سلسلة من المقالات التي سوف أعرضها تباعا” و التي أتناولُ فيها آخر المعطيات العلمية حول جائحة كورونا ومستجدات تطوير لقاح مضاد لهذا الفيروس الفتّاك بشكلٍ آمن وفعّال دون
التسرّع والمُجازفة بأرواح البشر: (الجزء الأوّل)
يشهدُ العالم منذ نهاية شهر كانون الأول (٢٠١٩) جائحة خطيرة لم تشهد لها البشرية مثيلاً منذ حوالي قرن من الزمن وحتى تاريخ اليوم ، ومن خلال متابعاتي اليومية للتقارير التي تُصدرها المديرية العامة لوزارة الصحة الفرنسيّة ، فضلا” عن أحدث تقرير تلاه قبل يومين البروفسور جيروم سالومون – وهو مدير عام الوزارة – أكّد فيه أنّ هذا الفيروس الذي أصاب حتى تاريخ اعداد التقرير اليومي اكثر من خمسين مليون شخص في مختلف أنحاء العالم. و أودَى بحياة ما يقارب(١.٢٦) مليون نسمة مع تزايد في أعداد الإصابات وحالات الدخول الى المستشفى والى اقسام العناية الفائقة بشكل كبيرن وكذلك حالات الوفيات فهي في إرتفاع مُستمرّ في كل دول العالم تقريباً. مما جعل البشرية بأجمعها تقف مذهولة أمام الخسائر الفادحة التي تسبّبت بها هذه الجائحة بالأرواح وبالإقتصاد العالمي ، فضلا” عن التغييرات الجذرية التي أدخلتها على أنماط حياة البشر ،وطُرق عملهم ، وتجارتهم ،وتعليمهم وسفرهم ومجمل تفاصيل حياتهم الإجتماعية ، التي فرضت عليهم ان يتأقلموا معها لفترات طويلة جداً لا يُمكن لأحد من الخبراء ان يتكهّن الى ي مدى سوف تمتدّ.
لذا وجدتُ أنّه من الضروري أن أدعوكم كما أدعو نفسي الى أن نتعلم أساليب للتكيّف والتعامل مع هذا الفيروس على المدى البعيد أوعلى الأقل لمدة سنة ونصف من تاريخ يومنا هذا، ريثما يكون العلماء قد اكتشفوا الأدوية واللقاحات الفعّالة لعلاج هذا الفيروس الفتّاك. وكلمتي هذه تنطلق مما أشار إليه “بروفسور سالومون” في تقريره إلى أنّ الفايروس يتركّز حاليا” في هذا الوقت من العام وللمرة الثانية على التوالي في هذا التوقيت لذا نجد هذا التزايد في الحالات – وخلال فقط بضعة اشهر ( آذار- نيسان ٢٠٢٠)، في أوروبا- وأن هناك على الأقل ( ١٤ ) دولة أوروبية شهدت في هذا الأسبوع الأخير عدد مُرتفع جداً.
.و أضاف “سالومون” أنّ عدد حالات الدخول الى المستشفى تتزايد مع وجود ١٢.٦ مليون حالة مُؤكّدة من الإصابة بجائحة كوروناو ( ٣٠٥٧٠٠ ) حالة وفيّات بسببه، أي أنّ أوروبا أصبحت في الأسابيع الأخيرة “المركز العالمي الأول” الذي ينتشر منه وفيه الوباء.
وبعد أوروبا تأتي في المراتب الأولى الأُخرى على التوالي: دول أميركا اللاتينية مع( ١١ ) مليون إصابة و (٤١١٧٠٠ ) وفيّات، آسيا مع (١١ )مليون إصابة و( …١٧٦) وفيّات، أميركا و كندا مع ( ١٠،١) مليون حالة و (٢٤ ) الف حالة وفيّات.
