أزمة انقطاع أدوية القلب والشرايين في لبنان : بين المخاطر على حياة المريض والمسؤولية عن الأمن العلاجي للبنانيين!(الجزء الأوّل)
شهد لبنان في السنة الأخيرة ازمة إقتصادية-مالية- نقدية خانقة كانت نتائجها وخيمة تقريباً على كل الطبقات والشرائح الإجتماعية. فقد تدهور سعر صرف الليرة على الدولار بشكلٍ رهيب واقفلت الكثير من المؤسّسات التجارية والصناعية والسياحية والتربوية، وتعثّر قطاع الطبابة والإستشفاء بشكلٍ كبير،أولاً نتيجة إرتفاع اسعار كل المُستلزمات الطبيّة المُستوردة من الخارج بالعملة الصعبة، وثانياً بسبب عدم دفع الدولة ومعظم المؤسسات الضامنة للمستحقّات المتوجّبة عليها للمستشفيات، ما اوقع تلك المؤسسات في عجز كبير وفي نقص في السيولة لدفع رواتب الموظفين الإداريين والطواقم التمريضية وغيرها من التكاليف التشغيلية.
وقد جاءت “جائحة كورونا” التي تستمر فصولها بعنف منذ بداية السنة وحتى اليوم لتُكمل من تدهور الحالة الإقتصادية والمعيشية الصعبة اصلاً ،وسبّبت خسائر هائلة في الأرواح وفي الإقتصاد في لبنان وفي معظم دول العالم حتى الدول ذات الإقتصادات الهائلة القدرات مثل الولايات المتحدة ومعظم دول اوروبا وغيرها من دول العالم المتقدّم.
وفي لبنان لم يسلم قطاع الدواء المُلحق حتماً بالملف الشامل لقطاع الطبابة والإستشفاء من التداعيات الخطيرة لتلك الازمات المُتتالية. وقد اضطر مصرف لبنان الى إصدار تعاميم تهدف لتنظيم إستيراد الدواء والمُسلتزمات الطبية بطريقة تدعم هذا الإستيراد وتمنع من ارتفاع اسعار الدواء بشكلٍ عشوائي كما حصل مع معظم السلع الإستهلاكية الأخرى. لكننا شهدنا منذ حوالي شهرين تقريباً شِحاً كبيراً في مخزون الدولار في مصرف لبنان ما دعا بعض الأوساط فيه وغيرهم من المسؤولين في السلطة الى تسريب اخبار عن “إمكان رفع الدعم عن السلع الأساسية” واهمها المحروقات والدواء والطحين والتي تُشكّل اهم المقوّمات الأساسية لإستمرار الحياة لشريحة واسعة من اللبنانيين إن لم نقل جميعهم وبدرجات مُتفاوتة.
وقد احدثت الأخبار عن إمكانية رفع الدعم عن الدواء حالة من الهلع والخوف والتوتر عن معظم اللبنانيين وتسبّبت في هجمة كبيرة على الصيدليات لتكديس كميّات كبيرة من الأدوية المُزمنة خوفاً من ان تنقطع من السوق نتيجة إرتفاع اسعارها وعدم إمكانية إستيرادها من الخارج في المستقبل القريب. ولجأ بعض الصيادلة وبعض اصحاب المستودعات “الجشعين” الى تكديس كميات كبيرة من بعض الأدوية بهدف بيعها بأسعار مُرتفعة بعد رفع الدعم. كذلك اشتغلت “مافيات تهريب الدواء” على كل الخطوط المُمكنة لكسب المال بكل الطرق المُلتوية ولبيع الدواء اللبناني المدعوم من مصرف لبنان والذي اصبحت كلفته زهيدة جداً مقارنة مع كلفته في معظم الدول المجاورة. وهذا ما ادّى الى “حركة تهريب ناشطة” بإتجاه دول مثل العراق ومصر وليبيا لأدوية باهظة الثمن في لبنان وخاصة الادوية الأساسية المستوردة والتي لا يوجد منها ادوية رديفة او جُنيسيّة (جنريك) والتي اصبحت تجارتها تدّر على المُهرّبين ارباحا طائلة لأن كلفتها في لبنان اصبحت زهيدة جداً مقارنة مع اسعارها في تلك الدول.
كل العوامل التي ذكرناها سابقاً خاصة عدم قدرة الشركات المستوردة للدواء وللمستلزمات الطبية على فتح إعتمادات جديدة للإستيراد من الخارج بسبب إضطرارها للإنتظار لوقت طويل لكي تأتي الموافقات الإستنسابية من حاكم مصرف لبنان ولكي تقدر في النهاية على دفع المبالغ المُتوجّبة عليها في الخارج.
هذه المقالة تحاول ان تضيء بعض الشيء على اهمّ مخاطر إنقطاع بعض الأدوية الأساسية المُستعملة في علاج امراض القلب والشرايين وسوف نقسّمها الى جزئين: في الجزء الأول سنُعرّف القارئ الكريم على أهمّ انواع امراض القلب والشرايين واسبابها وسوف نتناول بشكلٍ مُختصر نتائج هذا الإنقطاع او التوقّف المفاجئ عن تناول بعض انواع هذه الأدوية على مرضى القلب والشرايبن بشكلٍ عام. وسنُخصّص الجزء الثاني للغوص اكثر في مخاطر إنقطاع هذه الأدوية وبشكلٍ تفصيلي عند كل نوع من انواع امراض القلب والشرايين. وسنختم بأهم التوصيات والقواعد التي من شأنها ان تحفط صحة المواطن وامنه الدوائي وما هي اهم الطرق والأساليب للوصول لذلك.
١-انواع أمراض القلب والشرايين المُزمنة:
كلنا نعرف أنّ أمراض القلب والشرايين المُزمنة تنقسم إلى عدّة أقسام فمنها:
أ- أولاً أمراض الشرايين التاجية للقلب والتي تُعرف بمرض تَصلُّب الشرايين التاجية للقلب، و هي ناتجة عن ترسّبات دهنية وكلسية تترسّب تدريجياً في داخل جدار الشرايين التاجية للقلب وغيرها من الشرايين وتتسبّب بحصول أعراض مُتنوّعة منها الخناق الصدري المُستقرّ والخناق الصدري غير المُستقرّ عند وجود إنسدادات غير كاملة في الشرايين التاجية للقلب، او الذبحات القلبية أو ما يُعرف بإحتشاء عضلة القلب عند حصول إنسداد كامل في احد الشرايين التاجية للقلب.
وتُشكّل هذه الأمراض ما يُعادل ٧٠ بالمئة من أمراض القلب والشرايين، أي أنها تُعتبر السبب الأول والرئيسي لدخول المرضى إلى المستشفيات، والسبب الأول والأساسي لوصف هذا المريض او ذاك بأنه مريض قلب مُزمن. وهنا يجب ان نعلم ان عوامل خطورة هذه الأمراض معروفة جداً، وهي تتمثّل بالتدخين أولاً و الذي يتسبّب بحوالي ٣٥ بالمئة من هذه الإصابات. كذلك مرض إرتفاع الضغط الشرياني والإصابة بمرض السُكّري وإرتفاع مستوى الدهنيات في الدم بمختلف انواعها.
وكذلك البدانة و التعرُّض للتوتر والقلق والإكتئاب الدائم وقلة الحركة، أي عدم القيام بالتمارين الرياضية بشكلٍ روتيني لثلاثة مرّات او اكثر اسبوعياً ولمدّة لا تقلّ عن٣٠ الى ٤٥ دقيقة في كل مرّة. وهناك بعض العوامل الإجتماعية والثقافية والمعيشية حيث أن أمراض الشرايين التاجية للقلب تزداد بشكلٍ كبير عند المرضى الذين يكون مستواهم الثقافي والإجتماعي متدنٍ لأسباب كنا قد شرحناها في مقالات سابقة.
ب- ثانيا أمراض عضلة القلب، وهي النوع الثاني الأكثر رواجاً لأمراض القلب. وهي تأخذ عدّة أشكال أهمّها مرض “تضخّم عضلة القلب التوسعي” (Dilated cardiomyopthy), حيث تتوسّع عضلة القلب بشكلٍ كبير و تتمدّد و تنخفض قوة انقباضها بشكلٍ كبير . ممّا يؤدّي إلى حصول قصور في عضلة القلب أي كسل وضعف في هذه العضلة ما يؤدّي إلى حصول حالات إحتقان رئوي حاد أو مزمن مع ما قد يُصاحب ذلك من أعراض معروفة.و قد تأخذ أمراض عضلة القلب أشكالا أخرى بحيث تتضخّم هذه العضلة بشكلٍ آخر، بحيث أن سماكتها تزداد بسبب أمراض مُتعددة. وهنا نتكلّم عن امراض العضلة السميكة (Hypertrophic cardiomyopathy) من أهمها مرض ارتفاع الضغط الشرياني او وجود انسداد او تهريب في الصمام الأبهر للقلب أو بسبب أمراض أخرى نادرة تتسبّب في ترسُّب بعض البروتينات أو بعض المواد الأخرى في داخل العضلة .وهنا نتكلّم عن امراض العضلة المحدودة الإنقباض بسبب هذه المواد ( Restrictive cardiomypathy). وهذا ما يؤدّي أيضاً في كلتا الحالتين في نهاية الأمر إلى تدهور قوّة إنقباض هذه العضلة ويؤدّي إلى الإصابة بقصور عضلة القلب.
ج-ثالثا أمراض صمّامات القلب، و نحن نعرف أن هناك أربعة صمّامات في القلب، إثنان منهما هما صمّامان أساسيان، الصمام التاجي والصمام الأبهر للقلب، وهما في القلب الأيسر الذي يلعب دور المضخّة القلبية. وقد يُصاب هذان الصمّامان بمشاكل تؤدّي إلى حصول إنسداد أو تهريب أو إنسدال مع خلل في عمل هذا الصمّام، ما يؤدّي إلى حصول تضخّم و توسّع في عضلة القلب وإلى حصول أعراض خطيرة منها قصور عضلة القلب. ومنها أيضا إمكانية حصول إضطرابات خطيرة في كهرباء القلب وحالات غياب عن الوعي او موت مفاجئ. ولحسن الحظ فإنّ هذه الأمراض التي تصيب الصمّامات آخذة في الإندحار والإنخفاض بسبب إنحصار حالات الإصابة بأمراض الروماتيزم والحمى الرئوية والتي كانت تصيب منذ سنوات أعدادا كبيرة من الأشخاص خاصة في الدول النامية نتيجة الإلتهابات المُتكررة في الحنجرة والبلعوم واللوزتين.
د-رابعاً أمراض كهرباء القلب وهي مُتنوعة جداً وناتجة عن خلل مُمكن في عمل الشبكة الكهربائية الطبيعية الموجودة في داخل القلب،والتي تلعب دور المُولّد الكهربائي الذي يُرسل ذبذبات كهربائية تسير في شبكة كهربائية مُعقّدة موجودة في الحاجز الذي يفصل بين الأذينين والبطينين ،ولها إمتدادات في داخل البطين الأيسر و البطين الأيمن. وهي شبكة قد تُصاب إما بخلل يؤدّي إلى تباطؤ في ضربات القلب ما قد يتطوّر إلى حاجة المريض إلى تركيب جهاز كهربائي اصطناعي يسمّى “بطارية للقلب” ، وهذه الحالات هي اكثر شيوعاً عند المتقدّمين في السنّ.
أو قد تُصاب في المقابل في حالات أخرى أكثر شيوعاً بإضطرابات تتسبّب في زيادة ضربات القلب بشكلٍ خطير وبعدّة أشكال على مستوى البطين وعلى مستوى الحاجز بين البطينين والأذينين، او على مستوى الأذين الأيسر والأيمن. وهي الأمراض الأكثر رواجاً وتُصيب أكثر الفئات الشبابية والأعمار المتوسّطة ما عدا حالة الجفان الإذيني التي تُصيب اكثر المتقدّمين في السن. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الإضطرابات الكهربائية التي تُصيب البطين هي من أخطر الإضطرابات، و قد تؤدّي إلى حالات غياب مفاجئ عن الوعي وإلى حالات وفاة مفاجئة في بعض الأحيان وعلاجها صعب في مُعظم الأوقات ،و قد يتطلّب أحياناً زرع صادم كهربائي داخلي له كلفة عالية جداً في البلاد النامية ،وهو على شكل جهاز صغير يزرع تحت الجلد في المنطقة الموجودة في منطقة الكتف وتحت عظمة الترقوة. ويُوصِل هذا الجهاز الشحنات الكهربائية التي تصدم داخلياً البطين بواسطة سلك معدني دقيق يوجد في قمة البطين الأيمن. وهو يتحسّس الذبذبات الكهربائية الصادرة من البطين ،ويقوم بإجراء صدمة كهربائية في حال كشف الحاسوب الدقيق الموجود في الجهاز ،إضطرابات خطيرة في كهرباء القلب.
