الاحدثفلسطين

بين الحقيقة و البروباغندا ..غزة تؤسس لسرديات جديدة | بقلم د. هبة مهيدة

يبالغ البعض أحيانا في إبراز مفاتنهم ،فيكررون تمرير الفرشاة البالية التي تحمل منذ زمن نفس اللون الواحد من اجل التوكيد على ملامح معينة في صورهم ،وقد يحدث أن يدرك المُنتظِر لاكتمال المشهد صورة مغايرة تماما لما يريده حامل الفرشاة.
إن حامل الفرشاة هذا ،في إشارة إلى رواد البروباغندا الّذين  يُحكمون الإمساك بأدوات تلميع المشهد في أذهان الناس ، يتغاضون عن ما لصناعة الرأي من قواعد عصبية و نفسية أخرى تفلت من قبضة الملقي وتتحدد لدى المتلقّي وفق سياقات معينة. إن إدراك الأحداث من حولنا كما لو أنها حقائق لا تقبل المساءلة مُرتَهنٌ بعدد من الحيثيات النفسية و العصبية.
ما تزال “الحقيقة” مفهوما فلسفيا غامضا ومثيرا للاهتمام ،لا يدركها العقل البشري ،إلا في حدود أنثربومورفيته، وقد  تطعّمت الدراسات الفلسفية لمفهوم “ الحقيقة” بمخرجات علوم الأعصاب الحديثة ،التي تكشف عن ميكانيزمات معينة تخص عمليتي الإدراك والتأويل ، وتجعل من الحقيقة رهينة السياقات و الخزين المعرفي اللاواعي و عدد لا يحصى من الانحيازات الادراكية.
إنَّنا كبشر لا ندرك الحقيقة كما هي ،وإنما نسعى باستمرار إلى تكييف المثيرات الحسية وفق انطباعاتنا الوجدانية المكتسبة ، و لا نملك إلا أن نضع من “ذواتنا” كل مرة في عمليات التأويل ،ولكننا نسعى إلى التخفيف من وطأة الغموض المحيط بنا ،بإحالة ما تلقطه حواسنا من مدخلات ،إلى رصيدنا المعرفي اللاواعي ،ليتم ترجمته إلى “حقائق” و قد يحدث أن يتغير إدراكنا للحقائق عند كل تلاعب بجعبتنا المعرفية .
الحقيقة بين الانحيازات المعرفية والحروب الناعمة
سعت ترسانات الغرب من خلال الحروب الناعمة، إلى ترسيخ رصيد مسبق من أدوات التأويل في أذهان الناس لكل  (المعلومات) المتعلقة بالإسلام و العرب بداية ،ثم محور المقاومة و المذهب الشيعي لاحقا ، وبالغت في الاستعانة بالألوان القاتمة ،حتى يزداد الانطباع السلبي في النفوس حولهم، فأججت نيران الطائفية ، ورفعت هذا و اذلت ذاك ،لتمكين هيمنتها على الأذهان ،و أسرفت في وصف الكيان الغاشم بالدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ،والمدافعة عن حقوق الإنسان ،تطرفت في العدوان و هي تلح في استخدام اللون الأبيض في تقديم ربيبتها على أنها الأمثل و الأجدر بالبقاء.
وتعددت وسائلها المسخرة في ذلك ، من كتب و روايات و أفلام ، و قنوات إخبارية فضائية ،حتى تجَرَّدَ مفهوم الإعلام من دلالته اللغوية الأصلية ألا و هي نقل الخبر دون تزييف أو تحريف ، و تحول كل ما يبث إلى دعاية وصناعة للرأي .
كتب الأمريكي من أصول لبنانية جاك شاهين كتابه المعنون :العرب الأشرار:كيف تقوم هوليوود بتشويه صورة شعب reel bad Arabs:how Hollywood vilifies a people ، عرض فيه بالدراسة ،ألف فيلم وبرنامج تلفزيوني منذ مطلع القرن المنصرم ، سلط فيه الضوء على التحيزات والصور النمطية السلبية التي ترسخها هوليوود. مشيرًا إلى تصوير العرب بشكل مستمر كإرهابيين اغبياء ، أشرار، مجرمين . . .، و هذا منذ أن أدرك  الغرب أهمية التمثلات الذهنية و الانطباعات الوجدانية في تأويل الحقائق. و في وقت لاحق انعطفت الحرب الإعلامية لتُشَيطِنَ صورة محور المقاومة لأنه بات يهدد مصالح الغرب في المنطقة.