وفي السياق نفسه كنتُ قد أشرتُ في مقالات سابقة عن وجود “سباق عالمي شديد ومحموم” لتطوير “لقاح فعّال وآمن” لكبح إنتشار هذا الفيروس ووضع حدّ لإنتشاره وللخسائر الفادحة الناتجة عنه على كل المستويات سواء أكانت في الأرواح او في الإقتصاد. لكنّ هذه الرّغبة الجامحة في الوصول الى “خرق علمي كبير” لا تخلو من مخاطر كبير سوف أتكلّم عنها تباعا” في هذه المقالة فكما بات معروفا” لدى جميع الباحثين والخبراء في مجال تطوير اللقاحات انّ تطوير اي لقاح يأخذ في الظروف العادية ما بين ١٠ الى ١٥ سنة من الأبحاث والتجارب والبروتوكولات المعقّدة للتأكد اوّلاً من فعاليّة اللقاح في الحماية من مخاطر الفيروس او البكتيريا التي نريد الحماية منها، وثانياً وهذا الأهم للتأكد من عدم وجود مخاطر صحية كبيرة ناجمة عن تعميم اللقاح على اعداد هائلة من البشر. وهذه هي النقطة الأساسية التي سأحاول الإضاءة عليها فصحيح انّه علينا ان نكون سريعين جداً في تطوير لقاح لمنع إنتشار حائحة كورونا، ولكن في المقابل تساهلت معظم الدول بما فيها المتقدّمة طبيّاً منها
( الدول الغربية تحديداً ) أو التي تُعتبر أقل تقدّماً (مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وبعض الدول العربية) والى مدى أبعد بخرق بعض القواعد الأساسية في عملية تطوير وتعميم اللقاح او إختصار بعض بروتوكولات التجارب والأبحاث في هذا المجال. وقد علًل البعض ذلك بمخاطر الجائحة والخسائر الهائلة الناتجة عنها وضرورة إيقافها في اسرع وقت الأمر الذي دفعهم لاختصار المراحل او التساهل نسبياً والى حدٍ -كبير في بعض الدول-مع بعض القواعد الأساسية التي يجب مراعاتها لكي لا نخرج من كارثة الى كارثة اخرى من صنع الإنسان هذه المرة. وسوف احاول فيما يلي وبشكل علمي ممنهج وموضوعي الإلمام بكافة ما يجري حول هذا اللقاح هادفاً الى إيضاح كل ما يدور على هذا المستوى دون إخافة المواطنين العاديين ودفعهم لرفض اللقاح لاحقاً لأنه لن يكون لنا خلاص من هذه الجائحة سوى بهذه الطريقة او عن طريق إيجاد ادوية فعّالة جداً وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا..
كما بات معروفا” فقد شكل إعلان شركة “فايزر”شركة “فايزر الأميركية ” منذ يومين بأن مشروع اللقاح الذي تعمل على تطويره مع شركة ” بيونتك الألمانية ” حدثاً علمياً كبيراً بعث الكثير من الأمل والتفاؤل عند الملايين من البشر بقرب الخلاص من هذه الكارثة الصحية التي تجتاح العالم منذ نهاية كانون الأول( ٢٠١٩ ) والتي أحدثت خسائر بشرية مرعبة إضافة إلى الخسائر الإقتصادية والتغيرات الكبيرة التي أحدثتها في أنماط حياة الشعوب وفي طرق عيشهم وما الى ذلك من تفاصيل نعرف جميعاً تأثيراتها السلبيّة..
