الإغراء المحفوف بالمخاطر لتبريد كوكب الأرض بشكل مصطنع
يمكن للتقنيات التي تُحرّف أشعة الشمس عن مسارها أن تساعد على التوقي من موجات الحر والجفاف. لكن هذه التقنيات قد يكون لها أيضًا آثار غير مرغوب فيها على النظم البيئية والسكان. وفيما تريد سويسرا فتح نقاش حول دراسة إمكانات ومخاطر هذه التقنيات، يُطالب بعض العلماء بفرض حظر فوري على فكرة يعتقدون أنها “ضارة بالبشرية”.
طائرة يبلغ بـاعُ جناحها (أي المسافة بين جناحيها) حوالي 100 متر تُقلع من مطار في الولايات المتحدة.. لا يُوجد على متنها ركاب أو بضائع.. بل لا يوجد طيار أصلا. يتم التحكم في هذه الطائرة عن بُعد من الأرض وهي مجهزة بصهاريج تخزين وجهاز رذّاذ (أو مُرذّذ). بمجرد وصولها إلى الغلاف الجوي الطبقي، أي إلى الطبقة الثانية من الغلاف الجوي للكرة الأرضية (التي تمتد من ارتفاع 18 كيلومتر إلى نحو 50 كيلومتر فوق سطح البحر)، وعلى ارتفاع حوالي 20 كلم، تقوم بنثر البلايين من جزيئات ثاني أكسيد الكبريت. أما الهدف من العملية، فيتمثل في عكس جزء من أشعة الشمس إلى الفضاء الخارجي.
نحن الآن في عام 2042 وارتفعت درجة حرارة الكوكب الأزرق بمقدار 1.5 درجة مئوية عما كانت عليه في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية. اختفت معظم الشعاب المرجانية وتراجع الإنتاج الزراعي في المناطق الاستوائية بشكل حاد. في كل عام، يضطر عشرات الملايين من الأشخاص إلى الفرار من المدن الساحلية بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر والمناطق الأكثر جفافاً بسبب تفاقم الجفاف فيها.
في الواقع، يسمح رش جزيئات ثاني أكسيد الكبريت في الغلاف الجوي الطبقي (أو طبقة الستراتوسفير) إلى انخفاض مؤقت في درجات الحرارة على سطح الأرض، كما يحدث بعد حصول الانفجارات البركانية الكبرى. ففي عام 1991 مثلا، أدى الغبار المتطاير في الغلاف الجوي نتيجة لثوران بركان جبل بيناتوبو في الفلبين إلى تبريد الأرض بمقدار 0.5 درجة مئوية لمدة عامين.
هذا سيناريو افتراضي بالطبع. لكنه ليس بعيد المنال تمامًا. لطالما كان يُعتقد أن هندسة المناخ أو الهندسة الجيولوجية، التي تنطوي على تلاعب متعمّد على نطاق واسع بالنظام المناخي للأرض، من المحرمات السياسية. اليوم هناك اهتمام متزايد بهذه القضية.
منذ وقت ليس ببعيد، أعلنت الحكومة الأمريكية عن إطلاق برنامج بحثي تشارك فيه وكالات مثل وكالة ناسا لدراسة كيفية التحكم في كمية ضوء الشمس التي تصل إلى الأرض، على سبيل المثال عن طريق نشر الجسيمات العاكسة في الغلاف الجوي الطبقي أو في السحب السفلية.
كان هذا النوع من التدخل، المعروف باسم تعديل الإشعاع الشمسي (اختصارا SRM)، محور نقاش في إطار مائدة مستديرة عقدت في شهر أكتوبر 2022 في جنيف خلال قمة “مؤسسة جنيف الرائدة للعلوم والدبلوماسية” (اختصارا GESDA) وناقش خلالها باسكال لامي، الرئيس الأسبق لمنظمة التجارة العالمية، وخبراء دوليون آخرون ما إذا كانت هناك حاجة لمزيد من البحث حول تعديل الإشعاع الشمسي لمعرفة ما إذا كانت التقنية ممكنة.
نهجان ممكنان
في هذا الإطار، قال لامي: “من المحتمل جدًا أن يتجاوز الاحترار العالمي 1.5 درجة مئوية، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة”. وفي الوقت الحاضر، يشغل لامي منصب رئيس منتدى باريس للسلام والرئيس المشارك للجنة تجاوز المناخ، التي تم إنشاؤها في مايو 2022 لدراسة مخاطر وضع أفكار مثل هندسة المناخ موضع التنفيذ إلى جانب عدد من القضايا الأخري.
ووفقًا لباسكال لامي “تتمثل الاستراتيجية الرئيسية في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري – وسيظل الأمر كذلك”، لكنه يستطرد قائلا: “نحن بحاجة إلى النظر في كل الحلول الممكنة وتوقعها.. تلك الحلول التي قد تقلل من الأذى والمعاناة للناس وللكوكب”، ومن بينها نجد تقنيات تعديل الإشعاع الشمسي.
من جهته، يبدو يانوش باسزتور، المدير التنفيذي لمُبادرة كارنيغي لإدارة المناخ (اختصارا C2G) ، مستعدّا للاعتراف بأن الحد من الانبعاثات، على الرغم من ضرورته الشديدة، لن يكون كافيًا. ويرى باسزتور في الأفق نهجين محتملين: “أحدهما سيكون زيادة القدرة على التكيّف والمرونة في تلك المجتمعات الأكثر تضررًا من الاحتباس الحراري، والآخر سيكون الاستفادة من تعديل الإشعاع الشمسي”، كما قال في الاجتماع المنعقد في جنيف.
فعالة، ولكنها مثيرة للجدل
تتمتع تقنيات تعديل الإشعاع الشمسي ولا سيما حقن الهباء الجوي في الغلاف الجوي الطبقي (أو طبقة الستراتوسفير)، وهي الطريقة الأكثر دراسة حتى الآن – بالعديد من المزايا، أقله على الورق، حيث يمكن تنفيذها بسرعة إلى حد ما وستكون فعالة ولن تكون التكاليف هائلة (حوالي 2.25 مليار دولار ، أو 2.12 مليار فرنك سويسري، سنويًا). للمقارنة، تقدر الأمم المتحدة أنه بحلول عام 2030 يُمكن أن تتراوح التكاليف السنوية للتكيّف مع المناخ ما بين 140 و 300 مليار دولار. ووفقا لبعض الدراسات يُمكن لتقنيات تعديل الإشعاع الشمسي أن تعدل من تواتر وشدة درجات الحرارة المرتفعة وموجات الجفاف، وإبطاء ذوبان الأنهار الجليدية والحد من ارتفاع مستويات سطح البحر.
رغم ذلك، فإن الأبحاث التي تم إجراؤها في أوضاع واقعية نادرة، وكانت مثار جدل. في عام 2021، قررت جامعة هارفارد إلغاء تجربة في السويد لمعرفة ما إذا كان إطلاق الهباء الجوي لحجب أشعة الشمس سيُوقف الاحترار العالمي، بعد اندلاع احتجاجات في الأوساط العلمية ومن قبل السكان المحليين.
يعتقد بازستور أنه من الضروري تنسيق الأنشطة على المستوى الدولي لتوسيع المعرفة بهذه التقنيات. ويوضح قائلا: “أنا لا أتحدث عن استخدامها، ولكن عن عملية التفكير في الفوائد والتحديات التي تنطوي عليها والتي من شأنها أن تشمل المجتمع ككل”.
وأضاف أنه من منطلق وجهة النظر هذه، لعبت سويسرا دورًا مهمًا.
أسئلة كثيرة ولا إجابات
في فبراير 2019، عرضت سويسرا على برنامج الأمم المتحدة للبيئة قرارًا مدعومًا من اثنتي عشرة دولة أخرى دعا إلى دراسة تفصيلية لهندسة المناخ.
