الاحدثفلسطين

لا حلَّ أميركيًا في غزة من دون الفلسطينيين | بقلم غابي طبراني

يبدو أنَّ دونالد ترامب قد فَقَدَ رشده خلال الأيام الأولى من إقامته الثانية في البيت الأبيض. أصدرَ مراسيم تنفيذية  “هامايونية” واقتراحاتٍ حمقاء في كلِّ اتجاه وصوب ضد دولٍ عدة قريبة وبعيدة أدّت إلى تعقيد علاقات أميركا بالعالم وهددت المصالح الأميركية في المدى القريب والمتوسط ​​والبعيد.

من بين هذه الهفوات إقتراحه الخيالي في 4 شباط (فبراير) الجاري الاستيلاء على قطاع غزة وتحويله إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” وتهجير سكانه إلى مصر والأردن، الأمر أدّى إلى رفضٍ تام لهذه الفكرة من هاتين الدولتين إضافةً إلى رفضٍ فلسطيني عام في الداخل والخارج ورفضٍ من السعودية وقطر والإمارات وجامعة الدول العربية، ما حدا بالقاهرة إلى الدعوة إلى قمة عربية استثنائية تُعقد في 27 شباط (فبراير) الجاري لاتخاذِ موقفٍ عربي موحَّد في هذا الشأن.

الواقع أنَّ الكلامَ الأوّل الذي يجب قوله عن هذا الاقتراح هو أنَّ طردَ أكثر من مليوني شخص بالقوة والسيطرة على أملاكهم أمرٌ غير أخلاقي وغير قانوني وبعيد المنال.

إنَّ الإقتراح يتجاهلُ الدوافع الأساسية للسياسة الفلسطينية. فقد أظهر سكان غزة، والفلسطينيون على نطاقٍ أوسع، لأكثر من قرنٍ أنَّ السعي إلى حياةٍ أفضل للأفراد ليس الدافع الوحيد الذي يحكم اختياراتهم. إنَّ الفلسطينيين مدفوعون بشدة بقضيتهم الوطنية، كما يتّضح من كلِّ ما ضحّوا به من أجلها بشكلٍ فردي وجماعي على مدى عقود عديدة. ومن السهل عند النظر إلى الأمر من الخارج التقليل من شأن قوة القومية في أيِّ مكان – فلسطيني أو غير ذلك. إنَّ الصمودَ على الأرض في مواجهة الشدائد هو قيمةٌ فلسطينية أساسية، خصوصًا مع بقاء ذكرى العام 1948 حيّة في أذهان الناس. إن المعارضة السياسية الفلسطينية للاقتراح الترامبي كانت وستظل عنيفة.

السماحُ لسكان غزة الراغبين في الهجرة بإرادتهم بالقيام بذلك سيكون الإجراء القانوني والأخلاقي الواجب اتخاذه، كما هو الحال في أيِّ منطقة حرب. ومن المرجح أن يكون هناك سكانٌ في غزة يرغبون في منح أسرهم فرصة لحياة أفضل في مكان آخر. وربما كان بعضهم ليغادر منذ أشهر أو سنوات، لو سمحت لهم مصر المجاورة أو إسرائيل أو أي دولة أخرى بالدخول. ولكن ليس هذا ما قدّمه أو اقترحه ترامب.

مع ذلك، فهذا الاقتراح غير عملي إلى حد كبير. من ناحية، يتطلّبُ الدعمَ النشط من جانب العديد من الدول العربية التي لن تفعل ذلك، ولا تستطيع أن تفعل ذلك. فقد وضعت الأنظمة السياسية العربية القضية الوطنية الفلسطينية فوق كل القضايا الأخرى تقريبًا لعقود باعتبارها عنصرًا مركزيًا في سياساتها وروايتها الجماعية، وغالبًا لصالح حكامها. وبالنسبة إلى الدول العربية، فإنَّ المساعدة على إبعاد الفلسطينيين من غزة ونقل قطاع غزة إلى المُلكية الأميركية “طويلة الأمد” من شأنه أن يخون فكرة القومية الفلسطينية والعربية ذاتها. ولن يكون الأمر مجرّد تنازُلٍ ديبلوماسي كبير، مثل تطبيع مصر أو دول اتفاقات أبراهام للعلاقات مع إسرائيل في العامين 1979 و2020 على التوالي. بل إنه بدلًا من ذلك يُقوِّضُ جانبًا مركزيًا من الشرعية السياسية الأساسية للحكومات العربية. وبالنسبة إلى الأردن، فإنَّ هذا من شأنه أيضًا أن يمسَّ العنصر الثالث الأكثر حساسية وديموغرافية في المجتمع الأردني المحلّي، وهو التوازن بين “سكان الضفة الشرقية” وأولئك المنحدرين من أصل فلسطيني، مع عواقب ديموغرافية وسياسية كبرى. ومن الممكن أن يفرضَ مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين الجدد ضغوطًا اقتصادية جديدة على المملكة الهاشمية ويُهدّد استقرار النظام. كما إنَّ الدعم العربي ضروري لإعادة إعمار غزة. إنَّ ترامب محقٌّ في أنَّ غزة، كما هي الآن، سوف تحتاج إلى جهودٍ هائلة وأموالٍ للتعافي. وهذا يتطلّب بالضرورة أموالًا من الشركاء الخليجيين، الذين، باستثناء المساعدات القطرية ل”حماس” والحكومة التي تقودها “حماس” قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أظهروا القليل من الاستعداد في السنوات الأخيرة لمساعدة الفلسطينيين ماليًا. بدلًا من ذلك، فإنهم يريدون الاستثمار في شيٍء ما قابل للحياة، كما كانت ممارساتهم الأخيرة. وفي حين أنَّ دول الخليج العربي أقل حساسية للقضية الفلسطينية من الأردن أو مصر، فإنها أيضًا لديها دوائر انتخابية عربية ومحلية. إن طردَ الفلسطينيين من غزة لصالح الأميركيين ليس ببساطة قضية يمكنها دعمها.