وفي هذا المجال أعلنت شركة “فايزر” بأنّ اللقاح التي تعمل على تطويره مع شريكها الألماني و يعطي نتائج فعّالة في(90 )% من الحالات. وأن الحماية التي يُوفّرها هذا اللقاح كانت كبيرة وفعّالة جداً بعد مرور أسبوع من حقن الجرعة الثانية منه أو بعد مرور ( ٢٨) يوم بعد حقن الجرعة الأولى منه. وذلك بحسب المُعطيات الأولية للدراسة العلمية الواسعة التي تشمل آلاف المُتطوّعين. وتُعتبر التقنيّة التي اعتمدتها شركة “فايزر” مع شريكها الألماني من التقنيّات الأقل شيوعاً و معرفةً في عملية تطوير اللقاحات المُتعدّدة الأخرى التي سوف نُحاول في هذه السلسلة من المقالات فهم الأسباب التي تجعل بعض الخبراء والإطباء وبعض الإعلاميين والكثير من الناس العاديين مُتوجّسين نتيجة الإسراع في عمليات تطوير هذه اللقاحات المُضادّة لفيروس كورونا. وسوف نستعرض اولاً اهمّ الطرق الكلاسيكية في تصنيع اللقاحات وكيفية إجراء التجارب لمعرفة فعاليّة واضرار اي لقاح والبروتوكولات العلمية المُعتمدة في هذا المجال . كذلك وسوف نستعرض آخر اخبار هذه اللقاحات وبعض مخاطر وإيجابيات طُرق تصنيعها بواسطة هذه “الطُرق الغير إعتيادية” مُقارنة مع الطرق المُعتمدة بشكل طبيعي من الخبراء والمُختبرات والشركات العاملة على تطوير اللقاحات لأن التقنية التي اعتمدتها شركة فايزر مثلاً وكما سنرى لاحقاً لم تكن حتى تاريخ اليوم قدّمت مُساهمات كبيرة في تطوير لقاحات مُهمّة في السابق. وسوف ننهي هذه السلسلة بالحديث التفصيلي عن الثمانية مشاريع لقاحات التي وصلت الى مرحلة “التصفيات النهائية” اي انها وصلت الى مرحلة الأبحاث السريرية من “المرحلة الثالثة” Phase III أي انها تُدرس فعاليًتها بشكل واسع على عيّنات من المتطوّعين تصل الى ( ٣٠ او ٤٠ )ألف مريض لمعرفة فعاليتها بشكل واسع في تأمين المناعة المطلوبة التي تكفي بشكلٍ قوي للحماية من الإصابة بالفيروس وما هي مُدة هذه الحماية وما هي الأضرار الجانبية المُمكنة او المُحتملة لهكذا لقاح.
ولكن الأجواء الإيجابية التي صاحبت إعلان شركت “فايزر” اصيبت بنكسة كبيرة بعد يومين من إعلان الشركة عندما كشفت عن صعوبات كبيرة قد تُواجه عمليات التخزين والنقل والتوزيع الخاصة بهذا اللقاح. حيث اعلنت “فايزر” انّ تحديات لوجستية كبيرة سوف تعرقل تعميم اللقاح الموعود. واضاف بيان صادر عن الشركة إن هذا اللقاح الذي أثبت نسبة فعاليّة عالية بلغت أكثر من 90% يحتاج إلى ان يُخزّن في درجات حرارة مُنخفضة تراوح بين 70 و80 درجة تحت الصفر، الأمر الذي من شأنه ان يشكّل صعوبة بالغة أمام نقله وتوزيعه وتخزينه حول العالم.
وقد نقلت كالة «رويترز» قبل يومين أيضاً عن المدير التنفيذي للشركة الألمانية، أوغور ساهين، أن اللقاح “يفسد او يُصبح غير فعّال” خلال خمسة أيام إذا ما تمّ تخزينه في ثلاجات حرارتها فوق صفر درجة مئوية بقليل. وهو ما تستخدمه غالبية المستشفيات حول العالم. واعتبر أمِش أداليا، رئيس الباحثين في مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي: ستكون مهمة التبريد أحد أكثر الجوانب صعوبة في توزيع هذا اللقاح وغيره من اللقاحات الثمانية التي يتم تطويرها حالياً والتي تعتعمد ذات تقنيات التصنيع التي سأشرحها لاحقاً.وسيكون هذا تحدياً كبيراً، لأن اكثر او معظم المستشفيات حتى تلك الموجودة في المدن الكبرى وفي الدول المتقدّمة، لا تمتلك مرافق تخزين اللقاح في درجة حرارة شديدة الانخفاض. فكيف سيكون عليه الحال في الدول النامية او الفقيرة او تلك التي لا توجد فيها ادنى الخدمات والمرافق الصحية. حتى إن «مايو كلينيك»، أحد أرقى مستشفيات الولايات المتحدة والعالم، أعلن أنه لا يمتلك هذه القدرة على تخزين اللقاح. في غضون ذلك، بدأت المراكز الطبية في الولايات المتحدة البحث عن ثلاجات خاصة وسعة تخزينية كبيرة، في محاولة لإستباق المشكلة الآتية في حال حصل لقاح “فايزر” و”بيونتك” على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA). وحتى لو تأمنت تلك الثلاجات، فستبقى هناك مشكلة في نقل اللقاح براً وبحراً وجواً الى مختلف البلدان حول العالم.