في الواقع، هناك مجموعة كاملة من الأسئلة الأساسية التي لا تزال دون إجابة: متى وتحت أي ظروف يجب تنفيذ الهندسة الجيولوجية الشمسية؟ من يجب أن يكون مسؤولاً؟ ما هي الآثار غير المرغوب فيها التي قد تنجم عنها؟ ماذا سيحدث إذا تم إلغاء الإجراء، بسبب حرب مثلا؟
ومما يثير القلق أيضًا الأثر لمجهول لتقليل ضوء الشمس على الغطاء النباتي وإنتاج الغذاء العالمي. قد تكون تأثيرات الهندسة الجيولوجية الشمسية مختلفة في مناطق متباينة من كوكب الأرض، مع احتمال انخفاض هطول الأمطار في بعض المناطق. ناهيك عن أن جزيئات ثاني أكسيد النيتروجين ضارة بصحة الإنسان وبالبيئة.
تم سحب القرار السويسري بعد مرور شهر بسبب عدم وجود إجماع بشأنه، كما أخبر فرانتس بيريز، السفير السويسري لشؤون البيئة SWI swissinfo.ch في وقت سابق. على الرغم من ذلك، لا تزال الحكومة السويسرية تعتقد أن برنامج الأمم المتحدة للبيئة يجب أن يقوم بهذا الصنف من الدراسات وأن يبتكر عملية للمناقشات متعددة الأطراف حول الحوكمة.
تعتقد سيكينا جناه، أستاذة الدراسات البيئية بجامعة كاليفورنيا، أنه من المهم إشراك بلدان الجنوب في المناقشة. هذه دول لم تُساهم تاريخيًا إلا بالقليل في ظاهرة الاحتباس الحراري، لكنها تتأثر الآن بها بشدة. كما أن 90٪ من الأبحاث واستطلاعات الرأي حول الهندسة الجيولوجية الشمسية تم إجراؤها في أمريكا الشمالية وأوروبا. وفي سياق قمة مؤسسة “جنيف الرائدة للعلوم والدبلوماسية”، لفتت سيكينا إلى أنه “تم استبعاد البلدان الأكثر عرضة لتغيّر المناخ في الغالب”.
ضار بالبشرية؟
مع ذلك، فإن فكرة التلاعب بالمناخ على نطاق واسع لا تحظى بالإجماع. ووفقًا لبعض الأشخاص، فإنه لا ينبغي حتى مجرد البدء في استكشافه.
من بين الأصوات الأكثر انتقادًا نجد فرانك بيرمان، أستاذ حوكمة الاستدامة العالمية في جامعة أوتريخت الهولندية الذي يؤكد أن الجانب السلبي لتقنيات تعديل الإشعاع الشمسي يتمثل في أنها لا تُعالج المشكلة من جذورها، وهي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وقال في جنيف: “إن الحديث عن هذا لن يؤدي إلا إلى تأخير جميع برامج سياسة المناخ، في وقت تتفق فيه معظم الحكومات والمزيد من الناس بشكل عام على ضرورة خفض الانبعاثات”.
يُضاف إلى ذلك أن هذه التقنيات تنطوي على عدة مخاطر، حيث أنها “هذه فكرة ضارة بالبشرية. نحن بحاجة إلى حظرها، كما فعلنا مع الأسلحة البيولوجية والكيميائية”، على حد قوله. وفي بداية عام 2022، أطلق بيرمان نداءًا دوليًا من أجل حظر هندسة المناخ. وتم توقيع رسالته المفتوحة من قبل أكثر من 60 خبيرًا من حوالي عشرين دولة مختلفة.
أما يانوش باسزتور، المدير التنفيذي لمُبادرة كارنيغي لإدارة المناخ فلا يريد فرض حظر من هذا القبيل، ويصر على أنه يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كان الكوكب الذي نفذ تقنيات تعديل الإشعاع الشمسي سيكون أكثر خطورة من كوكب أسخن بمقدار 1.5 أو 2 درجة مئوية مما كان عليه من قبل، ويخلص إلى القول: “ستبلغ حفيدتي سن الرشد عندما تسوء الأمور حقًا. لا أريدها أن تنظر إلى الوراء وتقول “لماذا لم تجرب شيئًا على الأقل؟”.
مصدر المقال : اضغط هنا