ه-خامسا أمراض ارتفاع الضغط الشرياني وأمراض إلتهابات غشاء القلب وغيرها من الأمراض القلبية النادرة والتي لها علاجاتها الخاصة والتي لن ندخل في تفاصيلها، ولكننا فقط نُشير هنا إلى أن مرض إرتفاع الضغط الشرياني هو مرض يُصيب حوالي ٢٠ إلى ٣٠ بالمئة من المواطنين اللبنانيين. وترتفع نسبته بشكلٍ كبير عند المرضى المُتقدّمين بالسنّ أو عند المرضى المُصابين بمرض السكري أو بالبدانة.
أسباب مرض ارتفاع الضغط الشرياني مجهولة في حوالي ٩٠ الى ٩٥ بالمئة من الحالات، ما يجعل البحث عن أسباب هذا المرض عملية غير ذات فائدة مُهمّة ،وفي بعض الحالات قد نجد أسبابا هرمونية متنوّعة أو اسبابا شريانية مثل الإنسدادات في الشرايين الكلويّة والتي قد تؤدّي إلى إرتفاع الضغط الشرياني،
وتتسبّب بالتالي بأعراض خطيرة ناتجة عن الإرتفاع المُزمن في الضغط الشرياني الذي يؤدّي إلى تضخّم في عضلة القلب كما ذكرنا سابقاً ،وفي زيادة سماكتها وإلى اضطرابات في كهرباء القلب، وإلى الإصابة بقصور في عضلة القلب على المدى البعيد لأن تضخّم عضلة القلب التي تعمل بشكلٍ مُزمن تحت ضغطٍ كبير يؤدّي في النهاية إلى الإصابة بضعف أو فشل هذه العضلة.
٢-المخاطر الناتجة عن إيقاف بعض أنواع الأدوية:
كلنا نعرف أن الحالة الصحية لمرضى القلب والشرايين والضغط والسكري وارتفاع الدهنيات وغيرها من الأمراض المُزمنة قائمة على حالة توازن ناتجة عن إستعمال عدد كبير من الأدوية ومن أهمها الأدوية التي تُخفّض الضغط الشرياني أو تلك التي تُخفّض من ضربات القلب أو تُوسّع الشرايين ،وكلها ادوية تُريح عضلة القلب وتُساعدها في إستعادة عملها نسبياً ،وتُساعد ايضاً في منع الأعراض والحوادث القلبية عند المرضى المُصابين بتصلّب في الشرايين التاجية للقلب. كذلك هنالك دور كبير للأدوية التي تُخفّف حالة تخثّر الدم وتجلّطه ،وهي ادوية اسياسية يجب على معظم او كل مرضى القلب تناول نوع منها بحسب الحالة المرضية التي يعانون منها.كذلك الأمر بالنسبة للأدوية التي تُخفّض من مستوى الدهنيات والسُكّر في الدم.
ولذلك فإن إيقاف أي دواء من هذه الأدوية سوف تترتّب عليه مخاطر كثيرة ،خاصة بالنسبة للمرضى الذين يعانون من “حالة صحية غير مُستقرة” أو حتى من حالة “صحية قلبية شبه مُستقرة”، بحيث أن إيقاف أي دواء يُعدّل الضغط الشرياني أو يُخفف من ضربات القلب يؤدي مثلاً إلى ارتفاع مفاجئ و خطير جداً في الضغط الشرياني ،وإلى تسريع في ضربات القلب وإلى حصول جلطات دماغية أو ذبحات قلبية وما إلى ذلك من حوادث ناتجة عن مرض تَصلُّب الشرايين، لأن هذا المرض هو مرض شامل ومنتشر في كل الأوعية الدموية الموجودة في الجسم.كذلك الأمر بالنسبة للأدوية التي تمنع أو تُخفّف من حالة تخثّر الدم مثل الأسبيرين والكلوبيدغرل وغيرها من الأدوية، لأن إيقاف هذه الأدوية يؤدّي إلى زيادة مُفاجئة وسريعة في حالة تخثّر الدم وتجلّطه ما يؤدّي إلى حدوث ذبحة قلبية أو إلى تدهور حالة المريض الصحية وإدخاله العناية الفائقة بسبب خُناق صدري غير مستقر او ذبحة قلبية في الحالات الأكثر خطورة.
هذه الحالة تنطبق أكثر على الأدوية المرتفعة الثمن نسبياً من فصيلة مُضادات بعض الانزيمات الأساسية والمهمة في عملية تنظيم واستقرار الضغط الشرياني وإمتصاص الأملاح والسوائل في الكلى مثل ACE inhibitos
وفصيلة Angiotensin inhibitors
وهي أدوية نستعملها كثيرا في علاج ارتفاع الضغط الشرياني وعلاج قصور عضلة القلب بحيث انها تُعتبر الحجر او الركن الأساسي في علاج هكذا امراض. ولذلك فإن إيقاف هذا النوع من الأدوية يؤدّي بسرعة فائقة لا تتعدّى بضعة ايام إلى تدهور حالة هؤلاء المرضى ولإدخالهم إلى المستشفيات ولحصول اعراض وازمات قلبية سوف نفصّلها بشكل دقيق في القسم الثالث من هذه المقالة.
أزمة انقطاع أدوية القلب والشّرايين في لبنان : بين المخاطر على حياة المريض، والمسؤولية عن الأمن العلاجيّ للّبنانيين!
(الجزء الثّاني)
كنّا قد تحدّثنا في الجزء الأوّل من هذه المقالات المُخصّصة للكلام عن انقطاع بعض أدوية القلب المُزمنة في الأسواق اللّبنانية، ومخاطر إيقافها المفاجئ من قِبل بعض المرضى، وقد تكلّمنا عن أهمّ أنواع أمراض القلب والشّرايين، لكي يسهل على المريض فهم المخاطر الّتي قد تنتج عن إيقاف الأدوية في بعض الحالات، وعن المخاطر المُترتّبة عن إيقاف بعض أنواع هذه الأدوية بشكلٍ عام.
في هذا الجزء سنتناول تفصيليًّا كلّ نوع من هذه الأمراض والمخاطر النّاتجة عن توقّف تناول الأدوية الخاصّة بعلاج هذا المرض، لتبيان هذه المخاطر بشكلٍ واضح مع إعطاء بعض الأمثلة، وذلك طلباً للمزيد من الفائدة المرجوّة من توعية المواطنين حول هذه الحالات.
أ- مرض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب: إنّ أيّ إيقاف لمضادّات التّخثّر أو التّجلّط أو لمُخفّضات الدّهنيات أو للأدوية المُوسّعة للشّرايين، أو للأدوية التي تُساعد على تخفيض الضّغط الشّرياني- الّتي تساهم في زيادة عمليّة تغذية عضلة القلب -سيؤدّي إلى إحداث أزمة قلبية خطيرة، قد تكون بشكل تفاقُم في الأعراض، أي حصول آلام صدرية مُتكرّرة عند القيام بأيّ مجهود( خنّاق صدريّ مُستقرّ). وقد تزداد خطورتها إلى أن تصل إلى مرحلة الخنّاق الصّدريّ غير المُستقرّ، مع حصول انسداد مُؤقّت في أحد الشّرايين التّاجيّة للقلب، ممّا يستدعي الدّخول إلى المستشفى من أجل العلاج المُناسب في أسرع وقت ممكن.
وقد تؤدّي في بعض الحالات إلى أعراض مُتقدّمة، وأحداث أكثر خطورة مثل الذّبحة القلبيّة أو احتشاء في عضلة القلب. وهذا ما يعتبر حادثًا مؤسفًا جدًّا، لأنّ انقطاع دواء مثل الأسبيرين مثلًا، والّذي تبلغ كلفته أقلّ من دولار أو دولارين أميريكيّين، قد يؤدّي إلى إصابة المريض بذبحة قلبيّة خطيرة، وإلى تعريضه لمخاطر الإصابة بقصور في عضلة القلب وبالتّالي لحالة وفاة مُفاجئة، قد تنتج عن صدمة قلبيّة، أو عن اضطرابات خطيرة في ضربات القلب. كذلك الأمر بالنّسبة للأدوية المُوسّعة للشّرايين أو الأدوية الّتي تُخفّف من سرعة ضربات القلب عند هؤلاء المرضى، لأنّ إيقاف هذه الأدوية بشكلٍ مُفاجئ يؤدّي إلى تشنّج كبير في هذه الشّرايين، وإلى حصول الأعراض الّتي ذكرناها سابقًا مع درجات خطورة مُتفاوتة.
كذلك بالنّسبة للأدوية المضادّة أو المُخفّضة للدّهنيات، والأدوية الّتي تعالج مرض السُكّري. فإنّ إيقاف مثل هذه الأدوية عند المرضى المُصابين بمرض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب قد يؤدّي إلى عوارض وحوادث قلبيّة خطيرة مُماثلة، لأنّ الأدوية المُخفّضة للدّهنيات تمنع ترسّب الدّهنيات في داخل جدار الشّرايين، وبالتالي فإنّ إيقافها سيؤدّي إلى تفاقُم حجم الكتل الدّهنية الموجودة في داخل جدار هذه الشّرايين، وبالتّالي إلى انسدادها على المدى المتوسّط والبعيد أو حتى على القصير عند بعض المرضى الشّديدي الخطورة، نتيجة تقدّم المرض عندهم والّذين تكون حالتهم حسّاسة جدًّا، وقائمة أو مُتعلّقة بحالة توازن دقيق بين حجم الكتل الدّهنية وكمية سيلان الدّم الّذي يجري في داخل الشّرايين. كذلك فإنّ إيقاف أدوية السُّكّري عند هؤلاء المرضى المُصابين بمرض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب، سيؤدّي إلى ارتفاع نسبة السُّكّر في الدّم وإلى تدهور حالتهم أيضًا، لأنّنا نعرف جميعًا أنّ مرض السُّكّريّ يُشكّل أحد الأسباب الرّئيسة للإصابة بأمراض تصلّب الشّرايين التّاجيّة للقلب وغيرها من أمراض القلب والشّرايين، خاصّة وأنّ السّكّريّ يُسمّى بالقاتل الصّامت، لأنّ معظم المرضى المُصابين به يتوفّون في حوالي ٧٠ بالمئة من الحالات، نتيجة أزمات قلبيّة حادّة وغيرها من الأحداث القلبيّة، ويؤدّي السُكّري أيضًا إلى زيادة مهولة في نسبة الجلطات الدّماغيّة، وتصلّب وانسداد شرايين الرّقبة المُتّجهة إلى الرّأس والّتي تُغذّي الدّماغ، وشرايين الأطراف التي تُغذّي السّاقين والقدمين، ولذلك فإنّ إيقاف أدوية السّكّري عند هكذا مرضى يزيد من مخاطر كلّ هذه الأمراض القلبيّة، كما يتسبّب بتدهور سريع في حالة الكتل الدّهنيّة المُترسّبة في جدار شرايين الرّقبة، أو شرايين السّاقين والبطن.
ب- المرضى الّذين يعانون من قصور في عضلة القلب: إنّ حالة قصور عضلة القلب هي حالة معروفة جدًّا، تُصيب عددًا كبيرًا من المرضى الّذين تفقد عندهم عضلة القلب قدرتها على ضخّ الكمّيّة الكافية من الدّم، والّتي تبلغ حوالي ٥ إلى ٦ ليترات في الدّقيقة، لكي تكفي احتياجات الجسم من الأوكسجين، ومن الموادّ الأخرى كالسّكّر والحوامض الدّهنيّة الّتي تحتاجها هذه الأعضاء للقيام بوظيفتها الطّبيعيّة. ونحن نعرف أنّ مرضى قصور القلب يتعالجون بعدد من الأدوية المُكلفة بشكلٍ عامّ، ومنها مضادّات بعض الأونزيمات الّتي ذكرناها سابقًا ( ACE inhibitors و Angiotensin inhibitors ) وأدوية أخرى مُكلفة جداً مثل دواء ال (Entresto)، وهو دواء جديد له فعاليّة عالية جدًّا في تخفيف نسبة الوفيّات وحالات الدّخول إلى المستشفى، بسبب علاجه حالات الاحتقان الرّئوي عند المرضى الّذين تكون قوّة ضخّ العضلة عندهم أقلّ من ٣٥ بالمئة. كذلك نستعمل عند هؤلاء المرضى في لبنان وفي مُعظم- بل كل- دول العالم بعض الأدوية القليلة الكلفة والمتوفّرة منذ زمن طويل في الأسواق، و هي مدرات البول الّتي تسمح للجسم بأن يحافظ على التّوازن بين كمّيّة الأملاح والسّوائل الموجودة في الجسم، وبين قوّة الضّخّ الّتي تقوم بها العضلة، لذلك فإنّ إيقاف أيّ نوع من هذه الأدوية، و هي خمس فصائل مختلفة دون الدّخول في تفاصيلها، سيؤدّي إلى خلل كبير في عمل عضلة القلب، و يؤدّي إلى حدوث حالات احتقان رئويّ حادّ قد تكون مميتة في بعض الأحيان، لأنّ المريض يصاب بحالة ضيق نفس شديد، مع احتقان للسّوائل في الرّئة، و في باقي أعضاء الجسم خاصّة في البطن وفي السّاقين.
ولذلك فإنّ فقدان دواء زهيد الثّمن مثل اللّازيكس (Furosemid) في الأسواق اللّبنانية يُمثّل كارثة صحّيّة كبيرة بالنّسبة لهؤلاء المرضى، خاصّة وأنّه دواء معروف منذ حوالي ٤٠ إلى ٥٠ سنة، وكلفة تصنيعه ليست عالية أبدًا. لكنّنا في لبنان، وبسبب السّياسات الصّحّيّة والاقتصاديّة الخاطئة لم نُشجّع أبدًا الصّناعات الدّوائية اللّبنانية، وعمدنا دائمًا إلى استيراد هكذا دواء، ممّا سمح للأزمة الاقتصاديّة – الماليّة الأخيرة – ليس فقط بتهديد الأمن الغذائيّ للّبنانيين، بل أيضًا بتهديد أمنهم الصّحّيّ، بسبب فقدان أدوية تُعتبر ضروريّة جدًّا لكي يستمرّوا على قيد الحياة.
ولذلك يجب على السّلطات المُختصّة، وعلى أعلى المستويات التّنبّه إلى مخاطر هذه الأزمة، و إلى تداركها في أسرع وقت، وذلك عن طريق دعم وتشجيع الصّناعات الدّوائية في لبنان، وخاصّة تشجيع صناعة “الأدوية الجُنيسية أو الجينيريك” التي لا تُكلّف كثيرًا، والّتي يُشكّل انقطاعها وبالتّالي إيقافها من قبل المرضى، كما قلنا، خطرًا كبيرًا على حياتهم.
٣- مشاكل كهرباء القلب: للأسف الشديد فإنّ أدوية القلب المُستعملة في علاج اضطرابات كهرباء القلب هي مُرتفعة الثّمن، ولا يوجد منها في أغلب الأحوال بل في معظمها “أدوية جنيسة أو جينيريك”. و لذلك فإنّ انقطاعها من السّوق وإيقافها بشكل مفاجئ، يُعرّض المرضى الّذين يتناولون هكذا نوع من الأدوية إلى مخاطر كبيرة، قد تكون بشكل اضطرابات خطيرة في ضربات القلب ، تؤدّي أحيانًا إلى حالات غياب عن الوعي، أو حتّى إلى الوفاة نتيجة إمكانية حصول “تسرّع بطيني” أو “رجفان بطيني” مميت.
لذلك يجب أيضًا في هذا المجال، على السّلطات الصّحّيّة اللّبنانية أن تضع خطّة لمنع انقطاع هذه الأدوية أو تخزينها، أو احتكارها، ولتأمين احتياجات كلّ المرضى اللّبنانيين من هذه الأصناف من الأدوية، لأنّ إيقافها يُعرّض كلّ المرضى اللّبنانيين الّذين يعانون من أمراض كهرباء القلب إلى مخاطر صحّيّة خطيرة للغاية تؤدّي بحياتهم، وهذا ما حصل تحديداً مع دواء الكوردارون (Amidarone) وهو دواء من هذه الفصيلة من الأدوية الّتي تستعمل لعلاج اضطرابات كهرباء القلب، و هو دواء قديم جدًّا، وقليل الكلفة ولا تتعدّى كلفته أكثر من ٢ إلى ٣ دولار أميركي، ولكنّه انقطع مُؤخّرًا في لبنان بسبب جشع بعض الشّركات الّتي تستورد هكذا أدوية قليلة الكلفة، لأنّ عملية الاستيراد لا تعود عليهم بأرباح طائلة، أو لأنّ السّلطات الصّحّيّة اللّبنانية لم تأخذ الإجراءات اللّازمة للوصول لحالة اكتفاء ذاتيّ كامل من كلّ الأصناف الأساسيّة من الأدوية الّتي لا يمكن أبدًا الاستغناء عنها، خاصّة إذا لم يكن هناك من بديل لها في الأسواق الوطنيّة أو حتّى العالميّة.
من هنا نؤكّد على أهمّية أن تضع السّلطات الصّحّيّة، وكلّ الجهات المعنيّة والمختصّة قوانين صارمة لمنع انقطاع هكذا أدوية، أو للضّغط على المصانع الوطنيّة لتصنيعها في لبنان، خاصّة وأنّ براءة الاختراع لهذا النّوع من الأدوية القديمة انتهت منذ مُدّة طويلة، وأصبح من السّهل جدًّا تصنيع أدوية “جُنيسيّة أو جينيريك” منها بكلفة ضئيلة جدًّا.
أزمة انقطاع أدوية القلب والشّرايين في لبنان : بين المخاطر على حياة المريض، والمسؤولية عن الأمن العلاجيّ للّبنانيين!
(الجزء الثّالث)
كنّا قد تحدّثنا في الجزأين الأوّل والثاني من هذه المقالات المُخصّصة للكلام عن انقطاع بعض أدوية القلب المُزمنة في الأسواق اللّبنانية، ومخاطر إيقافها المفاجئ من قِبل بعض المرضى، وقد تكلّمنا عن أهمّ أنواع أمراض القلب والشّرايين، لكي يسهل على المريض فهم المخاطر الّتي قد تنتج عن إيقاف الأدوية في بعض الحالات، وعن المخاطر المُترتّبة عن إيقاف بعض أنواع هذه الأدوية بشكلٍ عام.
في هذا الجزء سنستكمل تفصيليّاً الحديث عن هذه الأمراض والمخاطر النّاتجة عن توقّف تناول الأدوية الخاصّة بعلاج هذا المرض، لتبيان هذه المخاطر بشكلٍ واضح مع إعطاء بعض الأمثلة، وذلك طلبًا للمزيد من الفائدة المرجوّة من توعية المواطنين حول هذه الحالات. وسوف ننهي هذه المقالة ببعض النّصائح والتّوصيات لمنع حصول هكذا أزمات تُهدّد الأمن الصّحّيّ والدّوائي للشّعب اللّبناني وتُعرّض حياة الآلاف منهم للخطر بسبب المشاكل النّاتجة عن ذلك.
١- متابعة الشّرح التّفصيلي حول بعض أنواع الأمراض والأدوية:
أ- مرض ارتفاع الضّغط الشّرياني: من المعروف أن ارتفاع الضّغط الشّرياني يُصيب كما ذكرنا سابقًا حوالي ثلث الشّعب اللّبناني .هناك عدّة أنواع من الأدوية التي تُستعمل لعلاج هذا المرض الخطير جدًّا في حال كان هناك ارتفاع مُفاجئ في الضّغط الشّرياني. ولذلك فإنّ إيقاف أيّ نوع من أنواع الأدوية التي تُعالج هذا المرض سيؤدّي إلى مخاطر كبيرة، قد تكون بشكل جلطات دماغيّة أو حالات نزيف دماغيّ حادّ لا يمكن أبدًا مراقبتها. وقد تكون بشكل ذبحات قلبيّة أو حالات تفسّخ او انسلاخ في الشّريان الأبهر، وهو أهم شريان يخرج من القلب ويُعطي تفرّعات تُغذّي جميع أعضاء الجسم، لذلك فإن انقطاع وتوقيف بعض أدوية الضّغط الشّرياني له مساوئ ومخاطر كثيرة .
لكنّ الأطباء لديهم ترسانة كبيرة من هذه الأدوية، ويمكنهم بسهولة استبدال بعض الأدوية بغيرها من الأصناف المتوفّرة في السّوق اللّبنانيّة. ولذلك على المرضى الّذين يجدون أنفسهم أمام حالة انقطاع لدواء مزمن يتناولونه، أن يستشيروا أطبّاءهم لأنّه من المُمكن أن يستبدلوا عندهم الصّنف غير المتوفّر، بأدوية مرادفة لها الفعالية ذاتها، ولا يجب أبدًا ترك هؤلاء المرضى دون أدوية مُرادفة أو بديلة للأسباب الّتي شرحناها.
ب- المرضى الّذين يعانون من مرض السُّكّريّ وارتفاع الدّهنيات، ولكلّ الأسباب الّتي شرحناها آنفًا، لا يجوز أبدًا وتحت أيّ طائل كان، إيقاف أيّ صنف من الأدوية الّتي تُعالج أمراض ارتفاع الدّهنيّات أو مرض السّكّريّ عند أيّ مريض، لأنّ ارتفاع الكوليسترول وغيره من الدّهنيات في الدّم أو اختلال عملية استقلاب السّكّر في الدّم و ارتفاع مستويات السّكّر بشكلٍ كبير في الدّم، كلها عوامل خطورة تزيد من مخاطر الإصابة بالذّبحات القلبيّة والجلطات الدّماغية وتصلّب شرايين الرّقبة الّتي تُغذّي الدّماغ، وشرايين الأطراف وكلّ شرايين الجسم. وهنا أيضًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أدوية مرض الدّهنيات والسّكّريّ تطوّرت بشكل كبير في السّنوات الأخيرة، وهناك أدوية للسّكّريّ مُرتفعة الكِلفة، وهي بمعظمها مُستوردة من الخارج، إذ لا يوجد لها بدائل أو أدوية جُنيسية أو جنريّة في لبنان وباقي دول العالم، وذلك لأنّها ظهرت في السّنوات العشر الأخيرة. وكان من المُتوقّع أن تنقطع هذه الأصناف في السّوق اللّبنانيّة لأنّ معظمها الأدوية مُستوردة من الدّول المتطوّرة كدول أوروبا و أميركا واليابان.
وهنا أيضًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه كان يجب وضع خطّة مُحكمة من قبل السّلطات الصّحّيّة والماليّة والاقتصادية في لبنان لمنع الوقوع في كارثة انقطاع هكذا نوع من الأدوية في أي ظرف كان، وتحت أيّ ضغوط كانت، لأنّ إيقاف هذه الأدوية يُعرّض هؤلاء المرضى إلى مضاعفات خطيرة جدًّا ذكرناها سابقًا.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الأدوية الجديدة والباهظة الثّمن أظهرت فوائد كبيرة في تخفيف نسبة الوفيّات ونسبة الدّخول إلى المستشفيات، بسبب قصور عضلة القلب، كما إنّ لها مستقبلًا كبيرًا في تخفيف أعراض ووفيّات قصور عضلة القلب عند المرضى المُصابين بالسّكّري أو غير المُصابين به. فكيف لأيّ مسؤول ذي ضمير حيٍّ أن يسمح بتوقّف استيراد مذل هذه الأدوية الأساسيّة أو برفع الدّعم عنها، بحجّة عدم توفّر الدّولار الّذي نعرف جميعًا أين هُدر وسُرق وتمّ تبذيره، من قِبل حفنة حاكمة فاسدة ومنافقة تعاونت على سرقة خيرات ومقدّرات هذا الوطن، وودائع مواطنيه المُغتربين والمنتشرين في كلّ بلاد الاغتراب؟
ج- الأدوية المضادّة للتخثّر والتّجلّط: هذه الأدوية مثل الأسبيرين والكلوبيدوغرل والتيكاغليور وغيره من الأدوية الّتي تمنع تخثّر الدّم، هي أهمّ فصيلة من الأدوية لمنع اختلاطات مرض تصلّب الشّرايين كالذّبحة القلبيّة، أو حصول انسداد مُفاجئ في الرّوسورات الّتي تُزرع في داخل الشّرايين التّاجيّة للقلب، وهي أساس علاج معظم أمراض القلب ولا يجوز إيقافها في أيّ ظرف من الظّروف، خاصّة عند من وُضع عنده روسورات في داخل الشّرايين أو عند المرضى الّذين يعانون من حالة متطوّرة من مرض تصلّب الشّرايين.
كذلك الأمر بالنّسبة للأدوية الّتي تمنع التّجلّط والّتي تُؤخذ عن طريق الفم، ومنها عدّة أنواع ( قديم سعره زهيد، وجديد سعره مُكلف جدًّا) أو بشكل أبر أو حُقن تُعطى تحت الجلد، وهي أيضًا أدوية مُهمّة جدًّا لعلاج مُعظم مرضى القلب والشّرايين، ومُعظم هذه الأدوية مهمّ جدًّا كما نعلم لمنع حدوث الذّبحات القلبيّة أو الجلطات الدّماغيّة وغيرها من الجلطات في الشّرايين الأخرى، أو لمنع حصول الجلطات في الأوردة وبالتّالي لمنع الجلطات الرّئوية أو لعلاج المرضى الّذين خضعوا لعمليّات زراعة صمّام تاجيّ أو أبهريّ ميكانيكيّ أو معدنيّ “اصطناعيّ”.
لذلك فإنّ انقطاع مثل هذه الأدوية قد يُعرّض هؤلاء المرضى لمخاطر كثيرة، منها حدوث انسداد مفاجئ في أحد الشّرايين التاجيّة أو تخثّر مُفاجئ في الأماكن الّتي زُرعت فيها روسورات في السّابق، ويعرّضهم بالتّالي لإمكانيّة حدوث ذبحات قلبية مُميتة أو لحصول تجلّط وانسداد كامل في الصّمّامات الاصطناعيّة المعدنيّة المزروعة عندهم. هنا أيضًا لا بدّ من التّمييز كما ذكرنا سابقًا بين نوعين من الأدوية: الأدوية القديمة والمُستعملة منذ أكثر من أربعين سنة مثل الأسبرين والوارفارين والكومادين. وهي أدوية زهيدة الثّمن و مرّ على تسويقها عشرات السّنوات وتصنيعها سهل جدًّا ولا يحتاج لخبرات وتقنيّات مُتطوّرة. ولذلك كان على السّلطات الصّحّيّة والاقتصادية والصّناعية في لبنان أن تضع خُططًا محكمة لتصنيع هذه الأصناف من الأدوية وعدم اللّجوء إلى استيرادها في كلّ الظّروف. إلّا أنّنا نعود إلى الإشكالية ذاتها، وهي أنّ حكوماتنا ووزارات الصّناعة والصّحّة والاقتصاد كانت دائماً تتعامل وفق سياسات لا تضع أبدًا في الحسبان الأمن الصّحّيّ والدّوائيّ للّبنانيّين. واتّضح ذلك جليًّا من خلال الأزمة الأخيرة الّتي عرّضت وتُعرّض حياة آلاف اللّبنانيين للخطر، بسبب انقطاع مثل هذه الأدوية زهيدة الثّمن وسهلة التّصنيع في لبنان.
وهنا يتساءل أيّ مواطن عاديّ، كما يحقّ لكلّ الخبراء في هذا المجال أن يتساءلوا أيضًا: لماذا لم تلجأ السّلطات اللّبنانية المعنيّة إلى وضع خطط تُجبر المصانع الّتي تُصنّع الأدوية في لبنان على تصنيع مثل هذه الأدوية الأساسيّة لعلاج بعض أمراض القلب؟
في المقابل فإنّ هناك أدوية مُضادّة للتجلّط ظهرت في السنوات العشر الأخيرة، وهي مُرتفعة الثّمن بشكلٍ كبير في الأيام العاديّة، وقد ارتفع ثمنها كثيرًا مع ارتفاع سعر الدّولار على اللّيرة اللّبنانية، ولذلك فإنّ معظم المرضى اشتكوا بأنّها انقطعت من الأسواق في الأيّام الأخيرة. وهذه الأدوية هي أساسية لمنع حدوث جلطات دماغيّة أو جلطات رئويّة عند بعض المرضى الّذين يعانون من جلطات في أوردة السّاقين أو البطن، أو يعانون من اضطرابات في كهرباء القلب مثل مرض الرّجفان الأُذينيّ المعروف والرّائج جدًّا، قد تُعرّضهم لحدوث جلطات دماغيّة أو رئوية أو في مختلف أعضاء الجسم، وبالتّالي فإنّ انقطاع هكذا أنواع من الأدوية يعرّض هؤلاء المرضى لمخاطر كثيرة منها إمكانيّة حصول جلطات رئويّة خطيرة ومُميتة أو حصول جلطات دماغيّة تؤدّي إلى شلل متنوّع الأهمّيّة والخطورة بحسب أهمّيّة الجلطة، وهذا مُؤسف جدًّا أيضًا. وهنا لا بدّ من تكرار المُلاحظة ذاتها، أي إنّه كان يجب على السّلطات الصّحّيّة اللّبنانية أخذ كلّ الاحتياطات لمنع الوصول إلى هذا السّيناريو وانقطاع هذه الأنواع من الأدوية المهمّة والخطيرة.
٢- التّوصيات والمقترحات لمنع تكرار هذه الأزمات:
كما فهمنا من المعطيات المُفصّلة أعلاه فإنّ الأزمة الحاصلة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصاديّة- الماليّة – النّقديّة والاجتماعيّة في لبنان، والأزمات الّتي نتجت عنها، ومن أهمّ تجلّيّاتها أزمة عدم توفّر كمّيّات كافية من الدّولار الأميركي والصّعوبات الخطيرة الّتي تعرّضت لها إمكانية استيراد المُستلزمات الطبّيّة والأدوية الأساسيّة لعمل المستشفيات والأطبّاء في مختلف القطاعات، والّتي عمد مصرف لبنان إلى تنظيم استيرادها ودعمها بالسّماح بدفع ٨٥ ٪ من قيمتها بالدّولار الأميركي على أساس أنّ الدّولار يُساوي ١٥١٥ ليرة لبنانيّة، والباقي أي ١٥٪ على أساس الدّولار في السّوق السّوداء، وكلّ ما نتج عن ذلك من عمليّات تأخير واستنسابية وغيرها من صعوبات، أدّى إلى حصول أزمة خطيرة في استيراد هذه الحاجيّات الضّروريّة للقطاع الصّحّيّ. وقد أدّى ذلك إلى عدم القدرة على استيراد كمّيّات كبيرة أو أصناف كثيرة من الأدوية غير المُصنّعة في لبنان، وهي الكمّيّة الأكثر مبيعًا في أسواق لبنان ( تُمثّل فاتورة الأدوية المُستوردة حوالي ١.٤ مليار دولار أميركي) وبحيث تشكّل حصّة الأدوية المُصنّعة في لبنان فقط حوالي ٢٠٠ مليون دولار أميركي فقط من فاتورة الأدوية المُستهلكة فيه. ولذلك يجب هنا السعي فقط لدعم بعض الأصناف الأساسية التي لا يمكن تصنيعها في لبنان لأنها جديدة وعدم دعم كل اصناف الأدوية خاصة التي يوجد منها “ادوية جُنيسيّة” او “جنريك”. ولأن هذا الدعم ساهم ايضاً بطريقة مُباشرة في تسهيل عمليات تهريب بعض الادوية المُرتفعة الثمن في لبنان الى دول مجاورة مثل العراق وسوريا والأردن ومصر وليبيا وغيرها لأن اسعار هذه الأدوية المدعومة اصبحت ارخص بكثير من اسعارها في معظم دول العالم بسبب فرق سعر الدولار ولذلك نشطت مافيات تهريب الأدوية في الأيام والأسابيع الأخيرة. ولذلك فإنّ على السّلطات الصّحّيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والصّناعية في لبنان أخذ العبرة ممّا حصل، والانتقال فورًا لوضع خُطط تحفظ “الأمن الدّوائيّ والصّحّيّ للمواطنين”، عبر تطوير ودعم عمليّة تصنيع الأدوية الوطنيّة، وخاصّة الأدوية المُرادفة او الجُنيسية أو الجنريك منها. بحيث إنّه من المعيب والمهين لهذا الشّعب أن يستيقظ يومًا ما وفي أصعب الظّروف الصّحّيّة والمعيشيّة والاقتصاديّة الّتي فاقمتها جدًّا أزمة جائحة كورونا، ولا يجد في الصّيدليّات أهمّ “الأدوية الضّروريّة والأساسيّة” لعلاج أمراض القلب والشّرايين وغيرها من الأمراض، وخاصّة تلك الّتي يوجد عدّة “أدوية جُنيسية أو رديفة” لها في معظم دول العالم، وخاصة المُتقدّمة منها. فلماذا لم تُصنع في الماضي، ولم يتمّ حتى اليوم وضع الخطط لتصنيع “لائحة كاملة” من هذه الأدوية الأساسيّة لعلاج كلّ أو معظم الأمراض الأكثر رواجاً في لبنان، ومنها أمراض القلب والشّرايين، لتأمين حاجات اللّبنانيين في كل الظّروف والأزمات، ولمنع تهديد “أمنهم الدّوائي والصّحّيّ”؟
كذلك فإنّه يجب على السّلطات منع عمليات احتكار استيراد بعض الأدوية الأساسيّة غير المُصنّعة في لبنان، من قِبل بعض الشّركات التي تقاسمت حتّى اليوم هذا السّوق، ومنذ عشرات السّنوات وجنت من جرّاء ذلك أرباح هائلة. وهي تعمّدت في الكثير من الأحيان بسبب احتكارها ووكالتها الحصريّة الّتي حصلت عليها من الشّركات الأجنبيّة من استيراد بعض الأدوية الزّهيدة الثّمن، لأنّ ذلك لا يسمح لها بجني أرباح هائلة بسبب الهامش الضّئيل للرّبح، من جرّاء استيراد هكذا أدوية، واكتفت في غالب الأحيان باستيراد الأدوية الباهظة الثّمن لجني أعلى نسب الأرباح.
لذلك يجب وضع أنظمة وقوانين جديدة، تمنع الاحتكار وتسمح بتعدّد المستوردين خاصّة للأدوية الجُنيسية أو الرّديفة من كلّ الأصناف.
وأخيرًا يجب في أسرع وقت ممكن، وضع خطّة مُتكاملة لتشجيع الصّناعات الدّوائيّة الوطنيّة لتخفيف فاتورة الدّواء في لبنان، والعمل على أن تراعي هذه الصّناعات كلّ المقاييس العلميّة العالميّة لناحية الجودة والرّقابة، حتّى لو كان ذلك بالتّعاون مع الشّركات العالميّة لتكون كلّ تلك العمليّات تحت إشرافها، وبالتّنسيق الكامل معها. وهذا من شأنه أن يخلق فرص عامل للعديد من الشّباب اللّبناني الّذي لا تنقصه الخبرات والكفاءات في هذا المجال أيضًا.
وهنا يجب الإشارة إلى دور “المختبر المركزي للدّواء” في مُراقبة كلّ تلك العمليّات، والتّدقيق في فعاليّتها وجودتها.
أخيرًا يجب العمل على أن يكون الدّواء المُصنّع في لبنان أرخص بنسبة مقبولة من الدّواء الأجنبيّ المُستورد، وكذلك يجب تشجيع المواطن والطّبيب اللّبنانيّ على تكوين ثقة كاملة بهذه الأدوية الوطنية.