بدأ الرئيس الأميركي جون بايدن في العشرين من يناير/كانون الثاني الحالي، بتحديات ذات أبعاد متصلة بفلسفة النظام الأميركي وما يتركها من تداعيات مفترضة في الداخل الأميركي وعلى المستوى الدولي ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا، لاسيما وان ما رافق عملية الانتخاب وما تلاها تعتبر سوابق في الحياة السياسية الأميركية تستدعي ردم فجوات ما خلفته سريعا، باعتبارها مظاهر تهدد فلسفة النظام برمته، وفي طليعتها ديموقراطية السلطة وتداولها بطرق محددة ومتوارثة عبر عشرات العقود، وهي جزء رئيسي من أيديولوجيا النظام القائم وأحدى مفاخرها.
هي سابقة ان تتعرض منظومة السلطة لضربة موجعة وفي عرينها الديموقراطي المتمثل في الكابيتول، الذي بدت مظاهرة لا تختلف ابدا عن أي مظهر انقلاب في أي دولة من دول العالم الثالث حيث العزل والاستيلاء على السلطة يتم بالقوة، والاشد غرابة ان تظهر هذه السلوكيات بمظهر المخطط لها يهدف الوصول الى نهايات سوداوية كما ظهر في التحقيقات الأولوية، التي ذهبت الى حد البدء في إجراءات عزل الرئيس، وهي سابقة أيضا لجهة الأسباب والخلفيات التي تمس وتلامس جوهر الكيان بعد النظام.
فالرئيس جون بايدن والحال هذه، سيبدأ ولايته بأزمة ثقة انتشرت وتوسعت في العقل الجمعي الباطني للأميركيين، مفادها ازمة نظام تعدّت ازمة حكم متصلة بسلوكيات سياسية يومية معتادة بين الجمهوريين والديموقراطيين، وهي بذلك تتطلب جهودا مضاعفة لتخطي بعض تداعياتها، سيما وان بعض الأمور ذهبت الى مسارات تصعيدية كالعزل قبل الانتفال المفترض للسلطة بأسبوع واحد تقريبا، وهو عمليا غير فعَّال، انما يشكل صورة من صور التحدّي للرد بحزم على ما حصل، بصرف النظر عن القدرة على تنفيذه في هذا الوقت الضيق جدا ام لا.
ان احد ابرز مرتكزات فلسفة الحكم هي الانتقال السلمي وتداول السلطة بصور ديموقراطية وحضارية، وهو بمثابة الوصايا اتي يستحيل التغاضي عنها او تجاوزها، وهو ما سيحاول الرئيس بايدن إعادة رسمه في عقول الاميركيين ومؤسساتهم التي تلقت صدمة غير مسبوقة عبر تاريخها الحافل بتداول السلطة بمختلف أنواعها ومستوياتها.
كما ان أزمة النظام تمتد أيضا الى حجم السيطرة الأميركية على النظام الدولي ووسائل التحكم به، ففي العقل الباطني للكثير من المفكرين والمتابعين ربطوا التحدّيات الأميركية بما سبق ومرَّ به الاتحاد السوفياتي وصولا الى التفكك والانهيار، ثمة بعض الوقائع تنحو الى ذلك السيناريو، لكن التدقيق اكثر يظهر ان النظام السياسي الأميركي وان بدا هشا في هذه الازمة، الا انه يملك من أدوات ووسائل الاستمرار والحماية الذاتية ما يمكنه من إعادة التموضع في الأماكن المناسبة لإعادة الانطلاق ولو بدا الامر صعبا وتشوبه الكثير من عوامل الثقة. فالتداعيات الداخلية وحجمها، جعلتا أسئلة أخرى تطرح حول قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في قيادة النظام العالمي، بخاصة ان السلوكيات الأميركية في التعاطي مع حلفائها وغيرهم، اثبت البرغماتية المفرطة التي تتعامل واشنطن بها مع حلفائها القريبين والبعيدين. وهو مؤشر واضح على ضعف القيادة الأميركية في اتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب.
ورغم ذلك، لا يعني ان الولايات المتحدة ذاهبة بنفسها للتخلي عن القيادة الريادية للنظام العالمي، وان بدا ان ثمة منافسين فعليين لها، وان لم يخرجوا من عباءتها السياسية، رغم التوتر الظاهر في مواجهة ومعالجة بعض القضايا المشتركة. الا انه لا يمكن انكار المنافسة الجادة والخطرة مع بعض اللاعبين الآخرين كالصين وروسيا كمثالين واقعيين حاليا.
كما ان الأمر لا يقتصر فقط على الجوانب المادية، بل يمتد أيضا الى شبكة الحماية الفكرية الأيديولوجية للنظام السياسي الأميركي القائم على قاعدة الليبرالية الجديدة، وهو فكر طري العود جدد شبابه في العقد الأخير. وفي حقيقة الأمر من الصعب تخيل نظام سياسي لا يستند الى خلفية فكرية وهو تحدِ إضافي للنظام المؤسساتي الأميركي عليه اثباته مع كل انعطافه يمر بها وبخاصة في الأزمة الحالية. ربما لم تمر الولايات المتحدة بأزمة كبرى كالتي تمر بها اليوم، وهي تستدعي البحث عن أجوبة لتحديات كبرى داخلية وخارجية كثيرة.