في ظل عالم تجتاحه العولمة الاقتصادية حيث الحرية وتدفق رأس المال، أصبحت السيادة الجغرافية للدولة غير ضرورية وغير مرتبطة بالازدهار الاقتصادي، وان هذه المتغيرات الاقتصادية المصاحبة لنظام العولمة لها انعكاساتها على الدولة وأسسها وعناصرها التقليدية التي عرفت بها وابرزها عنصر السيادة. فالسيادة للدولة هي كالحرية للفرد وبما أن الدولة هي صاحبة السيادة بمفهومها التقليدي فان المتغيرات الاقتصادية التي تعصف بالعالم حولت هذه السيادة المطلقة الى سيادة ناقصة محدودة، بالنظر الى أن السيادة المطلقة تحد من تشجيع الدولة على أداء دورها في النظام العالمي، الامر الذي لا ينطبق اطلاقاً على الوضع الفلسطيني.
يقف الاحتلال الاسرائيلي عائقا رئيسياً امام تجسيد السيادة الفلسطينية بما فيها السيادة الاقتصادية، والتي كُبّلت بقيود اتفاق باريس الاقتصادي الذي يعتبر الإطـار الناظم للسياسـات التجاريـة والضريبية، ويشمل هذا الاتفاق في نصوصه كلا مـن الضفـة الغربيـة وقطـاع غـزة، خلال فترة انتقاليـة كان مـن المفترض أن تكـون مدتهـا 5 ســنوات فقــط تنتهي عام 1999. اصبح البروتوكول الاقتصادي الاطار الرئيسي لادارة الســلطة الوطنيــة الفلســطينية للاقتصاد الوطنـي، ولم ينظم العلاقات التجاريـة الخارجيـة فحسـب، بـل، تضمن أيضاً العلاقات الاقتصادية والمالية والنقديـة والتجاريـة مـع اسرائيل، وكذلـك سياسـات الاستيراد والبنـوك والتأمين والمياه والطاقـة … وغيرها.
تشير الدراســات التي اصدرها معهد ابحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) لعامي 2019، 2022 التـي تناولـت بروتوكـول باريـس الاقتصادي الى أن الاتحاد الجمركي المتبع هـو أحـادي الجانـب، ويطبـق وفقـاً لمصالح سلطات الاحتلال المتحكمة بالمعابر والحـدود والسياسـات التجاريـة، الامر الــذي أدى الى تحجيم ٍّ حــاد للاقتصاد الفلســطيني خلال الســنوات مــا بعــد العــام 2000 وحتــى يومنــا، وهــذا التراجع تمثل في تــآكل القاعــدة الانتاجية الفلســطينية، وتشوهات اقتصاديــة متداخلــة ومتعــددة، وتزايــد معدلات البطالـة، وعـدم الاستدامة المالية، والاعتماد عـى المانحين في تمويل جـزء كبير مـن عجـز الموازنة الفلسـطينية المزمن.
وبما ان عقود الامتياز جزء لا يتجزأ من النشاط الاقتصادي الفلسطيني فكان لهذا التراجع انعكاسات سلبية على التزامات السلطة الوطنية الفلسطينية، كسلطة مانحة للامتياز للقطاع الخاص سواء كان مواطناً او اجنبياً، بموجب عقد لانشاء وادارة وتشغيل مرفق عام مقابل رسوم من المنتفعين وعدم قدرتها على فرض سيادتها على مواردها الطبيعية التي تعتبر الركن الرئيس الذي يقوم عليه عقد الامتياز.
من الناحية القانونية فإن الدولة صاحبة السيادة ينبغي لها أن تحقق أربعة شروط حسب معاهدة مونتيفيديو لسنة 1933: أولاً، يجب أن تمتلك الدولة أساساً (قاعدة مكانية) لها حدود جغرافية مُعرَّفة؛ ثانياً، وجود شعب مستقر على هذه البقعة الإقليمية-الجغرافية؛ ثالثاً، هذا الشعب يجب أن يظهر الولاء لحكومته؛ ورابعاً، ينبغي أن تتمتع الدولة بالاعتراف الدبلوماسي من الدول الأخر. إلا أن هذه المعايير القانونية ليست مُطلقة، بل إنها تواجه العديد من التحديات السياسية والواقعية فعلى الرغم من الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، إلا أنها لا تتمتع بالسيطرة على مكان وجغرافيا مُحددتين بسبب سياسات اسرائيل. الامر الذي أدى الى تقويض قدرة السلطة الفلسطينية على ايجاد بيئة مواتية لعقد الامتياز.
ابرمت السلطة الوطنية الفلسطينية العديد من عقود الامتياز وفي قطاعات عدة ابرزها الكهرباء والمياه والاتصالات والمدن الصناعية والمناطق الصناعية الحرة، فعلى سبيل المثال، تم توقيع عقد إمتياز منطقة جنين الصناعية الحرة مع شركة الشمال الدولية كمطور لهذه المنطقة بتاريخ 15/7/2000، وقامت بتخصيص مساحة 933.272 دونم من اراضي محافظة جنين، بموجب قرار مجلس الوزراء الفلسطيني (السلطة مانحة الامتياز)، الا انه لم يتم تنفيذ اي التزام من الالتزامات المترتبة على الطرفين بموجب عقد الامتياز لمدة 9 سنوات، وكان السبب الرئيسي في ذلك من بين امور اخرى، اندلاع انتفاضة الاقصى عام 2000، مما اوجد عائقاً مالياً امام السلطة المانحة من تنفيذ التزاماتها لتعويض مالكي الارض وتوفير حيازة فورية للارض للشركة المطورة لتباشر عملها بسبب الوضع الامني انذاك، مما دفع الشركة لرفع دعوى حقوقية رقم 518/2011 تطالب السلطة بالتعويض بقيمة خمسمائة وثمانية وخمسون (558) مليون دولار امريكي، وتم حل النزاع بشكل ودي بعد ذلك.
الخلاصة، أن اسرائيل كرّست تبعية الاقتصادي الفلسطيني لها، كدولة احتلال، حيـث جعلـت الاقتصاد الفلسطيني بجميـع قطاعاتـه رهينـة لسياساتها الرامية أصلا الى تكريس الوضـع القائم الـذي يمنع إقامـة دولـه فلسـطينية مسـتقلة ذات سيادة واقتصـاد وطنـي مسـتدام. رغـم أن سياسـات وممارسات واستغلال اسرائيل للمـوارد الطبيعيـة الفلسـطينية لصالـح مشروعها الاستعماري يعتبر منافي للقانـون الدولي والانساني، الا أنها ترمـي بالقانـون عـرض الحائـط. متجاهلة المجتمع الدولي ليقينها القاطع انه غير قـادر على ايقاف سياساتها، لذلك لا يمكن ان يحدث اي تحول ايجابي نحو تحقيق معدلات نمو للاقتصاد الفلسطيني، ولن يتناقص اعتماد الفلسطينيين على معونات الدول المانحة، الا بعد تجسيد السيادة الفلسطينية الكاملة بما فيها إعادة صياغة نصوص اتفاقية باريس الاقتصادية.