بعد حوالي شهرين على انطلاق حملات اللقاحات المُضادّة لفيروس كورونا في معظم الدول العالم وبعد وصول عدد الملقّحين عالمياً الى حوالي 200 مليون نسمة في حوالي 100 دولة مُختلفة، هناك عدّة غيوم بدأت بالتلبّد في مسار حركة عمليات التلقيح التي تتسابق جميع دول العالم في تسريعها وتوسيعها، بهدف شمولها أكبر شرائح مُجتمعية مُمكنة خشية إستمرار تفشّي المرض وإستمرار ظهور سلالات جديدة من الفيروس. ويظهر ايضاً انّ هذه السلالات الجديدة بدأت في الحقيقة تُقلق الأوساط العلمية بشكلٍ كبير خاصةً لناحية إستمرارية فعالية اللقاحات مع تفشّيها في اكثر من دولة وبأشكال مُختلفة. ويبدو ان هذه المشاكل تضع على المحكّ بشكلٍ واقعي فعالية اللقاحات الحالية التي تمّ او يتمّ توزيعها حتى اليوم واللقاحات الأخرى التي هي قيد التطوير من قبل الشركات الأخرى الساعية لحجز محل لها في السباق العالمي الحامي الوطيس لإحتلال مكانة علمية وإقتصادية وبالتالي جيو-سياسية في هذه الحرب الباردة الدائرة بين اقطاب العالم الأساسيين. وبالفعل فقد بدأت دراسات كثيرة لمعرفة ما اذا كان وجود “الطفرة الجينية” التي أطلق عليها العلماء اسم “E484K”، والتي يحملها الفيروس الذي سُميّ بمتحوّر او سُلالة جنوب أفريقيا وفي السلالة البرازيلية-اليابانية، وفي سُلالة اخرى أُطلِق عليها منذ أيام اسم “السلالة النيجرية”. هذه الأخيرة هي عبارة عن فيروس تمّ إكتشافه حتى اليوم في حوالي 13 دولة، واطلق عليه العلماء اسم B.1525.
وقد تمّ عزله حتى اليوم في كلٍ من بريطانيا “44 حالة، ” نيجيريًا “29 حالة”، الدنمارك “35 حالة”، الولايات المتحدة الأميركية “12 حالة” ،كندا “5 حالات”، فرنسا “5 حالات” غانا “5 حالات”، أستراليًا “حالتان”، الاردن “حالتان”، سنغافوره “حالة واحدة”، فنلندا “حالة واحدة”، بلجيكا “حالة واحدة”، أسبانيا “حالة واحدة.
وأما لماذا يهتمّ العلماء بهذه الطفرة المُسماة “E484K ” والتي كنا ذكرناها في عدّة مقالات سابقة، فذلك لأنها تُغيّر بشكلٍ كبير “البروتين الشوكي”(Spike) الموجود في النتوءات الموجودة في غلاف الفيروس بشكل تاج وهو ما اعطى كما كنا ذكرنا اسما الفيروس التاجي على هذا الفيروس. هذه التغييرات تجعل إمكانية وصول الأجسام المناعية المُضادة التي يفرزها الجسم الى الفيروس صعبة ومُعقّدة. وهي تُضلّل إذاً جهاز المناعة وتجعل الفيروس اكثر قابلية على الإلتصاق بالخلايا والدخول اليها. ولذلك فهي مصدر قلق للشركات التي تطوّر اللقاحات، او تلك التي بدأت تسوقيها منذ فترة. وإذا كانت الشركات التي تعتمد تقنية مرسال الحمض النووي الريبوي (RNA) مثل لقاحات شركتي “فايزر وبيونتك” (Pfizer، Biontech) وشركة “مودرنا” (Moderna) قد تسرّعت إلى حدّ ما بالإعلان عن ان اللقاحات التي طوّرتها تبقى فعّالة الى حد مقبول مع السلالات المتحوّرة الجديدة، فإن ذلك قد إستند الى تجارب مخبرية على امصال عينات صغيرة جداً من المرضى (20 مريض في تجربة شركة Pfizer و 8 مرضى في تجربة شركة Moderna). في المُقابل فإن اللقاحات الأخرى مثل لقاح شركة استرازنيك (AstraZeneca) قد تلقّى ضربة قوية عندما قام الخبراء بتجربة عليه في جنوب افريقيا حيث تنشر السلالة المتحوّرة المُقلقة بنسبة ٩٠ ٪ تقريبا، اذ إنخفضت فعاليته الى 22 ٪. وكذلك الأمر بالنسبة للقاح شركة NovaVax، الذي أنخفضت فعاليته الى 50 ٪ في جنوب افريقيا ايضاً. ولا يوجد بالتاكيد حتى اليوم معطيات دقيقة حول اللقاحات الصينيه والروسية وكيفية تعاطيها مع السلالات الجديدة وإن كان الكثير من الخبراء يجزمون انها سوف تنجفض بشكلٍ ملحوظ.
ومن هنا فقد بدأت كل الشركات المصنعة للقاحات تقريباً بالتفكير الجدّي والسريع بالحلول ولخيارات الأخرى المُمكنة في حال تأكّد وجود مُقاومة او إنخفاض في نسبة فعالية اللقاحات الحالية او التي ستُسوّق عن قريباً.
١-الجرعة الثالثة:
الخيار الاول المطروح قد يكون في إعطاء “جرعة ثالثة” من اللقاح الذي تناوله المريض من اجل التمكين. وذلك بهدف زيادة كمية “الأجسام المناعية المُضادة” في الجسم. ذلك لأنه وبسبب وجود تغيّرات اساسية في مُكوّنات “البروتينات الشوكية”، قد تجد الأجسام المناعية المضادة التي يفرزها الجسم صعوبات للذهاب والتعرّف والتصدّي والفتك بالسلالة الجديدة من الفيروس. ولذلك فإن إعطاء “جرعة ثالثة” من اللقاح قد يُعزّز من كمية هذه الأجسام ويجعل “نسبتها كافية” من أجل منع الفيروس من التهرّب والإفلات من مُقاومة جهاز المناعة. وبحسب دراسة مخبرية أوّلية في “جامعة Cambridge البريطانيه”، فإن هناك امل ان تكون في هذا الحلّ إمكانية لأن نصل الى “كمية أجسام مُضادة فائضة” من اجل امكانية منع دخول فيروس يحمل الطفرة “E484K”، وبالتالي منع تكاثره وتسبّبه بالأعراض الاي نعرفها عن الفيروس. ولذلك يعتقد بعض الخبراء ان أعطاء جرعة ثالثة من اللقاح قد يفي بهذا الغرض ويوص نسبة الأجسام المناعية المُضادة الى مستوى يحمي هذه السلالات الجديدة. وفي هذا السياق يحب ان نلحظ ايضاً، إن اللقاحات التي تعتمد على تقنية RNA هي اكثر فعالية لجهة تحفيز زيادة إفرازات “الأجسام المناعية المضادة”، ولذلك فإن فكرة اعطاء “جرعة ثالثة للتمكين” قد تكون هي الحلّ الأنسب لتجاوز هذه المشكلة. ولذلك أيضاً هناك الكثير من التجارب لمقاربة موضوع “الجرعة الكافية لتأمين الحماية” اي الجرعة التي ترفع من نسبة الأجسام المُضادة وتجعلها قادرة على مُحاصرة الفيروس المتحوّر والقضاء عليه. ولكن كل ذلك يحتاج الى إجراء المزيد من الدراسات الواسعة والعلمية الدقيقة لمعرفة متى يجب إعطاء هذه الجرعة الثالثة من ناحية التوقيت؟ وكم هي كميّتها؟ وهل ستكون حقًا قادرة لتمكين المريض للوصول الى مرحلة “الحماية الكاملة”؟ ام انها ستكون فقط كما الجرعات الاولى والثانية كافية للحماية من “الأشكال الخطيرة من هذه الإلتهابات. نشير اخيراً في هذا المجال، إلى ان شركة Moderna أطلقت منذ فترة “دراسة سريرية” تُعطىَ فيها “جرعة ثالثة” للمرضى الذين تلقّوا الجرعة الاولى والثانية على مسافة من الجرعات السابقة، وذلك تحت إشراف “معهد الصحة في الولايات المتحدة الاميركية”. وكان الهدف الأساسي في هذه الدراسة هو معرفة مدى “اطالة زمن الحماية” الموجودة عند المرضى الذين يتناولون اللقاح، لكنها قد تكون مُفيدة لمعرفة ما اذا كان ذلك يحمي أيضا ضد السلالات المتحوّرة التي ذكرناها.