أمضى هذا الفصيل سنواته العجاف و هو يتلقى اللكمات اقتصاديا وسياسيا ،إعلاميا و سنمائيا ،و يكفي أن تزور   مواقع على النت اليوم تخبرك بما يجب أن تشاهده من أفلام سنمائية قبل اتخاذك قرار زيارة إيران ، ستجد عددا من الأفلام و الروايات و الوثائقيات تنشر صوراً مجردة عن الإنسانية خالية من أي نبض بشري لما تسميه بنظام الملالي ،فعلى سبيل المثال لا الحصر فيلم “كلا ليس من دون ابنتي “المقتبس من رواية أتوبيوغرافية بنفس العنوان ،للأمريكية بيتي محمودي و هو فلم ذاع صيته في الأوساط الغربية ،ثم لاحقا فيلم “آرغو “و الذي يسرد الرواية الامريكية المتعلقة بأزمة الرهائن الأمريكان بعد الثورة الإسلامية .
تلعب الحرب الناعمة – بشكل مؤقت- دورا محوريا في التأسيس للسرديات التي يريدها الغرب من أجل وضع معالم القوى الدولية وفرضها كصور ذهنية ثابتة ،وكذلك وضعت سرديات تاريخية  للعديد من الأحداث ،غير أن للحق نور يستضاء به، فعندما يصِرُّ أحدهم على وجهة نظر واحدة كما لو كان يمرر الفرشاه مرارا و تكرارا من أجل توكيد حدة اللون نفسه أمام اللون المغاير ،فإنه – ومن دون وعي منه – قد يسهم في إبراز وجهة النظر المغايرة !
الزمن و اشلاء الشهداء وإعادة  صياغة السرديات
كتب العقاد في مقدمة كتابه “أبو الشهداء الحسين بْنُ علي ” :” مسكينة هذه الإنسانية ! لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشهداء ،بل لعل العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة و الأنانية و نسيان المصلحة الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة “،و كأن هذه الإنسانية  تجدد موعدها  في كل دورة زمنية مع حلقة من حلقات الطغيان و الظلم من اجل تطهيرها و إظهار الحق.
 وعندما تختل الموازين و بعنف ،كما حدث و يحدث في غزة منذ قرابة العام فإنّ ذلك لا يمر  دون التأسيس لسرديات جديدة  صامدة في وجه البروباغاندا .
ففي مقابل كل التشويه الذي طال و لا يزال يطال محور المقاومة ، ومع كل بريء ترتقي روحه الى السماء ،تتضح صور الظلم  و تتحدد مواقع الظالم و المظلوم في الأذهان ، و ضريبة هذا الوضوح هو الوقت المنقضي و الانتظار.
 بات اليوم جليا – على حد تعبير احد الكتاب – أن حرفي السجاد في إشارة إلى الحاكم الإيراني يختلف تماما في نمط تفكيره عن لاعب البوكر في إشارة إلى الحاكم الأمريكي، و إن كانت ردود فعل هذا الأخير قد تأتي متسارعة فإن للتأني قول آخر فصل في اتخاذ القرارات لدى الإيراني ، خصوصا عند إدراكه جيدا بأن خسارة الجولات لا تحسم أبدا خسارة الحرب في شكلها النهائي.
 مضى على الملحمة الحسينية قرونا من الزمن و ما يزال للوقت و التأني  نفس المفعول السحري في نصرة الحق ،برسم ملامح سرديات جديدة مختلفة ،و كذلك تفعل غزة اليوم ،بشهدائها و الدمار الذي يطالها ،تحيي في القلوب سرديات مكمِّلة منتصرة للحق خارج سياقات إدراكات البشر المؤقتة.

د. هبة مهيدة، كاتبة وأكاديمية جزائرية

كاتبة و اكاديميه جزائرية متحصله على دكتوراه في الانثربولوجيا و لديها شهادات لييانس في علم النفس العيادي و علوم الاعلام و الاتصال تشغل حاليا مركز استاذ محاضر في الجامعات الجزائرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى