العلاقة التي تجمع الولايات المتحدة باسرائيل هي علاقة استثنائية لم تشهد مثلها دولتان عبر التاريخ، ويصعب تفسيرها من عدسة نظريات العلاقات الدولية. وعادة ما يتم نقاش السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الاوسط وخاصة تجاه الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني من منظور اللوبي الاسرائيلي القوي والمؤثر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وقدرته على ثنيها نحو المصالح الاسرائيلية. في هذا السياق، يعزو معظم المراقبين فخر إسرائيل بمكانتها في الولايات المتحدة إلى تأثير النشاط السياسي لهذا التحالف الفضفاض ومساهماته من بين امور اخرى، في الحملات الانتخابية والجهود الفعالة بشكل غير عادي لاسطورة جماعات الضغط في واشنطن، وعلى وجه التحديد لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC).
لعقود من الزمن احتكرت ايباك AIPAC سوق الضغط السياسي في واشنطن ولعبت دورًا حيويًا في التأثير على توجهات صانع القرار عبر عدة استراتيجيات أهمها: (1) التاثير في الحملات الانتخابية عبر سيل المال السياسي لمرشحي الكونجرس والرئاسة الامريكية (2) السيطرة على اهم وسائل الاعلام التقليدية والرقمية المؤثرة بهدف تشكيل رأي عام داعم لاسرائيل (3) مراقبة الحرم الجامعي ومنع أي نشاطات مناصرة للقضية الفلسطينية مستخدمة سلاح معاداة السامية (4) قيادة مراكز الفكر و/ او السيطرة عليها عبر تمويلها لتوجيه السياسة الامريكية لصالح اسرائيل (5) توظيف خزان اصوات من الجالية اليهودية-الامريكية التي تشارك في جميع الانتخابات الامريكية مع كلا الحزبين بمستويات قياسية تصل احيانا الى 95%. مع اكثر من مليون عضو ومتطوع، نجحت ايباك في تطوير علامة تجارية فارقة بين جماعات الضغط والمصالح، واتصالات استثنائية مع اعضاء الكونجرس وصناع القرار الامريكيين، وقدرة تأثير هائلة عبر ممرات الكابيتول هيل.
منذ احداث 7 اكتوبر، حشدت ايباك AIPAC قاعدتها الجماهيرية والاعلامية للدفاع عن اسرائيل والترويج لروايتها، بالتزامن مع حشد التمويل السخي من الاثرياء والمتبرعين، وبدأت فعاليات الضغط على اعضاء الكونجرس لاصدار التشريعات المؤيدة “لحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها” والدفع نحو تسريع إمدادات النقل اللوجستي وشحنات عسكرية ضخمه عبر اسطول جوي فاق الــ 100 عملية تزويد بالسلاح لتعزيز القوة النارية لجيش الاحتلال، بينما يتحدث مسؤولون بوزارة الخارجية الأمريكية عن 600 حالة نشطة لتحويل عسكري محتمل أو مبيعات تزيد قيمتها عن 23 مليار دولار بين الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، الى 6 مارس 2024. وفقا لتقرير نشرته صحيفة Wall Street Journal
وسط هذا النشاط المحموم، تعقد ايباك مؤتمرها السنوي هذا العام مُبكراً وعلى جدول اعمالها عدد من القضايا الدولية اهمها، وضع استراتيجية إدارة لعبة الانتخابات للمرشحين الداعمين لاسرائيل في الدورة الانتخاببة القادمة يوم 5 نوفمبر 2024، وحشد التمويل الطارئ لاسرائيل لاستمرار حربها على قطاع غزة. مع موازنة حرب بلغت 100 مليون دولار تم رصدها. وحضور اكثر من 1600 زعيم سياسي من الولايات المتحدة وخارجها من مؤيدي اسرائيل، من بينهم كبار قادة الكونجرس الأربعة، رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون، وزعيم مجلس الشيوخ الديموقراطي تشاك شومر، وزعيم الأقلية في مجلس النواب الديموقراطي حكيم جيفيرس وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش ماكونيل.