اذاً وبكل بساطة برزت بسرعة مشكلة خطيرة وهي ان معظم مستشفيات العالم لا تمتلك ثلاجات قادرة على توفير البرودة التي يحتاجها اللقاح وهذه مشكلة خطيرة جداً خاصة في الدول الفقيرة.
الى ذلك ورغم الضجة الإعلامية الصاخبة في البداية، أفادت شبكة «سي أن أن» أن النتائج الحالية مع لقاح شركة فايزر ، رغم إيجابيتها، لا تزال أوّلية. وقال المدير التنفيذي لـ«فايزر»، ألبرت بورلا، في لقاء مع الشبكة الأميركية، إنه ليس معلوماً بعد الى اي فترة من الوقت ستبقى المناعة التي قدّمها اللقاح داخل جسم الإنسان. فالأمر بحاجة الى مُتابعة لمدّة سنتين. لكنه أعرب عن تفاؤله بأن المناعة قد تستمر الى حدود سنة أو عدّة أشهر، ملمّحاً وهنا “بيت القصيد” الى أنه قد تكون هناك حاجة الى “إعادة التلقيح عبر إعطاء جرعات إضافية كل فترة، قد تكون كل عام مثلاً او اقلّ ( لا احد يعلم حتى اليوم؟) للمحافظة على مناعة مُستدامة ضد كورونا. كما لفت بورلا الى أنه من غير الواضح بعد كيف سيعمل اللقاح وكيف ستكون فعاليته مع الفئات العمرية الأكبر سناً، أو مع الحالات الشديدة الخطورة للإصابة بإلتهابات خطيرة من كوفيد-19 مثل مرضى القلب والشرايين ومرضى الإنسداد الرئوي والفشل الرئوي والربو والسكري والسرطان والفشل الكلوي والكبدي والبدانة والضغط واصحاب المناعة الضعيفة وغيرهم وغيرهم من الفئات التي كنت قد تكلّمت عنهم في مقالات سابقة من الممكن العودة اليها. بدوره، المراسل الطبي للقناة، الدكتور سانجي غوبتا، اعتبر اللقاح خطوة على الطريق الصحيح، إلا أنه طالب بالتروّي وانتظار معطيات إضافية.
ولذلك ورغم جرعة التفاؤل الكبيرة التي سادت في كل الأوساط العلمية والطبية وحتى السياسية والإقتصادية والتي ادّت بسرعة الى إعادة انتعاش البورصات العالمية وارتفاع اسعار النفط عند إعلان” فايزر” عن هذا الخبر، إلّا انّ اخبار اليوم التالي اتت خفّفت كثيراً من هذا التفاؤل واعادت عقارب الساعة الى الوراء واعادت احياء السجالات الكبيرة التي سنستعرضها في هذه المقالات حول وسائل تطوير هذا اللقاح وحول عدم التسرّع في التفاؤل بقرب الوصول الى الحل مع حتمية الحاجة الى السرعة في ذلك لأن الموضع يتعلّق ب( 7.75) مليار نسمة هم سكان الكرة الأرضية في قاراتها الخمسة ولا يجب ابداً التساهل او الإسترخاء في التعاطي مع هكذا موضوع خطير.
والى اللقاء في مقالات جديدة تبحث في الموضوع عينه..
د طلال حمود- طبيب قلب وشرايين-منسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود