استعراض لكتاب “Vivre” للبابا الراحل فرنسيس
(دار النشر: صدر بالفرنسية عام 2024 عن دار Harper Collins، وكما صدر مطلع العام الحالي 2025 بالإنجليزية تحت عنوان Hope عن Random House)

السياق التاريخي والديني
صدر كتاب “Vivre” للبابا فرنسيس وسط منعطفات حادة من تاريخ الكنيسة والعالم. في زمن تكسرت فيه أوهام العصر الحديث تحت ضربات الحروب والأوبئة، حمل البابا فرنسيس، ابن بوينس آيرس، صوته كشاهد على جراح العالم، لا كقاضٍ، بل كرفيق طريق. تجارب حياته الشخصية: مهاجرون إيطاليون، طفولة متواضعة، رهبنة يسوعية، عمل رعوي في الأحياء الفقيرة… كلها امتزجت مع أحداث القرن العشرين الجارحة، لتشكّل نظرة دينية ترى في كل مأساة نداء إلى المسؤولية، وفي كل جرح إنساني فرصة لكشف وجه الله الرحوم. هذه التجربة المعمّدة بالتاريخ تتقاطع مع تطورات فكرية في شخصه: انفتاح على لاهوت التحرير بوجهه الرحوم، نقد بنّاء للسلطة الكنسية التقليدية، وحساسية روحية شديدة تجاه المهمشين، مما أفرز نصًا متفردًا في لغته ومضمونه.
المحتوى الرئيسي والأفكار الأساسية
منذ الصفحات الأولى، لا يخفي فرنسيس أن قصده ليس تسجيل مذكراته فحسب، بل استدعاء الذاكرة الجمعية كوسيلة لفهم الحاضر وبناء المستقبل. العيش هنا ليس تمرينًا بيولوجيًا، بل موقف وجودي: أن تعيش يعني أن تتذكر، أن تتألم، أن تحب، وأن ترفض الاستسلام للشر. ينتقل النص بين محطات تاريخية كبرى: الحرب العالمية الثانية، الإبادة اليهودية، الانقلاب في الأرجنتين، انهيار الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى الجائحة العالمية. لكنه لا يسرد كراوٍ محايد؛ بل يضع الأحداث داخل القلب البشري، يحكي كيف دخلت في نسيج طفولته، وكيف شكّلت رؤيته للعالم ولله. في كل صفحة، يصر البابا على أن الحياة المسيحية لا تُختصر بالطقوس، بل بالالتزام الحي تجاه قضايا الإنسان وكرامته.
الأسلوب الأدبي والبلاغي
يغمر القارئ هنا أسلوب يشبه الهمس الحكيم: لا خطب رنانة، بل سرد بسيط وشفاف، يقطر من الحميمية والعفوية ما يجعلك تراه جالسًا أمامك وهو يروي. يستخدم فرنسيس الاستعارات والمجازات بمهارة عفوية، إذ تتحول القهوة الصباحية إلى رمز للألفة، وتصبح أغاني الراديو مرآة لزمن مشحون بالخوف والأمل. الأمثال والأحداث اليومية تترقرق كجداول صغيرة تلتقي في نهر الذاكرة الكبير. اللغة الرمزية تنساب بخفة، فتُحمّل الأحداث الكبرى (كالنكبات والحروب) رمزية روحية، دون أن تقع في التهويل أو التهوين.
الأبعاد الروحية والاجتماعية
هنا يثبت فرنسيس قدرته على الموازنة بين العمق الروحي والمسؤولية الاجتماعية. فبينما يحفر النص في سر العلاقة بالله، لا يفصل هذه العلاقة عن القضايا اليومية: الهجرة، الفقر، الحروب، العنصرية. العيش بالنسبة له هو أن تحمل جراح العالم في صلاتك، وأن تترجم الإيمان إلى فعل محبة يومي. النص يصر على أن الروحانية لا تكون صادقة ما لم تُترجم إلى التزام تجاه من يُعتبرون أقل حظًا، ومن لا يُسمع لهم صوت.
المقارنة مع أعمال بابوية سابقة
إذا تأملنا “Vivre” في ضوء الكتابات البابوية السابقة، يظهر وجهه المختلف بجلاء. يوحنا بولس الثاني في “Mémoire et Identité” تحدث عن ضرورة تذكر الشرور التاريخية، لكنه اعتمد أسلوبًا فلسفيًا صارمًا؛ أما بنديكتوس السادس عشر في “Introduction au Christianisme”، فغاص في تنظير لاهوتي عقلي بحت. بالمقابل، فرنسيس يُقحم جسده وذكرياته في النص: يحكي كطفل وكشاب وككاهن، لا كمنظّر من برج عاجي. هو يكتب بجسد التاريخ، بجراح العائلة والحيّ والوطن، فيجعل من الحاضر مسرحًا للتجدد لا للتأمل السلبي.
التأثير المحتمل
لا يقف تأثير هذا الكتاب عند حدود الكنيسة الكاثوليكية أو المؤمنين فقط. إنه عمل يستطيع أن يحفّز كل قارئ، مهما كان انتماؤه، على مراجعة علاقته بذاته، بذاكرته، وبالعالم من حوله. بالنسبة للحياة الروحية، يقدم “Vivre” رؤية أصيلة عن الإيمان كفعل حب ووفاء للألم الإنساني. وبالنسبة للحوار المسكوني، يقدّم مرآة مشتركة للآلام التي توحّد البشر أكثر مما تفرّقهم. أما على صعيد النقاشات الاجتماعية المعاصرة، فهو دفاع واضح عن الكرامة الإنسانية ضد كل قوى التهميش والإقصاء.
نقاط القوة والضعف
قوة “Vivre” الكبرى تكمن في صدقه الإنساني المتدفق. في عالم تغلب عليه الصياغات النظرية الجافة، يقدّم البابا نصًا حيًّا نابضًا بالمشاعر والذكريات. لكن مع ذلك، قد يرى بعض القراء أن الكتاب يفتقر إلى البناء المنهجي الصارم، وأن العاطفة الطاغية أحيانًا قد تجرف النص بعيدًا عن التحليل العميق المنهجي. ومع ذلك، فإن من يقرأ هذا العمل بقلبه، لا بعقله وحده، سيدرك أن هذه البساطة المقصودة جزء من رسالة النص نفسه.
الجمهور المستهدف
ليس الكتاب موجّهًا حصريًا للمؤمنين الكاثوليك، بل لكل من يسعى إلى اكتشاف طريقة للعيش أكثر صدقًا وكرامة. إنه عمل يخاطب الشباب الذين يبحثون عن قدوة أخلاقية، كما يخاطب المسنين الذين يتأملون حياتهم. إنه نصّ يمكن لكل مهاجر، لكل متألم، لكل متردد في وجه الشر، أن يجد فيه صدى لأسئلته العميقة. وللتمتع به على أفضل وجه، ينصح أن يُقرأ ببطء، كمن ينصت إلى اعتراف حميمي في ليلة طويلة من ليالي الرجاء الإنساني.