التلوّث البيئي يشجع الدماغ البشري على العنف والقتل
تخيّل أن تبدأ عناصر قوى الأمن الداخلي ووحدات مكافحة الجريمة في مراقبة مستويات التلوث في بيروت وجبل لبنان وجونيه، وتكثّف إنتشار قواتها في المناطق التي وصل فيها تلوّث الهواء إلى أعلى مستوياته (وما أكثرها)، قد يبدو هذا المشهد وكأنه مقتبس من أحد أفلام الخيال العلمي، لكن هذا الاجراء قد يصبح جديراً بالتطبيق مستقبلا، نظراً للعلاقة التي توصل إليها علماء في أكثر من بلد في العالم ومفادها أن “تلوّث الهواء قد يجعلنا أكثر ميلاً إلى ارتكاب الجرائم وأعمال العنف وصولاً الى القتل”.
في الوقت الذي باتت فيه آثار تلوث الهواء القاتلة على الصحة معروفة جيدًا، يبدو أن التلوث ببعض الجزيئات المحمولة بالهواء والغاز يمكن أن تؤثر على الاداء السليم للدماغ، ما يجعل الناس أكثر عرضة للتصرف بعنف، هذه العلاقة المستجدة بين التلوث والسلوك السلبي للإنسان – وبطرق لم تدركها الأبحاث العلمية إلا في السنتين الاخيرتين- تحمل في طياتها الكثير من المخاطر على المجتمعات.
تلوّث الهواء هو قاتل خفي يتربص بنا، يفترس الصغار والكبار، لكنه في حال لم يفترس الإنسان، فإنه وبجزيئاته الخطيرة يساهم في جعله قاتلاً، مشكلاً بذلك سبباً جديداً لارتفاع نسبة الجرائم في العالم، بعيداً من الدوافع التقليدية الاجتماعية التي كانت تنسب إليها الجرائم من قبل.
هذا الواقع أثار خشية العلماء من تحول بعض الناس إلى مجرمين ومرتكبي أعمال عنف، ومن المرجح أن تؤدي الدراسة، التي نشرت حديثاً في النسخة الإلكترونية لمجلة Epidemiology، وفي صحيفة ديلي ميل البريطانية في 26 من آب الماضي إلى دعوات لاتخاذ إجراءات صارمة تتعلق بتنقية الهواء، بعد أن ثبت أن التلوث يمكن أن يؤثر على السلوك، وليس فقط على الصحة البدنية.
ووفقا للدراسة فقد وجد العلماء، عقب إجراء دراسة ضخمة إمتدت 13 عاماً وتضمنت بيانات 86 مليون شخص في 301 مقاطعة في كل أنحاء الولايات المتحدة، شملت المناطق الحضرية والريفية أنه كلما كان الهواء أكثر تلوثاً، يتم ارتكاب جريمة أشد عنفاً.
وكتب فريق البحث من كلية الصحة العامة في جامعة مينيسوتا وجامعة ولاية كولورادو: “وجدنا أن جرائم العنف تزداد بنسبة 1.17% لكل 10 ميكروغرامات في المتر المكعب زيادة في الجسيمات الدقيقة اليومية، و0.59% لكل زيادة قدرها 10 أجزاء لكل مليار، في الأوزون اليومي”.
سلوك إجرامي وغير أخلاقي
وارتفعت جرائم العنف عندما كان الهواء أكثر تلوثًا في المناطق الفقيرة والغنية، وأشار العلماء إلى أن الدراسات السابقة التي أجريت على الفئران والكلاب وجدت أن الحيوانات المعرضة لمستويات عالية من الجسيمات الدقيقة الموجودة في أبخرة الديزل، تظهر “زيادة في العدوانية والتحيز”، كما قد يؤدي تعرض الإنسان لتلوث الهواء إلى “زيادة القلق، الأمر الذي قد يؤدي إلى سلوك إجرامي وغير أخلاقي”.
ومما لا شك فيه أن هذه النتائج تدق ناقوس الخطر، إذ لا تزال مستويات تلوث الهواء مرتفعة بشكل خطير في أجزاء كثيرة من العالم. وتُظهِر بيانات منظمة الصحة العالمية التي أعلنت عنها في 2 أيار 2018 أن تسعة من أصل عشرة أشخاص يتنفسون هواءً يحتوي على مستويات عالية من الملوثات، وعن خسائر بالأرواح تبلغ 7 ملايين شخص سنوياً بسبب تلوث الهواء الخارجي (الخارجي) وتلوث الهواء المنزلي.
أما محلياً فليس خافياً على الخبراء البيئيين تلوث هواء بيروت وجبل لبنان وجونية والمناطق المحيطة بها بنسب عالية من الاوزون ( 03) وثاني أوكسيد النيتروجين (NO2)، والجسيمات الدقيقة (PM2.5) و(PM10) والمكونات العضوية المتطايرة COV ، وثاني أوكسيد الكبريت (SO2 )، وبعضها وصل الى حد خطير نتيجة التلوث الصادر عن قطاع النقل بالدرجة الأولى، ومحطات توليد الطاقة، ومولدات الكهرباء الخاصة المنتشرة بين الأحياء، وانبعاثات المصانع وحرق النفايات.
ويظهر تلوث هواء العاصمة من الجبال على ارتفاع نحو 400 متر، وهو ما تمثله الغيمة السوداء في سماء بيروت، والتي بإمكان سكان منطقة عاليه وعاريا وميحطهما رؤيتها بشكل واضح.
250 يوماً ملوثاً سنوياً في بيروت
وتفيد نتائج بحوث علمية صادرة عن الجامعة اليسوعية في بيروت في تموز 2019 أن 96 في المئة من سكان بيروت وضواحيها معرضون لحوالى 250 يوماً من التلوث سنوياً، ويستنشقون حوالى 40 ميكروغراماً من الغازات الملوثة في المتر المكعب الواحد من الهواء على مدار السنة، ويقول ماهر عبود رئيس قسم البيئة في الجامعة: “بيروت معرضة لملوثات كثاني أوكسيد النيتروجين الذي يتخطى النسب المسموح بها من منظمة الصحة العالمية والأخطر ما في الملوثات هو الغبار المتطاير والذي يتخطى بحسب دراساتنا هذه النسب بـ 150 إلى 300 في المئة”.
وتشترك بيروت مع مدن عربية كثيرة في غياب التخطيط للحد من تلوث الهواء وتنفرد بغياب اوتوبيسات النقل العام وميترو الانفاق ويدخلها نحو نصف مليون سيارة يومياً تزيد من تلوثها .
وبالعودة إلى الدراسة ترى الخبيرة المحلفة لدى المحاكم في الادلة الجنائية والطب الشرعي جيهان الخطيب، أن الدراسة أثبتت وجود رابط وثيق بين عامل تلوث الهواء بـ 3 جزيئات وهي المنغنيز والزئبق والاوزون، وبين تأثيرها على مسار عصبي في الدماغ بغض النظر عن مكان هذا الهواء الملوث، وعما إذا كانت هذه الدولة فقيرة أو غنية، حتى أن لبنان تحول الى “بيئة خصبة” لهذه الانواع من الجزيئات التي وردت في الدراسة .
وتضيف أنه وبحكم أن لبنان من الدول التي تعاني من التلوث في الهواء بنسب عالية، وبما ان المنغنيز ينبعث من مياه الصرف الصحي وما شابه، والزئبق من دخان المصانع وانواع ملوثات متأتية من عوادم السيارات، تجد أن سلوك المواطن اللبناني يتأثر بهذه العوامل الدافعة الى ارتكاب الجرائم وحالات القتل، من دون أن نتمكن من تحديد نسبة هذا التأثير لأنها تحتاج لدراسات علمية ربما تمتد لسنوات.
تلوث الهواء ” يزيد الطين بلّة”
تناشد الخطيب جميع المعنيين للحد من تلوث الهواء في لبنان “لأن تأثير الملوثات الثلاثة المذكورة سيكون على معدلات الجرائم وتحديدا جرائم العنف وهي الاغتصاب والاغتصاب الجنسي والقتل مع احتمال تأثيرها على ظواهر أخرى”.
فالتلوث الهوائي يسبب في الحد الادنى مشاكل في القلب والعديد من الامراض المزمنة وابرزها السرطان، فيما النفايات المنتشرة في الشوارع وعملية حرقها او طمرها او تركها في المكبات تزيد من تلوث الهواء، أما الاوزون فأصبح مؤذياً ومصادره كثيرة في المدن الكبرى، وفق الخطيب .
وتؤكد أن هذه الدراسة مهمة باعتبارها نجحت في إثبات علاقة بين تلوث الهواء بين جرائم العنف وحالات القتل عن طريق مسار عصبي معين ينعكس سلبا على سلوك المواطن ويجعله أكثر عنفا وعداوة، ما يزيد من معدل الجرائم والقتل .
