الأمن المائي في المنطقة : المستقبل غامض ودول المصب تدق ناقوس الخطر | كتب د. مازن مجوز
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
يُشكّل الأمن المائي تحديًا محوريًا أمام عملية التنمية في منطقة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأمنها وإستقرارها، وهو تحدٍ يثير قدرًا من الإهتمام يتجاوز حدود قطاع المياه بكثير. إذ يعد من أبرز ثغرات الأمن الغذائي، وبالتالي القومي، الذين من دونه لا يمكن أن يتحققا بالكامل؛ حتى أن كل الدراسات الحديثة والمؤشرات العلمية، تؤكد أن المياه ستكون في السنوات المقبلة سببًا من أسباب الصراع والنزاع بين الدول المتشاطئة.
وفقا لتعريف برنامج الأمم المتحدة للمياه (2013) للأمن المائي نجد بأنه “ضمان إمداد السكان المستدام بكميات كافية من المياه ذات الجودة المقبولة لاستدامة سبل المعيشة، رفاه الإنسان، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولضمان الحماية من التلوث عن طريق المياه والكوارث المتعلقة بالمياه، والحفاظ على النظم الإيكولوجية في مناخ من السلام والإستقرار السياسي”.
والأمن المائي لا يتوقف عند حدود ندرة المياه، ولا عند الموارد المائية التي يتميز بها بلد بعينه، بل أيضًا يشمل الأجراءات الفعالة والوقائية التي إتخذها هذا البلد لتأمين المياه؛ ومن بينها تكثيف الجهود الدبلوماسية والحوكمة والشفافية، بعيدًا عن الأطماع السياسية والإقتصادية للتأقلم مع مشهد التغيرات المناخية، وتجنب النزاعات حول هذه الموارد .
من المؤسف، أنه ومنذ تسعينات القرن الماضي إتخذت دول المنبع مثل ” تركيا وإيران وأثيوبيا” من شعار ” الأمن المائي ” ذريعة لإقامة عددٍ كبير من السدود الجديدة، بينها الاضخم في المنطقة والعالم، ومشاريع الري على طول أنهار دجلة والفرات والنيل( ضمن أراضيها) ، بحجة تطوير توليد الطاقة الكهرومائية كمفتاح في مواجهة تغير المناخ، وزيادة عمليات الري كأداة لتلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة، متناسيةً الأضرار الفادحة التي ستلحق بدول المصب كسوريا والعراق ومصر والسودان.
كما وتجاهلت أيضا أن” الأمن المائي يتوافر عندما تدار المياه بفاعلية واستدامة وإنصاف للإستفادة من إمكانياتها المثمرة وللحد من امكانياتها على السواء”، بحسب ما أورد تقرير “ما بعد ندرة المياه : الأمن المائي في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، الصادر عن مجموعة البنك الدولي في العام 2017 “.
وتتفاقم خطورة الأمن المائي، حينما يُنظر إليه من منظور مهم وهو زيادة معدلات النمو السكاني العالية، والعجز الغذائي، وتزايد الحاجة إلى المياه، باعتباره أحد أبرز القضايا الإستراتيجية بالنسبة لدول المنبع والمصب على السواء؛ خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المنطقة الأشد ندرةً في المياه على مستوى العالم، حيث يعيش أكثر من 60% من سكانها في مناطق تعاني من مستوى مرتفع أو مرتفع جدًا من إجهاد المياه السطحية، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ نحو 35%.
وإذا ما توقفنا عند مخاطر السياسات المائية لدول الجوار الجغرافي، لتلمسنا حجم المعاناة لدى كل من سوريا والعراق بفعل “سد أتاتورك” التركي، ومصر والسودان بفعل سد النهضة الأثيوبي ، والاردن وفلسطين نتيجة إحتكار الاحتلال الاسرائيلي أجزاء ضخمة من مياه نهر الاردن، معاناة دفعت دول المصب الى دق ناقوس الخطر، بعد أن ضرب الجفاف غير المسبوق مناطق كبيرة فيها، معاناة مزمنة تعكس لنا كيف تجعل هذه السدود كل شيء حي في هذه البلدان مهددًا بالفناء عطشًا وغضبًا، علما أنها تقع أصلًا تحت خط الفقر المائي منذ سنوات عدة.
“حرب مياه على البلاد” توصيف أطلقه الرئيس العراقي في حزيران/يونيو هذا العام، بعد التحذيرات من كارثة بيئية وأزمة جفاف كبيرتين ستضربان العراق بدءًا من العام 2025 . وتتفرع معالم هذه الأزمة لتطال معظم أوجه الحياة، واليوم بات فقدان الوصول إلى مياه الفرات بالإضافة إلى الجفاف، يهددان ما لا يقل عن سبعة ملايين شخص، ويضع نحو 400 كلم2 من الأراضي الزراعية في خطر الجفاف التام.
حدود الجفاف لا تتوقف هنا، فقد جفت المياه المغذية لمصائد الأسماك ومنشآت توليد الطاقة ومصادر مياه الشرب. ومن المتوقع أن ينخفض إنتاج القمح بنسبة 17 بالمئة في محافظة نينوى نتيجة للجفاف، أما في إقليم كردستان فمن المتوقع أن ينخفض الإنتاج بمقدار النصف، وصولًا إلى محافظة الأنبار التي تضطر بعض العائلات فيها إلى إنفاق حوالي 80 دولار شهريا لشراء المياه بعد فقدانها مكانية الإستفادة من مياه النهر، وفق تقرير بعنوان “أزمة المياه والجفاف تهدد أكثر من 12 مليون شخص في سوريا والعراق” في 23 آب 2021، الصادر عن المجلس النروجي للاجئين في الشرق الأوسط.
في الماضي كان العراق يحتاج الى 53 مليار م.م. من المياه ، أما اليوم فيحتاج لقرابة 71 مليار م.م.، يقابل ذلك 51 مليار م. م. كمية ما يصله وما يملكه من مصادر أخرى ، أي أن عجزه يقارب 20 مليار م.م..ما يعني أنه سيموت عطشًا عام 2040. ولم تعد الكارثة مائية وحسب، بل صحية وبيئية وزراعية وصناعية وحتى طاقوية، نتيجة الأضرار الكثيرة التي ألحقتها الأطماع التركية بالأرض والإنسان، وتهديدها ملايين العراقيين بمصادر رزقهم. بفعل مشاريع الري والسدود وأهمها وأكبرها سد ” إليسو” وسد اتاتورك المتهمين الرئيسيين بسرقة مياه دجلة وآخرها، إثنين من 22 سد تركي آخر لتوليد الطاقة وتخزين المياه. فالأزمة تتعمق أكثر مع إزدياد عدد سكان العراق ، ومع تزايد خطر فقدانه 60% من وارداته من النهرين.
يقول بعض الباحثين، إن الواقع المائي في العراق ينذر بكارثة لم نشهد مثيلًا لها، الأمن المائي سينعكس على الأمن الغذائي، ثم الأمن المجتمعي والبيئة والديمغرافيا، قد نشهد موجة هجرات بسبب الجفاف والعطش، وهذا ينذر بتغيير في توزيع الكثافة السكانية، ومن المرجح حصول أزمات أمنية جراء ذلك، فبعض الدراسات تفيد بأن العراق وعدد من دول المنطقة قد لا تكون صالحة للعيش خلال العقد القادم، بسبب الجفاف والتصحر وإرتفاع درجات الحرارة.
حال المواطن السوري، وخصوصًا سكان المناطق الواقعة على ضفتي نهر الفرات ليست أفضل من حال المواطن العراقي في معاناته الإنسانية من شبح العطش والجفاف، بعد إنخفاض منسوبه الى مستويات غير مسبوقة، إذ يعتمد أكثر من خمسة ملايين شخص بشكل مباشر على نهر الفرات. ويوشك سدان في شمال سوريا، يمدان ثلاثة ملايين شخص بالكهرباء، على الإغلاق. وقد شهدت المجتمعات المحلية في الحسكة وحلب والرقة ودير الزور، علاوة على النازحين في المخيمات، منذ انخفاض المياه، إرتفاعا في تفشي الأمراض المنقولة بواسطة المياه، مثل الإسهال والكوليرا وحمى التيفوئيد، وتدني في مستوى نظم الصرف الصحي.
أما إيران فتجفف مياه شط العرب والأهوار شرق وجنوب العراق، وتخفض منسوب الأنهار المشتركة بينهما ما أثر بشكل سلبي على محافظات كاملة. ومن هنا يأتي إتهام وزير الموارد المائية العراقي إيران بقطع مياه نهري “سيروان” و”الكارون” عن البلاد، ما تسبب بشح المياه في محافظة ديالى (شرق)، والتأثير على نوعيتها في شط العرب أقصى جنوبها، في تصريح له في 8 آب 2021.
وإنتقالا إلى الأردن، فهو لا يزال حتى اليوم رهينة لمزاج الحكومات الاسرائيلية المعاقبة لتزويده بحصته التي نص عليها اتفاق السلام من مياه بحيرة طبرية، من دون أن ينجح في وقف الإعتداءات الاسرائيلية المتمثلة ببناء سدود شمال نهر اليرموك.
في الموازاة نجد المخاطر الخارجية التي يمثلها سد النهضة الاثيوبي، ففضلًا عن تأثيره على التوليد الكهربائي والمشاريع الزراعية ومحطات مياه الشرب، فإن انهياره لأي سبب كان، قد يغرق مساحات واسعة من مناطق السودان الحدودية.
بعد السودان تأتي مصر، دولة المصب الاخرى، ذات الموقف الأكثر حرجًا، فالبلاد دخلت مرحلة الفقر المائي الحاد بعيدًا عن أزمة السد الاثيوبي، إذ تستمد هبة النيل (كما توصف) أكثر من 50 % من احتياجاتها المائية السنوية من النهر الشهير الذي يمنحها الحياة والخصوبة، وقد أبدت خشيتها على ما تصفها بحقوقها المائية التاريخية بفعل هذا السد، ما دفع بالسلطات الرسمية الى دق ناقوس الخطر منذ فترة، من تأثير السد بشكل مباشر على الصناعة والزراعة، لا بل وعلى حياة الناس.
هناك اكثر من 25 في المئة من العاملين في الانشطة الزراعية أي ما يزيد عن 40 مليون مصري يواجهون خطر الجفاف والعطش، بسبب التهديد بنقص مياه النيل بسبب السد الذي يتسع لأكبر من 5 مرات من احتياجاتها وتنوي تخزين 74 مليار م.م. من المياه بما يقلل 20 مليار م. م. من حصة مصر المائية .
ومن بين أبرز المواقف المصرية ما أكده وزير الخارجية المصري سامح شكري في 9 يوليو 2021 ” سد النهضةّ يشكّل تهديدًا وجوديًّا” بالنسبة إلى مصر”، مطالبًا بـ”اتفاق مُلزِم قانونًا” بالنسبة إلى إثيوبيا في ما يتعلّق بالسدّ. محذرًا – بعد إعلانه أن المسار التفاوضي الذي يقوده الاتّحاد الإفريقي قد وصل لطريق مسدود – من أنّه “إذا تضرّرت حقوق مصر المائيّة أو تعرّض بقائها للخطر … فلا يوجد أمامها بديل إلّا أن تحمي وتصون حقّها الأصيل في الحياة، وفق ما تضمنه لها القوانين”.
في الختام من الواضح أن ثمة مخاوف حقيقية تحيط بالأمن المائي العربي لا نراها في دول العالم؛ فعندما يغيب ما يسميه الخبراء ” العدالة المائية ” تعطش الارض ويعطش الانسان، محنة غالبًا ما تلم بكليهما بتهديداتها للحياة، نتيجة غياب المياه وندرتها، والجفاف اللاحق بدول المصب نتيجة فرض دول المنبع ارادتها السياسية والاقتصادية على الدول المتشاركة معها في مياه الانهار .
واذا ما سلمنا جدلا بأن “الأمن المائي هو التنمية المائية وبغير التنمية لا يكون الأمن، وأن المياه هي اساس التنمية المائية، فمن ملك المياه فقد ملك الأمن”، فإن تحقيق ذلك بات يتطلب وبشكل عاجل وفاعل وضع إستراتيجية قومية للعمل العربي المشترك، بهدف مواجهة التحديات التي تحول دون حفظ وأستدامة هذا الأمن- وهي متشابكة التعقيدات بدءأ من السياسية منها مرورًا بالإقتصادية وليس إنتهاء بالطبيعية- على أساس مفهوم الاستخدام العادل والأمثل للمياه بين دول المنبع والمصب، من خلال إتباع سياسة مائية متوازنة بعيدة عن المطامع، لا غالب ولا مغلوب فيها.