٢- تغيير بعض مُكوّنات اللقاح:
الخيار الثاني هو تطوير “جيل ثاني” جديد من اللقاحات يحتوي على مكوّنات من السلالات المتحوّرة. و بما ان العلماء إكتشفوا ان “الطفرات الجينية” التي ادّت الى تحوّر الفيروس وظهور السلالات الجديدة التي تكلمنا عنها. والتي طالت “البروتين الشوكي” الذي تغيّرت مكوناته بشكلٍ متوسّط او كبير بحسب عدد الطفرات الجينية. و مما ادّى الى إمكانية التهرّب الفيروسي من ردّة فعل الجهاز المناعي في الجسم، فإن احد الحلول المُقترحة حالياً والتي تعمل عليه عدّة شركات، هو اخذ “القطعة الجينية” المطلوبة (RNA) التي تصنع البروتين الشوكي من السلالات الجديدة التي ظهرت ووضعها مكان القطعة التي كانت موجودة في الجيل الاول من اللقاحات. وبهذا يصبح اللقاح قادر على تحفيز صناعة بروتين شوكي من النوع المُحوّر عندما يتمّ حقنه في الجسم. وهذا ما يُؤدّي الى تفعيل جهاز المناعة ضد هذا الفيروس المُحوّر. وبالفعل فإن شركات كثيرة ومنها شركة “مودرنا” (Moderna) مثلاً قالت على لسان مديرها العام انها بحاجة الى ستة اسابيع فقط من اجل إجراء هكذا عملية. اي انها ستأخذ قطعة من الحمض النووي الريبوي المسؤول عن صناعة البروتين المُحوّر ووضعه مكان الحمض النووي في اللقاح السابق وبهذا نحصل على مناعة ضد هذا الفيروس المُحوّر. في هذا المجال اعلنت ايضا. شركة CureVac انها تسعى لتطوير جيل مُطوّر جداً من اللقاحات بالتعاون مع شركة GSK يكون قادر على ان يحتوي عدة انواع من ال RNA من السلالات المُتحوّرة. وبهذا تكون قدرة على تطوير “سوبر لقاح” قادر على الحماية من عدّة سلالات مُتحوّرة مُختلفة. وقد اعلنت الشركة انها ستكون قادرة على تطوير هكذا اللقاح خلال في هذه السنة او بداية ال٢٠٢٢.
اما بالنسبة للقاحات التي تستعمل تقنية “الفيروس الحامل” مثل لقاح شركة AstraZeneca فأنها قادرة ايضاً على إستعمال قطعة من الجينوم (DNA) الموجود في الفيروس المُحوّر وزرعه في داخل الفيروس الحامل Aenovirus. وبهذا تتغلّب على مشكلة عدم فعالية اللقاح ضد الفيروسات المُحوّرة من سلالات مُختلفة. وقد يكون ايضاً احد الحلول المُمكنة والتي يعمل عليها العلماء عملية “دمج اللقاح القديم” الذي يعتمد على مُكونّات من السلالة القديمة في “لقاح من الجيل الثاني” يسمح بتأمين المناعة ضد السلالات الجديدة المُتحوّرة. وتقوم عدّة شركات حاليًا بدراسة إمكانية إستعمال بعد مُكوّنات السلالة الأساسية التي ظهرت في مدينة “وهان” ومواد جينية من السلالات الجديدة المُتحوّرة ودمجها بهدف تأمين لقاح قابل على ان يعمل على سلالتين او ثلاثة او اكثر من السلالات الجديدة المُتحوّرة التي قد تظهر في المستقبل.
اخيراً وبالعودة الى موضوع “السوبر لقاح”، فإنّ هناك ثلاثة شركات اخرى لديها حالياً مشاريع لقاحات وبرامج ابحاث مُتقدّمة وواعدة جداً في هذا المجال. الأولى فرنسية تدعى Osivax وهي شركة كان هدفها الأساسي عند التأسيس السعي للحصول على “سوبر لقاح للأنفلوانزا”( Grippe) بدل اللجوء الى تغيير اللقاح في كل موسم، وقد حصلت مُؤخراً على تمويل كبير بقيمة ٣٠ مليون يورو من اجل تسريع مشروعها الواعد. وقد اعلنت منذ ايام انها في صدد إطلاق دراسة سريرية من المرحلة الثانية على مئات المتطوّعين. والشركة الثانية وهي اميركية وتدعى Phylex Biosciences وتعمل على لقاح ضد بعض المُكوّنات التي تُعتبر ثابتة في البروتين الشوكي وبذلك تتجاوز مسألة التحوّر في هذا البروتين. واخيراً الشركة الثالثة وهي بلجيكية وتدعى myNEO وتقوم بتقييم “مشروع لقاح” ثوري يستهدف “مُكوّنات داخلية” موجودة في داخل الفيروس بهدف الإلتفاف على مكر الفيروس وتحويره للبروتين الشوكي.