يمثل هذا الحضور لالوان الطيف السياسي الامريكي (الاحمر والازرق) في مؤتمر ايباك رسالة ضغط قوية موجهة للرئيس بايدن للتاكيد عن مدى التزام قادة الحزبين الكبيرين بدعم اسرائيل والحفاظ على تفوقها النوعي، على قاعدة “اذا اردت ان تكون صديقا لاسرائيل فما عليك الا تنفيذ كل ما يطلب منك دون نقاش”. بالنظر الى تصاعد حدة التصريحات “نظرياً” وظهور خطوط حمراء مائلة امام حكومة اليمين الاسرائيلي التي يقودها نتنياهو مؤخرا، محورها الانقسام المتزايد حول طريقة إدارة حرب الابادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال بمشاركة واشنطن في قطاع غزة، واستمرار تهديد نتنياهو بغزو مدينة رفح.
يقول المتحدث بإسم ايباك مارشال ويتمان، “ستكون رسالة الضغط ذات الأولوية للجمهوريين في مجلس النواب لحث قيادتهم على تمرير مشروع قانون تمويل طارئ من الحزبين لإسرائيل دون شروط ويمكن أن يوقعه الرئيس ليصبح قانونًا”. في سياق هذا الموقف المواتي، شكر نتنياهو في خطابه المتلفز امام قادة الايباك، الادارة والشعب الامريكيين على وقوفهما الى جانب إسرائيل داعيا الى استمرار الدعم وتكثيفه دون خطوط حمراء، وكرر مزاعمه “ان هذه الحرب سوف تستمر حتى الانتصار”. مؤكدا عزمه على اجتياح مدينة رفح على الرغم من معارضة الادارة الامريكية ومعظم دول العالم لهذا الغزو الذي يهدد حياة اكثر من مليون ونصف المليون من المدنيين النازحين قسرا الى المدينة.
لم يكد ينتهي مؤتمر ايباك حتى تعالت الاصوات المؤيدة لاسرائيل، لضمان الاحتفاظ بمقاعد الكونجرس ومنعا من قلبه بفعل قوة ايباك ونفوذها القوي، فقد اعلن السناتور جون فيترمان، وهو ديمقراطي مؤيد بشدة لإسرائيل- وحضر اجتماع إيباك، إنه يعارض بشدة ضغط إدارة بايدن على إسرائيل. وكتب على موقع X «لإسرائيل الحق في الانخراط بشكل كامل مع حماس حتى نهايتها»… “حتى تستسلم حماس وتحرر الرهائن وتنهي هذه المأساة الإنسانية، فإنني لا أؤيد أية شروط على اسرائيل».
وسط النقاش الدائر بين صناع السياسة والانقسام في القاعدة الحماهيرية حول وضع اسرائيل، بين اعتبارها اصلاً استراتيجياً او عبئاً على الولايات المتحدة، يحاول الرئيس بايدن تحسين موقفه الانتخابي امام منافسه الجمهوري الرئيس السابق ترامب، عبر استرضاء شريحة واسعة من القاعدة الديموقراطية الرافضة لسياسة الدعم المفتوح لحكومة نتنياهو، في الوقت نفسه تضغط ايباك عبر ادوات الاختراق وتتعهد بالدفع بمؤيدي اسرائيل للاحتفاظ بمقاعدهم في الكونجرس وقلب المقاعد المناوئة لسياساتها، وترسل رسالة قوية عبر مؤتمرها للرئيس بايدن ولانصار الحق الفلسطيني ان الطريق نحو الكونجرس ما زال يسير عبر ممراتها، وان عملاق الضغط المؤيد لاسرائيل ما زال فعالا في تطويع السياسة الخارجية للولايات المتحدة نحو مصالح اسرائيل، على الرغم من اتساع الفجوة في المواقف وارتفاع حجم العاصفة الدائرة في واشنطن الى مستويات غير مسبوقة ضد اسرائيل.