مع تَقَدُّمِ القوّات الإسرائيلية في عُمقِ غزة ردًّا على هجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، استمرَّ تأثيرُ الحرب في الاتساع. في الدول الأوروبية، تصاعدَ الاستقطابُ الداخلي حول ما إذا كان ينبغي الضغط على إسرائيل للتوصّلِ إلى وَقفٍ لإطلاقِ النار أم لا، بسبب العددِ المُرَوِّع للقتلى المدنيين في غزة. لكن ذلك أدّى إلى مُناقشةِ الصراعِ باعتباره أزمة سياسة خارجية لا علاقة لها بشكلٍ مُباشر بالأعمال الداخلية للاتحاد الأوروبي. مع ذلك، مع استمرار تصاعد حدة الحرب بطُرُقٍ تؤثّرُ في كلِّ دولة في شرق البحر الأبيض المتوسط، فإنَّ الجهودَ التي تبذلها بروكسل لإبقاءِ الرُعبِ الذي يجتاح غزة وإسرائيل حاليًا على مسافةٍ بعيدة من الاتحاد الأوروبي من غير المرجح أن يبقى كذلك لفترةٍ طويلة.
تَمَيَّزت استراتيجية بروكسل تجاه شرق البحر الأبيض المتوسط دائمًا بالإرتباكِ والتردّدِ بالنسبة إلى كيفية التعامل وتنظيم علاقاتها مع دول المنطقة. ورُغمَ تعليق ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي فعليًا، وحتى لو ظلّت مفاوضات الانضمام جارية رسميًا، فإنَّ أنقرة لا تزال تتمتّع بقدرٍ كبير من القدرة على الوصول إلى السوق المُوَحَّدة الأوروبية من خلال الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وكذلك تفعل إسرائيل أيضًا من خلال اتفاقية الشراكة والتجارة الحرة. وعلى النقيض من ذلك، ظلَّ نهجُ الاتحاد الأوروبي تجاه مصر ولبنان والسلطة الفلسطينية يقتصرُ إلى حدٍّ كبير على مساعدات التنمية والاستثمار الاقتصادي اللذين يتجنّبا أيَّ تخفيضٍ للتأشيرات والحواجز الأمنية.
هذا المَيلُ إلى التعاملِ مع دول شرق البحر الأبيض المتوسط كمُحيطٍ جيوسياسي يَعكُسُ إرثَ المُنافساتِ الإستعمارية في القرن التاسع عشر وانهيار الإمبراطوريات في أعقاب الحرب العالمية الأولى، الذي أدّى إلى ظهورِ دولٍ فقيرة تتقاتل على حدودٍ مُتنازَعٍ عليها. ومنذ ذلك الحين، ظلّت التوتّراتُ حادةً بين اليونان وتركيا بشأنِ السيطرة على جُزرٍ في بحر إيجه وغيرها من إرثِ الحروب التي خاضها البَلَدان في أوائل عشرينيات القرن الفائت. وكانت قبرص مَصدَرًا آخر للمواجهة، على الرُغم من أنَّ العضوية المُتبادَلة بين أثينا وأنقرة في حلف شمال الأطلسي شَكّلت حاجزًا مانعًا لتصعيدٍ أوسع نطاقًا.
إنَّ ما حَوَّلَ وضع شرق البحر الأبيض المتوسط، من مُحيطٍ خارجي بعيدٍ إلى حدٍّ ما إلى مَصدَرِ قلقٍ أساسي للمؤسّسات الأوروبية، كان انضمامُ اليونان إلى الاتحاد الأوروبي في العام 1981 بعد انتقال البلاد إلى الديموقراطية. وعلى الرُغم من الضعف الاقتصادي الذي عانت منه أثينا في البداية، فإنَّ وجودَ القادة اليونانيين في قَلبِ عمليةِ صُنعِ القرارِ في بروكسل ضَمَنَ أنَّ المُطالبات البحرية اليونانية في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط ستُحدِّدُ استراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة.
علاوةً على ذلك، كان الدعمُ القوي الذي قدّمه اليونان أيضًا سببًا في ضمان إنضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2004، على الرُغم من أنَّ الجزيرة لا تزال مُقَسَّمة بين جمهورية قبرص في الجنوب وجمهورية شمال قبرص التركية المدعومة من أنقرة. إن وجودَ كلٍّ من اليونان وقبرص داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي يعني أن بروكسل لا يُمكِنُ أن تكونَ جهةً فاعلةً مُحايدةً في المنطقة. ومن خلال الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة بين البلدين، صارت حدود الاتحاد الأوروبي أيضًا مُتاخِمة مباشرةً لحدود مصر وإسرائيل ولبنان وسوريا.
هذا القُربُ بين الاتحاد الأوروبي وخطوطِ الصَدَعِ الجيوسياسية في الشرق الأوسط أجبرَ قبرص بالفعل على طَلَبِ المساعدة من الوكالة الأوروبية للحدود وخفر السواحل المعروفة باسم “فرونتِكس” في العام 2019 لإدارةِ تدفّقِ اللاجئين الذين يصلون بالمئات على مَتنِ قوارب تُبحِرُ من الموانئ اللبنانية. وتعكس هذه الطلبات عملياتٍ مُماثلة تقودها وكالة “فرونتكس” للتعامل مع اللاجئين والمهاجرين العابرين من الشواطئ التركية إلى الجزر اليونانية على طول بحر إيجه. وفي الأسابيع الثلاثة الماضية، كانت هاتان العمليتان التابعتان ل”فرونتكس” تستعدّان لتوسيع قدراتهما في حال أدّى المَزيدُ من التصعيدِ في غزة إلى تدفّقاتٍ أكبر للاجئين على نطاقٍ مُماثِلٍ لتلك التدفقات التي حدثت سابقًا مع اللاجئين السوريين في العام 2015.
إلى جانبِ هذا القلق بشأن هجرة اللاجئين، هناكَ أيضًا مخاوف من احتمال اتساع نطاق الصراع، الذي قد يجذب “حزب الله” في جنوب لبنان أكثر أو إعادة إشتعال التمرّد من جديد في سيناء، بطُرُقٍ قد تؤثّرُ في التجارة ومصائد الأسماك في جميع أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط. إن السيناريو الذي تتورّط فيه إسرائيل في حروبٍ مع “حزب الله” و”حماس” ينطوي على عملياتٍ بحرية، بينما يواجه الجيش المصري المتمرّدين في سيناء، سوف يؤدّي أيضًا إلى تفاقم المخاوف في نيقوسيا وأثينا بشأنِ التأخير إلى أجل غير مُسمَّى في البنية التحتية الإقليمية ومشاريع استخراج الغاز التي كانت تأمل كلٌّ منهما من أن تُعطي اقتصاداتهما الهشّة دفعةً قوية.
إنَّ احتمالَ حدوثِ أضرارٍ اقتصادية عميقة قد تأكّدَ من خلال الاستيلاء على سُفُنِ شحنٍ غربية في البحر الأحمر من قبل المقاتلين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن والمُتحالفين مع “حزب الله” و”حماس”. ومع تحوّلِ سفن الشحن الأخرى بعيدًا من الطرق التي تمرّ عبر قناة السويس وبدء أسعار التأمين على الشحن في المنطقة في الارتفاع، فإنَّ زعزعةَ الاستقرار هذه يمكن أن تكون لها آثارٌ وخيمة على قطاعاتِ الأعمال الرئيسة في اليونان وقبرص. إذا أصبحت دولتان عُضوَتان في الاتحاد الأوروبي مُعَرَّضَتَين بشكلٍ مباشر لجولةٍ أُخرى من الصراع حول شرق البحر الأبيض المتوسط، فمن غير المرجح أن تستمرَّ بروكسل في التصرّفِ كمُراقبٍ عن بعد، وستتحوّل إلى جهة فاعلة إقليمية تتأثر بشكل مباشر كما هي الحال في الواقع.
إنَّ المدى الذي وصل إليه الاتحاد الأوروبي، من خلال اليونان وقبرص، باعتباره جهة فاعلة إقليمية مُعَرَّضة لتداعيات الصراع والأزمات عبر شرق البحر الأبيض المتوسط، جعلَ إعادة تقييم كاملة لنهجه الاستراتيجي غير المُتماسِك في التعامل مع المنطقة أمرًا مُهمًّا ومُلِحًّا. وبدلًا من محاولة التعامل مع كلِّ دولةٍ إقليمية ومَصدَرٍ للتوتر بشكلٍ منفصل، مع الاعتماد على استعداد الولايات المتحدة للعَمَلِ كحَكَمٍ ديبلوماسي وضامنٍ أمني، ستحتاج بروكسل إلى تطويرِ إطارٍ أكثر شمولًا لتأمين الاستقرار الإقليمي.
إنَّ بَثَّ الحياة في ما يُسمى باستراتيجيةِ الجوار الجنوبي للاتحاد الأوروبي مع التركيز على البُنيةِ التحتية الإقليمية ومشاريع التنمية الاقتصادية الأكثر شمولًا وتكاملًا يُمكِنُ أن يُوَفِّرَ حوافزَ إيجابية للحكومات والجهات الفاعلة غير الحكومية في إسرائيل والأراضي الفلسطينية ولبنان ومصر للحصول على نتائج من طريق التفاوض. ولكي يكون هذا الجهدُ الاستراتيجي المُتَجَدّدُ مُستدامًا، فإنه يحتاج أيضًا إلى إيجاد سُبُلٍ لتحسين التعاون بين اليونان وتركيا وقبرص وشمال قبرص. وبدلًا من النظر إلى هذه الصراعات على أنها مُنفَصِلة عن بعضها البعض، تحتاج بروكسل، بالشراكة مع أثينا، إلى النظر في كَيفَ أنَّ استراتيجيةَ تخفيفِ التصعيد تجاه صراعٍ جيوسياسي واحد تتطلّبُ أيضًا معالجة الصراعات الأخرى في المنطقة نفسها.
وستتطلّبُ مثل هذه الخطة الإقليمية المتكاملة أيضًا أن تكون دول الاتحاد الأوروبي البعيدة على استعدادٍ لفَتحِ الوصول إلى السوق الموحدة للدول العربية المُطِلّة على شرق البحر الأبيض المتوسط. وتتعامل بروكسل حاليًا مع هذه الدول من خلال “أدوات تنمية الجوار والتعاون الدولي” التي تُركّزُ على المساعدات، من دون الحدِّ أو التخفيض بشكلٍ كبير من القيود التجارية والسفر. وبدلًا من ذلك، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يستخدمَ أشكالًا من الشروط كالوعد بالإزالة التدريجية لبعض الحواجز ما دامت هذه الدول تُلاحِقُ مسارًا من التهدئة الإقليمية، والتفاوض، وإرساء الديموقراطية الشاملة لمواطنيها، بغضِّ النظر عن خلفيتهم العِرقية والدينية.
مع قيام المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حاليًا بتدميرِ أجزاءٍ كبيرة من غزة بوحشيةٍ لافتة انتقامًا لهجوم “حماس” في جنوب إسرائيل، فإنَّ خطة التكامل والتنمية الجُزئية هذه من جانب الاتحاد الأوروبي قد تبدو في غير محلّها الآن. لكن حتى لو كان تنفيذها قد يستغرق سنوات أو عقودًا، فليس من السابق لأوانه تقديم إطارٍ واضحٍ لخفض التصعيد والتفاوض الذي يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية الاعتماد عليه بمجرد أن تصبح حالة الحرب الدائمة غير قابلة للتطبيق في نظر النُخَب والجمهور الأوسع.
مع تطور الاتحاد الأوروبي إلى شيء أشبه بدولة، فإنَّ المناطق الواقعة فيه على طول البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت مُتشابِكة مع بعضها البعض لآلاف السنين، تجد نفسها الآن مُنقَسِمة بين تلك المجتمعات القادرة على تشكيل النظام الأوروبي من الداخل وتلك الموجودة خارج الحدود المُتَشَدِّدة للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، مع شعورِ كلِّ دولةٍ أوروبية على طولِ شرق البحر الأبيض المتوسط بتأثيرِ الحرب وهجرة اللاجئين مرة أخرى، لم يعد من المُمكِن تَجَنُّبَ حقيقة مفادها أن المُجتمعات على جانبي هذا الخط مرتبطة بشكلٍ عميق بعضها بالبعض الآخر. ومهما كان القدر الذي قد تُفضّله بروكسل للاختباء وراء الجهود الأميركية لإدارة التصعيد، يجب على صنّاعِ السياسة في الاتحاد الأوروبي أن يُدرِكوا أنَّ الحروبَ التي يعتقدون أنها بعيدة “هناك” تؤثر دائمًا بشكلٍ عميق في “هنا” أيضًا.