إنَّ الضغط الدولي والنفوذ الأميركي يمكنهما فعل الكثير – أكثر مما تدركه أميركا في كثير من الأحيان؛ مع ذلك، لا يمكنهما جعل البلدان تتخلّى عمّا تراه مصالحها الوطنية الأساسية.

في رؤية ترامب، يتعيّن على الجمهور الأميركي أيضًا أن يوافق على إدارة غزة. وهذا ليس شيئًا يتوقعه معظم الأميركيين. وقد لاحظ ليندسي غراهام، وهو عضو بارز في مجلس الشيوخ الجمهوري، وخصوصًا في الشؤون الخارجية، أن ناخبيه في ولاية كارولينا الجنوبية قد يكونون أقل حماسًا للقيام بذلك. وإذا شرعت أميركا في هذا الجهد، فقد تجد أن هذا الأمر يستلزم أكثر من مجرد مشروع تطوير عقاري.

ما هي عواقب إقتراح ترامب الجديد إذن؟ في الأمد القريب، يُخاطر بتنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن. ويخشى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تنفيذها، لأنَّ شركاءه في الائتلاف اليميني المتطرف يعارضون ذلك، ويتخوفون من احتمال بقاء “حماس” القوة الرئيسة في غزة عندما يتم تنفيذها. ويدعم معظم الإسرائيليين، الذين تشجّعوا بالصور المبهجة للرهائن العائدين إلى ديارهم، وهو حدث تحوّلي عاطفيًا على خلفية الأشهر الستة عشر الماضية، استمرارَ الاتفاق. ويُغيّرُ الاقتراح الأميركي الجديد المحادثة بشكلٍ كبير ويُقدّم لنتنياهو طريقًا للخروج من الاتفاق، إذا اختار أن يسلكه. إنَّ خطة ترامب قد تكون بمثابة موقفٍ افتتاحي، كما هي عادته، حيث يمكن للآخرين أن يثنوه عن ذلك ثم ينسبوا الفضل إلى أنفسهم في القيام بذلك. لقد تمّ التخلّي عن ضم إسرائيل الرسمي لأجزاء من الضفة الغربية، على الأقل لفترة من الوقت، في سياق اتفاقيات أبراهام. وربما يمكن التخلّي عن الاستيلاء الأميركي على غزة في سياقٍ مماثل، مثل بموجب اتفاقٍ سعودي-إسرائيلي. ومع ذلك، فإنَّ أيَّ موقف بداية خيالي للغاية أو غير مقبول للغاية بالنسبة إلى شريك التفاوض يمكن أن يمنع التقدم المثمر بدلًا من مساعدته. الواقع أن المملكة العربية السعودية لم تُضيّع الوقت في تكرار رفضها للاقتراح عندما طرحه ترامب لأول مرة، كما فعلت جهات عربية رئيسة أخرى أيضًا. ولو كان ترامب راغبًا في مساعدة الوضع الإنساني في غزة، لكان اقترح بدلًا من ذلك أن تُخفّف الدول العربية بعض الحاجة هناك من خلال قبول بعض اللاجئين مؤقتًا، الذين سيعودون في سياق “اليوم التالي” السياسي. إن مطالبته بالمساعدة على الاستيلاء على غزة وطرد الفلسطينيين تمنع مثل هذا التعاون.

من جهة أخرى، هناك إيران التي تراقب كل هذا أيضًا. لقد تمَّ إغفالُ جُزء من الاستراتيجية المتعلّقة بالبرنامج النووي الإيراني والنشاط الإقليمي في المؤتمر الصحافي الذي عقده ترامب ونتنياهو. قبل المؤتمر، أعاد ترامب فرض بعض استراتيجيته “للضغط الأقصى”. ومع ذلك، أشار ترامب مرارًا وتكرارًا إلى انفتاحه على التوصل إلى اتفاقٍ مع إيران. بعد وقتٍ قصير من المؤتمر الصحافي، نشر على شبكته الاجتماعية “Truth Social” أنه يفضل التوصُّل إلى اتفاقٍ مع إيران على ضربةٍ إسرائيلية-أميركية مشتركة، مُشيرًا إلى أنَّ الاتفاق سيكون سببا لـ”احتفالٍ كبير في الشرق الأوسط”. والخطر هو أنَّ الاقتراح الأميركي بتملُّكِ جُزءٍ من الشرق الأوسط سيكون في الواقع سببًا للاحتفال في إيران، حيث “الإمبريالية الأميركية” هي الفزّاعة الرئيسة لنظامٍ غير شعبي إلى حدٍّ كبير. هذا ليس النوع من الاحتفال الذي تريده أميركا.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى