منذ دخوله البيت الابيض، لم تخف إدارة الرئيس جو بايدن نيتها التخفيف من تواجدها العسكري وبالتالي السياسي في منطقة الشرق الاوسط، وتوجيه تركيزها نحو اسيا حيث منطقة المحيطين الهندي والهادي والنفوذ الصيني المتنامي. في السياق، تحدث وزير خارجية بايدن مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة في عهد الإدارة الجديدة سوف تعمل “اقل وليس اكثر في منطقة الشرق الاوسط“.
مع كثرة الحديث عن الانسحاب الامريكي من المنطقة، وهيمنة المنافسة الصينية على مناقشة السياسة الخارجية الامريكية، مع شبه اجماع بين الحزبين على هذه القضية، الا ان الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بقواعد عسكرية عديدة ومترامية الاطراف في اكثر من منطقة في الشرق الاوسط، حيث ترى واشنطن ان التغيرات الديناميكية غير المستقرة الى جانب الحروب الاهلية المستمرة في المنطقة سوف تدفعها للبقاء الى اجل غير مسمى. وفق دراسة حديثة صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية 2020 فان الولايات المتحدة تحتفظ بقرابة 17 قاعدة عسكرية في كل من العراق، سوريا، الكويت وقطر حيث اكبر قاعدتين عسكريتين (العيديد والسيلية). فيما يعمل الاسطول الخامس للبحرية الامريكية من قاعدته المركزية في البحرين، كما تستضيف الامارات بحارة وطيارين أمريكيين. الى جانب قاعدة الملك خالد الجوية في العربية السعودية.
يجادل البعض، انه ورغم اعلان إدارة بايدن إعادة تنظيم قواتها وتخفيض انظمتها المضادة للصواريخ من منطقة الخليج، بهدف التركيز على الخطر الصيني القادم في منطقتي المحيط الهندي والهادي، الا انها كررت التأكيد لحلفائها بان الالتزام الامني الامريكي تجاههم ثابت ولن يتغير، وبعكس ما هو معلن، فإن المشاركة العسكرية الأمريكية تظهر استمرارية بالتزامن مع حالة التخفيف العسكري. على سبيل المثال، على الرغم من الوعد بمراجعة صفقة بيع أسلحة بقيمة 23 مليار دولار للإمارات العربية المتحدة مع التركيز بشكل أكبر على حقوق الإنسان، الا أن إدارة بايدن قررت المضي قدمًا في عملية البيع. كما أن “إعادة تقييم” إدارة بايدن لما أسماه سجل الديموقراطية وحقوق الانسان في المملكة العربية السعودية والحرب في اليمن، لم يؤدِ أيضًا إلى تغيير كبير في السياسة، فقد ابلغ الرئيس بايدن الكونجرس الامريكي بموافقته على تمرير صفقة أسلحة جديدة الى العربية السعودية بقيمة 650 مليون دولار، بعد لقاء مستشار الامن القومي الامريكي جاك سوليفان بولي العهد السعودي الامير محمد في الرياض في شهر سيبتمبر الماضي، الى جانب ذلك، دعمت إدارة بايدن تشريعات الكونجرس التي تنص على استمرار الدعم العسكري لمصر في الوقت الذي تستمر فيه إدارة بايدن بمطالبة مصر بتحسين سجل حقوق الانسان والافراج عن عدد من معتقلي قيادات الاخوان.
إن الحجة الاستراتيجية لتقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط واضحة ومباشرة. بالإضافة إلى الحاجة إلى تحويل الموارد إلى آسيا نظرًا للظروف المستجدة، كان هناك تدقيق من قبل وزارة الدفاع الامريكية حول جدوى الابقاء على هذا الكم الهائل من الجنود والمعدات العسكرية في ظل انخفاض التهديدات الارهابية في المنطقة واستيفاء هذه القوات مقتضيات ومبررات تواجدها، وما إذا كانت القواعد الامريكية الكبيرة المنتشرة في المنطقة هي نقطة جذب للعمل العسكري المضاد بدلاً من إرساء عمليات الردع. من ناحية اخرى، يرى البعض أن نقل اسرائيل – خلال الايام الاخيرة من عهد الرئيس ترامب، من مجال نطاق العمليات الاوروبية الى نطاق عمليات القيادة المركزية الامريكية في الشرق الاوسط جاء بهدف تسهيل مهمة الجيش الاسرائيلي للرفع من وتيرة التنسيق مع جيوش الدول العربية خاصة تلك المطبعة مع اسرائيل، بهدف إنشاء حلف يعمل ضد ايران حيث تعمل الولايات المتحدة على أن تتزعم اسرائيل هذا الحلف، وبالتالي تتفرغ الولايات المتحدة لمواجهة الصين.
اورد مركز مالكوم كير- كارينجي للشرق الاوسط في تقريره، أن التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط لم يساهم، دائمًا، في تحقيق الأهداف الأميركية أو دعم المصالح الأميركية الأساسية، ما يؤشّر إلى الحاجة إلى إعادة النظر في الرابط بين المصالح الاستراتيجية والحضور على الأرض. وقد كان الحفاظ على الاستقرار والوصول إلى نفط الشرق الأوسط، لفترة طويلة، مصلحة معلَنة للولايات المتحدة. بيد أن تنويع مصادر الطاقة عالميًا، بما في ذلك ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة، مقرونًا بانخفاض استهلاك النفط، أدّى إلى إضعاف قدرة دول الخليج على السيطرة على سعر النفط. وفي حين أن بلدانًا كثيرة على غرار الصين لا تزال تعتمد على الشرق الأوسط لاستيفاء احتياجاتها من الطاقة، لم يعد الأمر كذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
يرى محللون أن الثابت الوحيد في المشهد السياسي العالمي، ان الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الرئيس في الشرق الاوسط والعالم على وجه العموم، فبعد فشل ما سمي بثورات الربيع العربي التي رعتها امريكا، وقادت المنطقة من بين أمور اخرى الى، مزيد من تراجع الحريات، الاف اللاجئين والقتلى، تدمير الاقتصاد وزيادة وتيرة التطرف والارهاب، الى جانب وصول الانظمة العربية قبل الشعوب في منطقة الشرق الاوسط الى قناعة بعدم جدوى سياسات الولايات المتحدة، ومع نمو الاستثمارات الاقتصادية والتكنولوجية الصينية بشكل لافت في منطقة الشرق الاوسط، وتمدد النفوذ العسكري الروسي. بهذا المعنى، انتهت لحظة التفرد الأمريكية.
يرى محمد برهومة، أن التصميم الأمريكي على تبني نهجِ فكِّ الارتباط بالمنطقة يحظى بدعمٍ قوي في الداخل الأمريكي، من مختلف شرائح المجتمع الامريكي، والواقعيون يذهبون إلى أن الوجود العسكري ليس السبيل الأوحد لتأمين المصالح الأمريكية، فالنهج الدبلوماسي المدروس والفعّال يمكن أن يحقق نتائج مثمرة أكثر، ومن يؤيد هذا النهج يعتقد أن المطلوب هو تعزيز “النفوذ” الأمريكي في المنطقة والحفاظ عليه وهو لا يتماهى أو يتطابق، بالضرورة، مع مفهوم تعزيز” القوة”، الصلبة على وجه التحديد. يستبطن هذا النهج بأن مبدأ الردع متحقق بهذا النفوذ وبأن القوات الأمريكية الموجودة كافية بالفعل لتأكيد هذا المبدأ، وعدم زيادتها بل حتى تقليصها لا يخلّ بهذا المبدأ.
لقد دفعت سياسات الولايات المتحدة التخفيف من تواجدها العسكري وبالتالي السياسي في المنطقة، عدد من القوى الإقليمية إلى إعادة النظر في مواقفها من زاوية الواقع السياسي الجديد، فشهدنا مفاوضات بين المملكة العربية السعودية وايران برعاية عراقية، وعُقدت في بغداد طاولة حوار بنّاءة، أعادت العقلانية إلى مسار العلاقات بين دولتين إقليميتين كبيرتين في المنطقة. ورأينا قنوات الحوار تفتح أبوابها بين مصر من جهة وإيران وتركيا من جهة اخرى وغاب الاعلام التحريضي بين البلدين، وبدأت علاقات الامارات وبعض الدول العربية تعود لطبيعتها مع سوريا، تمهيداً لاعادتها الى الحضن العربي حيث اجتماع القمة العربية المرتقب في الجزائر ربيع العام القادم 2022، وبدأت المعارضة السورية بارسال اشارات بناءة للحوار مع النظام السوري. بوساطة روسية، وأعيدت العلاقات بين الامارات وتركيا والتي بدأت بدورها تنحو نحو الانفصال عن حلف الناتو، وتقترب من موسكو حيث طلبت دفعةً ثانية من صواريخS400 الروسية. الى جانب خفض التوتر بين الدول الخليجية وقطر، وبدأ الفرقاء في العراق حوراً قائماً على قاعدة اخراج القوات الامريكية. الى جانب الدعوات الى انهاء الحرب في اليمن، وضرورة اجراء انتخابات نزيهة في السودان وليبيا لاخراج البلدين من حالة الفوضى التي تعصف بهما.
على الرغم من وجود خلاف داخل دوائر صنع القرار في واشنطن من خطة بايدن تخفيف التواجد العسكري في منطقة الشرق الاوسط بحجة “الفراغ”، بعبارة أخرى، هذا الانسحاب يسهل من احلال الصين وروسيا في المنطقة، ويفضلون البقاء على الوضع الحالي لردع تهديدات “الخط الاحمر”، الا أن الادارة الامريكية على ما يبدو حسمت امرها على مغادرة منطقة الشرق الاوسط الى آسيا.
فهل دول المنطقة قادرة على ملئ الفراغ وإدارة علاقاتها على قاعدة المصالح المشتركة بطريقة الدبلوماسية الناعمة بعيدا عن اسرائيل ودون الطلب من الولايات المتحدة أو عيرها البقاء في المنطقة العربية.