وفي السياق نفسه تشدد على ان النزعة الجرمية عامل يولد مع الانسان، لافتة الى أن ثمة عوامل تساهم في ارتفاعها واخرى تساهم في تخفيضها، تكشف أن التلوث يسبب القلق والتعصيب والتوتر وهذا بات دليلاً مثبتاً علمياً، وينعكس ذلك على سلوكه، مطالبة بمعالجة تلوث الهواء لمخاطره الصحية أولاً ومن ثم لمخاطره النفسية، لأن المواطن اللبناني يتعرض للكثير من العوامل التي تدمر نفسيته تتعلق بنوعية الحياة التي يتمتع بها، مقارنة مع نوعية الحياة في البلدان الاوروبية او في الولايات المتحدة (من حيث جودة أنماط الحياة) قبل أن يأتي عامل تلوث الهواء ليزيد “الطين بلة “.
وتناشد الخطيب وزارة البيئة للقيام بعملها في مكافحة مظاهر التلوث على اكمل وجه، بالإضافة الى وضع خطة لأزمة السير تقوم على تفعيل النقل المشترك، علّ ذلك يخفف من سيارات التاكسي كأحد مصادر التلوث.
تفعيل مراقبة نوعية الهواء
بدوره يوضح أستاذ الأوبئة والصحة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت البروفسور سليم أديب أن هناك مجموعة من الأدلة تربط تلوث الهواء بانخفاض القدرات المعرفية وارتفاع مستوى السلوكيات العنيفة ومنها الجرائم، في العديد من الدول الصناعية.
أما في لبنان فتلحظ المؤشرات المتوفرة، إرتفاع تلوث الهواء المستمر على طول الساحل اللبناني والتلال المطلة عليه، متسائلاً عما إذا كانت هذه التغيرات السلبية في نوعية الهواء تؤثر في الصحة النفسية والعقلية للمواطنين، على غرار تأثيراتها على الصحة الجسدية.
وللتأكد من هذا الطرح يتحدث أديب عن العديد من الخطوات الواجب اتخاذها فمثلاً على وزارة البيئة تفعيل محطات مراقبة نوعية الهواء بشكل مستمر ووضع خريطة تبين إختلاف مستوى التلوث بين المناطق، كما يتوجب على قوى الأمن الداخلي نشر إحصاءات دقيقة ومستمرة حول الجرائم وحالات القتل وحوادث السير الجسيمة في المناطق كافة .
ويستخلص أنه عند تأمين هذين المصدرين للمعلومات يمكن بالمقارنة توضيح ما اذا كانت العلاقة قائمة أو لا بين تلوث الهواء والتأثيرات النفسية والسلوكية، مشدداً على أن “الأمر على مستوى كاف من الضرورة، ويقتضي التحرك لإيجاد الأدلة العلمية الأكيدة وبناء سياسة وقائية على ما تقتضيه المخرجات”.
ويشرح: “الاوزون مثلاً عندما ترتفع نسبته في الهواء يزيد من معدلات حوادث السير، وأن المناطق الاكثر ازدحاماً أيضا هي الاكثر فقراً وتعاني من اوضاع اقتصادية حرجة في الولايات المتحدة” فيما لا توجد دراسات تفيد بأن المناطق الأكثر تلوثاً هي الأكثر فقراً في لبنان.
ويشير إلى أن رغم وجود مناطق في العاصمة وجبل لبنان تعد من الاكثر تلوثاً، فإنه يوجد فيهما أيضا مناطق تعتبر الأقل تلوثاً، وبمعنى آخر فإن الكثير من المناطق يتراوح التلوث فيها بين هذين الحدين.تلف في الفص الجبهي الامامي
وفي السياق عينه أثبتت دراسات أن التعرض لبعض الملوثات قد يسبب التهاباً في الدماغ ويتلف الخلايا العصبية، وركزت ديانا يونان، من جامعة جنوب كاليفورنيا، في دراسة أخرى أجراها فريق بحثي بقيادة “جاكسون لو” من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في العام 2018 على أن “هذه الملوثات قد تتلف الفص الجبهي الأمامي، وهذه المنطقة من الدماغ هي المسؤولة عن التحكم في دوافعنا وسلوكياتنا وقدرتنا على اتخاذ القرار وضبط النفس. ويرى لو: “كلنا يعرف أن القلق قد يدفعنا إلى ضرب شخص ما من باب الدفاع عن النفس. ولأن التلوث يرفع مستويات التوتر والقلق، فقد يزيد من احتمالات انتهاج السلوكيات العنيفة”.
ختاماً إذا كانت مستويات التلوث المعتدلة في الهواء، التي تصنفها وكالة حماية البيئة الأميركية بأنها معقولة، أدت إلى زيادة معدلات الجرائم، فماذا يُتوقع في بلد يصنف بين الدول الأكثر تلوثاً في العالم