قرار محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بإصدار مذكرتي اعتقال بحق مجرمي الحرب نتنياهو ووزير حربه المقال غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية خلال الفترة الممتدة من 8 اكتوبر 2023-20 مايو 2024، عن علم وقصد، صدر استنادا لقناعات راسخة لدى اعضاء فريق المحكمة ان ثمة أسبابًا منطقية تدعو إلى الاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت أشرفا على هجمات استهدفت السكان المدنيين في قطاع غزة، تستدعي اصدار مذكرات الاعتقال والجلب لقاعة المحكمة.
في الواقع -وعلى الارض، هناك اكثر من 150 الف سبب حقيقي، الى جانب اكثر من 2 مليون مُبرر، والاف المسوغات القانونية المُوثقة والموثوقة التي تظهر حركة النزوح القسري، موت المرضى والجرحى والاطفال وكبار السن جوعاً، بسبب حرمانهم من الدواء والغذاء وادنى مقومات الحياة، نتاج سياسة التطهير العرقي التي تمارسها سلطات الاحتلال، بما فيها قطع الامدادات الغذائية والدوائية وإغلاق المعابر والحدود وهدم المستشفيات ومراكز الخدمات الصحية واستهداف الاطباء والتدمير الكامل للبنية التحتية ومحطات تحلية المياه ومصادر الطاقة… هذه الجرائم الموثقة تُسند جميعها السبب الوثيق الذي من اجله اصدرت لاهاي مذكرات اعتقالها.
في هذا السياق، غمرت مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة، الفضاء السياسي وأثارت ردوداً متباينة بين مُرحبٍ بالعدالة المفقودة منذ عقود وبين منددٍ بها. من ناحية، كانت اولى ردود الافعال المتوقعة صادرة عن حماة الديموقراطية وحقوق الانسان في العالم والتي ما زالت تنظر الى العالم بعدسة الهيمنة والقطبية الاحادية. وهنا واشنطن، الراعي الاول لجرائم إسرائيل. التي وصفت القرار على لسان رئيسها -الذي سيغادرنا قريباً، جو بايدن انه “أمر مثير للغضب” مؤكداً ان بلاده “ستقف دائما مع إسرائيل”. ولم يبتعد كثيراً المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض عندما قال أن “الولايات المتحدة ترفض بشكل قاطع قرار المحكمة”. بينما هدد مايك والتز، مستشار الأمن القومي للرئيس المنتخب ترامب، الذي جلس على يديه من هول الموقف، قائلاً “توقعوا ردا قويا في يناير على تحيز الجنائية الدولية المعادي للسامية”.
من ناحية اخرى، وفي مفارقة غريبة، ظهرت شقوق كبيرة وتباين في المواقف تجاه القضايا العالمية، بين واشنطن وحلفائها الغربيين الموقعين على ميثاق روما. كانت تصريحات مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل الخط العريض الفاصل لهذه الفجوة الاخذة بالاتساع، “قرار المحكمة الجنائية الدولية ملزماً لدول الاتحاد الاوروبي ويجب احترامه وتنفيذه من قبل الدول الاعضاء في المحكمة ايضاً”. قال بوريل. بالتزامن مع هذا الموقف، اعلنت العشرات من دول الاتحاد الاوروبي بما فيها (بلجيكا، فرنسا، ايطاليا، هولاندا…) بالاضافة الى كندا، جهوزيتها التامة لتنفيذ مذكرات الاعتقال حال توفر الظروف. والتحقت بريطانيا آخر قلاع المدافعين عن اسرائيل الى الاغلبية العظمى لدول العالم المُرحبة بالقرار والمطالبة بإحترامه وتنفيذه.
في اسرائيل، هبط قرار المحكمة كما الصاعقة من السماء، وظهر نتنياهو وحفنة المتطرفين كما الفيل المصاب في معرض الخزف. يقفون على ارض بالية، يهددون ويتوعدون اعضاء المحكمة والسلطة الفلسطينية والعالم “المعادي للسامية” بتدفيع الثمن. واصطفت المعارضة الى خطوط الحكومة وظهر الوجه الحقيقي لكلا الفريقين. غانتس والذي من المفترض انه معيق كبير لسياسات نتنياهو وبن غفير، وصف قرار المحكمة بأنه “عمى أخلاقي وعار تاريخي” و”لن ينساه ابداً”. من جانبه علق وزير الطاقة الإسرائيلي على القرار بإعتباره “معادي للسامية”. وهو نفس السلاح الذي روج له نتنياهو الذي بات المطلوب رقم 1 في لاهاي.
من الان فصاعداً، لم تعد سيطرة واشنطن على العالم مكسوة بالحديد، يُحظر على نتنياهو الوقوف على منصة الامم المتحدة وإزدراء الامم والشعوب وتجاهل الحق المشروع للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، ويُمنع عليه حضور القمم والمؤتمرات العالمية. كما وتُمنع اقدامه من أن تطأ ارض 124 دولة موقعة على ميثاق روما، ويُحظر على اجنحة اسرائيل حمله عبر الاجواء السيادية لهذه الدول. وستلاحقه ووزير حربه المُقال تذاكر التوقيف حتى في اجمل احلامهم، ولا مجال للمناورات والالتفاف.
إنجازات الدولة غير العضو في الامم المتحدة التي قاتلت القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس ابو مازن منذ سنوات للحصول عليها -مبدئياً، نحو العضوية الكاملة، وسخر منها البعض، فاقت كل التوقعات، ودفعت المحكمة الاولى في العالم لان تنطق بالعدالة وان كان متأخراً، ولاول مرة في التاريخ تتجرأ محكمة دولية بتدوين اسماء قادة اسرائيل على مذكراتها للجلب والاحضار. متجاوزة الدرع الامريكي الدائم لافلات قادة الاحتلال من العقاب.
يحق للشعب الفلسطيني وشعوب العالم الحر، ان يفخر بالقيادة الحكيمة للرئيس محمود عباس، التي تخطت ببراعة كل الخطوط الحمراء التي رسمتها واشنطن لحماية اسرائيل عبر الزمن. واشهرت بطاقة “مطلوب للعدالة الدولية” في وجه قادة اكبر دولة خارجة عن القانون والمواثيق الدولية. وسيكتب التاريخ ذات يوم، ان فدائياً عربياً فلسطينياً بلغ من العمر ثمانية عقود لا يملك ترسانة عسكرية ولا نووية، تمكن ببراعة القائد من تشخيص وتحليل خارطة المشهد السياسي الدولي، واستطاع فك رموز الشيفرة الدولية المُعقدة للتحالفات والمصالح، ووجه لكمه قانونية اصابت قادة الاحتلال ورُعاتهم في الزمان والمكان المناسبين، دون ان يغامر بشعبه ومقدراته.