بعد ذلك ظهرت المنظومة الاشتراكية بالتزامن مع ذلك راحت تتطور مجموعة نخب جديدة وهي المجموعة المالية , فلكي تتطور الراسمالية وتحصل على الربح لا بد قبل كل شئ من توظيف الأموال في عمل ما فظهر راسمال في البداية كمقدمة لانتاج صناعي , ثم أضحت الأموال تعمل لنفسها ولصالحها ثم كان دور البورصات والتي ظهرت بقوة والذي لا يقتصر فيها الشراء والمبيع على السلع بل يتعداها الى بعض المشتقات المالية كالعقود الآجلة منها أو عقود الخيارات , وهنا بالتالي لم يعد لها أي علاقة بالانتاج يعني أن ثمة شخص ما معين بالذات على سبيل المثال يبيع عقدا في البورصة على أنه سوف يستخرج في سنة محددة كمية من النفط وثمة شخص آخر يشتري منه هذه الكمية , أي في الواقع وفي تلك اللحظة لا وجود لأي نفط ولا حتى لطرف يمتلكه ومع ذلك يمكن تحقيق ربحا في الوقت نفسه , من هنا فان المالك المحتمل لنفط لم يستخرج قط يبيع بدوره هذا العقد , وفي هذه الحال فان الشخص التالي الذي يشتري هذا العقد يمكنه أن يبيعه أيضا لشخص آخر ولكن بسعر أعلى طبعا , وهكذا يظهر بالتدريج أصحاب الأموال وهؤلاء يشكلون المجموعة الثانية من النخب ( المالية والمصرفية ) , وخصوصا منذ اتفاقية بريتون وودز لتنظيم العلاقات النقدية والحسابية والحسابات التجارية في العالم والفوز بين هذه النخب في العام 1944 كان لأصحاب المال وعادة ما تكون نخبة ما ثانوية وأخرى رئيسية ضمن بعض النخب من قبيل توزيع الادوار المرحلية .
قبل ذلك وطالما كان يوجد في العالم منظومة اشتراكية كان لزاما على الراسماليين الانكفاء اضطراريا وعدم الجموح بل العمل في الكواليس وأن يحسبوا للنقابات حسايها ويهنموا بعمالهم كي لا يضربوا عن العمل , أما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي صارت المنظومة الراسمالية رسميا تعمل غير مكترسة بالاقتصاد الاشتراكي وسرعان ما أصبح ملحوظا التفاوت الطبقي الكبير جدا في المجتمع وفي البلدان الراسمالية والشبه الراسمالية كالصين وحتى في روسيا نتيجة للتطبيق الخاطئ للنموذج الراسمالي , حيث ظهر عندنا نوع جديد من النخب يرتبط بالمال فقط .
لقد جرى تطور النخب بعد ذلك في العالم كله دونما أي تباينات ففي المرحلة الانتقالية من الثورة الانتاجية الثالثة الى الرابعة , وعندما راح الانترنت يتضاعف بالتدريج لاح في الأفق مصدرا عالميا جديدا وثمينا للاستثمار وهي المعلومات أي ( المعلومات الكبيرة BIG INFORMATION ) , فليس عبثا ان شاع الآن عبارة أن ” المعلومات هي النفط الجديد ” , فهذه المعلومات لها مالكوها ولهم بالتالي حقوق ما مهد الطريق وعبدها لظهور نخبة جديدة من الباب الواسع لها ارتباط بالتقنيات المعلوماتية أي (سادة المعلومات).
انهم اذا مالكوا المعطيات ولأول مرة أثبتوا لنا وجودهم جديا في الانتخابات الأميركية عندما ترشح حينها “باراك أوباما ” الرئيس السابق لأميركا لولايته الثانية , ففي بداية الحملة الانتخابية وبعد بضعة انتخابات تمهيدية تبين أن “أوباما ” قد بدأ بفقدانه لأصوات ناخبيه الذين صوتوا سابقا لصالحه وهذا بوقتها مؤشر غير محمود , عندئذ توجه فريق الرئيس لأول مرة الى اختصاصيين بتقنية المعلوماتية حيث كانت أمام مساعدي الرئيس ومستشارينه مهمة الاستيضاح على جناح السرعة ( من – ولماذا – ما السبب ؟ ) للبدء في التصويت ضد أوباما , فقد كان من الضروري تصحيح الوضع فورا والتِأثير على هؤلاء الناخبين بشكل ما ممنهج .
لقد باشر اختصاصيون المعلوماتية العمل فجمعوا بداية المعلومات عن الذين صوتوا ضده , بعد ذلك صنفوا الأسباب والتي جعلا هؤلاء الأشخاص يتمايزون ويغيرون في آرائهم ومحض تفكيرهم ويمتنعون عن دعم مرشحهم , حيث اتضح أن لكل منهم أسبابه الخاصة فهناك ما له علاقة بلون البشرة وأخر غير رأيه تحت تأثير رأي لشخص ما وثالث حدثت تغييرات في حياته ,
فلم يكن هناك في العموم مبرر واضح بعينه لذلك بعد حصولهم على تلك المعلومات قرر فريق الرئيس تنظيم الحملة الرئاسية تحت شعار ” باراك أوباما رئيس للجميع ” .
انها الفكرة ذاتها والمنوال ذاته لانتخاب ترامب رئيسا وكذلك لصعود ماكرون الصاروخي وانتخابه أيضا رئيسا في فرنسا , حيث أصبح لدينا هنا مستوى جديد للديمقراطية الموجهة اذ استعملت منظومات معلوماتية جديدة وأتيح أيضا الولوج والوصول اتفاقيا الى البيانات الضخمة ( BIG DATA ) , والتي بواسطتها قد أصبح ممكنا التأثير على السياسة وعلى البشر , لقد بات عمليا بالامكان الحديث عن مستوى سيكولوجي جديد التأثير , لأن علم السلوك كاتجاه علمي في السيكولوجيا يدرس سلوك الانسان وقد وصل الى مستوى الانغماس بالتقنيات والحوسبات , فبمساعدة البيانات الهائلة صار من السهل أكثر التأثير على كل فرد من البشر والتحكم بالناس بوعيهم وتصرفاتهم لتوجيههم سياسيا وبالتالي تهجينهم .
وهنا يمكننا التأكيد على ظهور خاصية جديدة من النخب وفرع مسيطر بحيث أعلنت مجموعة النخب الثالثة عن وجودها منذ وقت قريب ولكن النخب السابقة والأقدم منها لم تندثر ولم تختف عن الوجود وهي بحد ذاتها لا تعيق تطور المجموعة الثالثة في ظل ذلك يجري بين النخب تفاعلات أحيانا سلبية تترجم بالصراعات وأحيانا أخرى ايجابية أي التحالف , ففي مرحلة ما يكون من الملائم لها أن تنزل الضربات لاحداها بالأخرى وفي مرحلة ثانية يكون مناسبا لها التعايش والتناغم والتعاون سلميا وفي كل الأحوال هناك متغيرات تحدث دائما .
وهو ما يقودنا مباشرة لطرق التحكم بالسلطة وتفريغ مضمون الديمقراطية والقلة النخبوية التي تسيطر دائما , حيث انتقلنا من نزعة الناخبين الى نزعة المختارين ثم من المختارين الى المهيمنين , فبكل تأكيد هنالك سلطة القلة أو النخبة المتحكمة ومراكز القرار الموازية في الكواليس , فنحن لدينا دائما مجموعة من الأشخاص النافذين الذين يؤثرون على سياسة الدولة أو حتى الدول من دون الحاجة للمشاركة بالسلطة الشرعية أي المنتخبة كلاسيكيا .
فالناخبون في المعنى الواقعي هم مواطنو الدولة والذين يعبرون عن رأيهم وارادتهم من حين لآخر عبر الادلاء بأصواتهم , فينتخبون ممثلوهم ووكلائهم في السلطة التشريعية وفي بعض الدول يختارون رئيس البلاد , ولكن مع ظهور النخب تشهد منظومة الانتخابات تصاعد دور مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يؤثرون واقعيا على انتخابات هذه السلطة أو تلك الشخصية في أي بلد وهذا هو بعينه الانتقال الى المختارين أي المجموعة التي بوسعها ممارسة الضغط على قيادة الدولة ومحورها السطحي لتكون هي المركز الحقيقي للدولة .
ليست هذه النخب مجموعة من الأشخاص ذوي الفكر أو الرأي الواحد هم متفاعلين فيما بينهم على الدوام, بحيث يجري دائما بينهم صراع المجموعات والتي ينتصر في محصلتها مجموعة واحدة ,اذ تحجب هذه المنتصرة بدورها كافة النخب الأخرى ومجموعاتهم عن السلطة ولا تسمح حتى بوصول تأثيرها الى قادة الدول , وتصبح بالفعل الكتلة المهيمنة بنفوذها الشديد لكي تؤلف بحد ذاتها سلطة القلة .
تلك هي وبشكل صريح مرحلة القيادة الحقيقية للدولة الجدية وليس الشكلية البروتوكولية التي نراها يوميا في الصحف والأخبار والبرامج , فعندما بصرح أحد قادة المجموعة على أرفع المستويات في السلطة عن مصالحهم ويؤثرون في ذلك على اتخاذ القرارات وبالتالي بتغييرات على كثير من الأحداث السياسية الاقتصادية والاجتماعية للدول وأحيانا العالم .
اننا نرى وبشكل نافر بأن الصراع في أعماق الانتخابات الرئاسية في العديد من الدول مثل فرنسا ليس بين اليمين واليسار وفي أميركا ليست بين الجممهوريين والديمقراطيين وحتى بالنسبة للانتخابات العامة في بريطانيا ليست بين حزبي العمال والمحافظين , انما وبشكل حقيقي بين ممثلي هذه النخب والقلة المهيمنة والتي تضم الوسط الاستخباراتي والاعلامي والفني والتجاري والاقتصادي أيضا .
وفي كثير من الأحيان تقوم هذه النخب بتفكيك الدولة عمليا اذ يتلخص الأمر في أن العديد من الوظائف كانت في السابق من اختصاص الدولة وحكراعليها بينما صارت تنتقل الى أيدي الشركات الخاصة عبر متعهدين ووسطاء , فحتى أجهزة الاستخبارات العائدة للدولة تحيل جزء من عملها الى شركات خاصة وتستعين بمصادر خارجية , اذ تتقدم بطلبيات في كثير من الأحيان الى الشركات الخاصة لتنفيذ بعض المهام وهو انتقال لمبدأ الدولة من الدولة الشركة الى الشركة الدولة وهو انتقال بشري لا شك مكلف ويعني تفكيك الدولة بمعناها الكلاسيكي بتلاشى الحدود بين مختلف المؤسسات والادارات داخل الدولة وتتحول الدولة الى شركة خاصة كبيرة حيث تتجلى الكلمة الفصل فيها للنخبة المهيمنة وجماعة القلة الحاكمة والميسطرة .

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى