١- تمهيد:
منذ بداية إنتشار جائحة كورونا ونحن نسمع في وسائل الإعلام عن نظرية المؤامرة العالمية الرهيبة التي يقودها الملياردير العالمي الأميركي “بيل غيت” الموصوف بأنه “الرجل المُحبّ للخير، وهو كما نعرف جميعًا أحد مؤسّسي شركة مايكروسوفت Microsoft والذي باع اسهمه فيها عام ٢٠٠٨ واتجه للعمل الإنساني على أوسع نطاق عبر مؤسّسة بيل وميلاندا غيت العالمية التي يدير شؤونها هو وزوجته ميلاندا. ويذكر أنّ آلاف المقالات والفيديوهات إنتشرت بسرعة كإنتشار النار في الهشيم على جميع وسائل الإعلام التقليدية والإجتماعية الحديثة منها، وذلك منذ بداية إنتشار جائحة كورونا، ويعود أساس هذه الأخبار إلى تصاريح سابقة تعود لسنواتٍ عدّة خلت للملياردير المهندس بيل غيت منها مُقابلة شهيرة أُجريت معه في آذار ٢٠١٥ عندما كان يتكلّم في إحدى المؤتمرات العالمية في مدينة “فانكوفر” الكندية المعروفة. يومها قال حرفيًا في الفيديو الذي تمّت ترجمته إلى ٤٣ لغة مختلفة : “عندما كنت طفلًا كنت أعتقد أن أخطر ما يُمكن أن يُهدّد البشريّة بنظري من مصائب هو حرب نووية تؤدي إلى وفاة الملايين من البشر… ثم أكمل في ذات المقابلة أن الشيئ الذي أعتقد أنه سيقتل أكثر من ١٠ ملايين شخص في العقود المقبلة سيكون حتمًا فيروس فتّاك شديد العدوى”.
الفيديو المذكور جال العالم وتصدرت كلمات “بيل غيت” و”المؤامرة” جميع محركات البحث عبر الإنترنت مثل غوغل وغيرها ما بين ١٥ و ٢١ آذار ٢٠٢٠. حين كانت الجائحة في ذروتها في فرنسا وفي معظم الدول الأوروبية. وحيث كانت أوروبا يومها تُمثّل البؤرة العالمية الأساسية لإنتشار الفيروس وكنت يومها شخصيًا شاهدًا على مدى خطورتها وعلى العدد الكبير من الشائعات والفيديوهات والمقالات التي قالت يومها ان هذا الفيروس لا يمكن إلا ان يكون من صنع الإنسان وان هناك ايادي خفيّة عالمية صنعته لتتخلّص من كبار السنّ والمتقاعدين والضعفاء الذين اصبحوا عالة على المجتمعات الغربية خاصة في القارة العجوز لأنهم بحاجة الى رعاية صحيّة وإجتماعية ذات تكلفة عالية وهم غير عاملين او مُنتجين ويعيقون تقدّم إقتصادات هذه الدول. وهي نظريات لا يزال الكثير من النخب يحكون عنها في فرنسا وغيرها حيث اضافوا عليها انّ إيجاد هكذا فيروس يسمح ايضًا لبعض الديمقراطيّات الغربية ومنها فرنسا ايضًا تحديدًا بإستعمال قوانين الطوارئ والحجر والإغلاق لتمرير العديد من القوانين والمشاريع والإصلاحات الغير والتي قد تواجهها تظاهرات وإحتجاجات شعبيّة عارمة في الحالات العادية وهي اخبار ونظريات لا تزال تتداولها بعض النخب وتنشرها بعض الصحف والمجلّات حتى يومنا هذا.
وعادت هذه الأخبار والإشاعات والكلام عن نظرية المؤامرة للإنتشار مُجددًا منذ بدء الحديث عن وجود دور ما يلعبه بيل غيت ومؤسسته الخيرية في تطوير اللقاحات المُضادة لهذا الفيروس. وازدادت وتيرتها مع نشر أخبار مُتعدّدة تتهم هذا الرجل بأنه يقود “مؤامرة عالمية” يودّ تنفيذها عبر لقاح فيروس كورونا كما سنرى لاحقًا.
في مقابل كل تلك الإتهامات التي طالت الرجل توجهت بعض وسائل الإعلام العالمية الأميركية والأوروبية منها لتصور هذا الملياردير العالمي الأميريكي بأنه “مُستشرق لآفاق المستقبل” و”صاحب نظرة ثاقبة” بالأمور التي تعاني منها البشرية او تُهددها وصوّروا هذا الرجل بأنه “اهمّ رجل مُحبّ وفاعل للخير في التاريخ المعاصر” وانه يُقدّم خدمات هائلة للبشرية من خلال الأموال الضخمة التي رصدها للأبحاث ولتطوير اللقاحات وتوفيرها للدول الفقيرة خاصة في افريقيا وآسيا ومن خلال سعيه لتطوير الرعاية والخدمات الصحيّة في معظم الدول النامية في هاتين القارتين خاصة ودعمه لعدّة مشاريع إنسانية وصحية في تلك الدول.
٢-تسابق “نظرية المؤامرة التقليدية” مع “المعطيات الجديدة”:
إن موضوع اللقاح شكّل “مسألة جدلية” او “تابو” كبير في معظم المُجتمعات الغربية. فهو يُثير اليوم الكثير من ردّات الفعل والتساؤلات والجدل عند الكثير من الطبقات المُخملية الغربية وعند الكثير من المثقفين في تلك الدول. وبسرعة ذهب الكثير منهم إلى الربط ما بين ما هو “كلاسيكي قديم” ومعروف عن “بيل غيت” في سعيه مند سنوات لنشر اللقاحات وتوزيعها في عدّة دول أفريقية وٱسيوية كما ذكرنا وبين ما هو “جديد و مُثير” وهو سعيه بحسب أقوالهم لزرع “شريحة إلكترونية تحت الجلد” للتحكّم بطريقة تفكير البشر و تغيير أنماط حياتهم. وهذا الربط لا يعتمد فقط على الفيديو الذي ذكرناه سابقًا بل على وقائع أخرى كثيرة مُثيرة للإهتمام ومنها:
أ-إنّ “مؤسسة بيل و ميلاندا غيت الخيرية” تُعتبر حاليًا المورد او المموّل الثاني الأساسي لمنطمة الصحّة العالمية اذا ما عُدنا لميزانيّاتها وحساباتها خلال عملها مثلا في ما بين العامين ٢٠١٨ و ٢٠١٩. حيث كانت فقط الولايات المتحدة الأميركية تتصدّر لائحة المُموّلين لهذه المنظمة. وكانت مؤسسة “بيل غيت الإنسانية” مباشرة بعدها في تصنيف مُموّلي هذه المُنظّمة. ولذلك يقول بعض مؤيّديه وداعميه أن له دور كبير ومُؤثّر جدًا في تحديد سياسات هذه المنظمة الدولية وتحريكها ودعمها.
في حين يذهب أصحاب “نظرية المؤامرة” للقول بأن هذا الدور والدعم والتأثير في تحديد سياسات هذه المُنظّمة هو “فعليًا” ما يجعلنا نُشكّك بدوره التٱمري، إذ كيف لشخص ليس له اية علاقة بالطب او بالصحة ان يكون له هذا التأثير الهائل على هكذا مُنظّمة.
ب-لقد كان بيل غيت أحد الداعمين الأساسيين لمشروع “السِجلّ” او “الدفتر اللقاحي الإلكتروني”: الذي قام بتطويره بعض المهندسين في معهد ماساتشوستس (Massachusettes ) للعلوم التكنولوجية. وقد حاول البعض أن يستغلّوا مشروع هذا السجل الإلكتروني بالتحديد والذي كان بعض المهندسين ينوون تطويره لتسهيل حملات التلقيح في بعض الدول مثل “كينيا” و “مالاوي”. وهذا السِجلّ هو تحديدًا ما يحاول “أصحاب نظرية المؤامرة” أن يستعملوه في محاولاتهم لإلباس التهم لبيل غيت حيث كان هذا الأخير من اكبر مُموّلي هذا الفريق من المهندسين.
ج-تصريحات بيل غيت في آذار ٢٠٢٠: على كل ما تقدّم، أتت تصريحات بيل غيت في ١٨ آذار ٢٠٢٠ وفي اوجّ أيام إنتشار جائحة كورونا والتي قال فيها أثناء مُشاركته في إحدى اللقاءات الإعلامية مع بعض الخبراء ما معناه حرفيا: على المدى البعيد سيكون لدينا “شهادة رقمية” تُظهر ما إذا كان المريض قد شفي تمامًا من المرض أو أنه قد أجرى الفحوصات التشخيصية اللازمة مؤخّرًا، وكل ذلك عندما يكون قد تلقّى اللقاح المناسب لهذا الفيروس.
لكل تلك الأسباب فإن بيل غيت يجسد في آن واحد “الأخ الكبير” و”الصيدلي الكبير” الذي إتّفقت شرائح نخبوية غربية كبيرة لمحاولة إلباسه كل “نظريات المؤامرة”.
وهي شرائح تضمّ الكثير من النخب الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مرورًا بكل مُعارضي العولمة واليمين المُتطرّف مع كل معارضي اللقاحات ومعارضي قمّة الخمسة الكبار G5 ( اكبر خمس إقتصادات عالمية).