ما هو القاسِمُ المُشتَرَكُ بينَ الجُهودِ الحربية التي تبذلها إسرائيل وأوكرانيا؟ الجوابُ قد يكون بأنَّ كُلًا منهما تعتمد بشكلٍ كبير على المساعدات المادية الأميركية، أو ربما ترى كل حكومة نفسها مُنخرطة في معركةٍ وجودية في أعقابِ تَوَغُّلٍ عسكري عنيف من قبل عدوّها. لكنَّ الأمرَ الأكثر بروزًا في هذه اللحظة هو أنَّ البلدين مُنخَرِطان في جهودٍ حربية، رُغمَ أنها تسببت في خسائر فادحة في صفوف خصومهما، إلّا أنّهما مُعَرَّضان لخطرِ هزيمةٍ استراتيجية.
في أوائل الشهر الجاري، أشار وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى أنَّ إسرائيل، في حملتها العسكرية ضد حركة “حماس”، تُخاطِرُ بتحويلِ “نصرٍ تكتيكي” إلى “هزيمةٍ استراتيجية” إذا فَشِلَ جيشها في حمايةِ المدنيين الفلسطينيين في غزة. وقبل شهرٍ تقريبًا، أعرب الجنرال إيهور رومانينكو، النائب السابق لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المُسَلَّحة الأوكرانية، عن أسفه لأنَّ “الأهداف الاستراتيجية لأوكرانيا لم تتحقّق هذا العام”. وجاء هذا التصريح في الوقت نفسه الذي أدلى قائد الجيش الأوكراني الجنرال فاليري زالوزني بتعليقاته المشهورة على نطاق واسع والتي قال فيها “لن يكون هناك على الأرجح اختراقٌ عميقٌ وجميل” في الهجوم المُضاد الذي يشنّه الجيش الأوكراني هذا العام.
في كلتا الحالتين، رَكّزَ القادة العسكريون على الجانب الاستراتيجي للقتال، وعلى وجه التحديد الفشل على تلك الجبهة. ماذا يعني الخسارة استراتيجيًا، سواءَ بشكلٍ عام أو في حالاتٍ مُحَدَّدة من الحَربَين في أوكرانيا وغزة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، من المهم التمييز بين الجوانب العسكرية والسياسية للحرب. غالبًا ما يَستَحوِذُ الجانبُ العسكري للحربِ على قدرٍ كبير من اهتمامنا. في نهاية المطاف، فإنَّ التنافس بين القوات العسكرية يكمن في قلب الحرب والمعارك. عند إجراءِ التحليلِ العسكري، غالبًا ما يكون من المُغري التركيز على الخريطة فقط: هل سَيطرَ أيٌّ من الجانبين على أراضٍ جديدة وما حجمها؟
ولكن، كما كتبَ الجنرال البروسي والمُنَظِّرُ الإستراتيجي في القرن التاسع عشر “كارل فون كلاوزفيتز” في كتابه الشهير “عن الحرب”، إنَّ الحربَ هي استمرارٌ للسياسةِ بوسائل أُخرى. بعبارةٍ مفيدة، يَرتَبِطُ الجانبُ السياسي للحرب ارتباطًا وثيقًا بجوانبها العسكرية، ورُبّما يَحُلُّ محلّها. هذا هو المكان الذي يلعبُ فيه العُنصرُ الاستراتيجي للحرب، أي مدى قدرة أحد الطرفين على تحقيق أهدافه السياسية من الحرب في نهاية المطاف.
مع أخذِ هذا في الاعتبار، فلنتأمّل الهجومَ المُضاد المُستَمِرّ الذي نفّذته أوكرانيا ابتداءً من هذا الصيف ضد القوات الروسية. كانت التوقّعاتُ المُبكِرة هي أنه سيُحقّقُ نجاحًا باهرًا، وهو نسخةٌ مُوَسَّعة من الهجوم الناجح الذي أطلقته أوكرانيا في أيلول (سبتمبر) 2022، عندما أحرزت تقدّمًا سريعًا ضد القوات الروسية بالقرب من مدينة خيرسون. ولكن بحلول أواخر الصيف، أدّت الوتيرة البطيئة للجهودِ العسكرية هذا العام إلى وَصفِ البعض لها بأنها فاشلة.
في ذلك الوقت، زعمَ آخرون أنَّ نجاحَ الحملة العسكرية في حَشدِ الدَعمِ السياسي في واشنطن وأوروبا فاقَ افتقارها إلى تحقيق اختراقات في ساحة المعركة. ولكن مع دخولنا فصل الشتاء، يبدو الآن أنَّ الهجومَ المُضاد قد فشلَ في نهاية المطاف في تعزيز المجهود الحربي في أوكرانيا.
في حين حقّقت كييف بعض النجاحات التكتيكية، مثل استعادة مدينة “روبوتاين” والاستمرار في فَرضِ خسائر فادحة على روسيا، فإنَّ الحقيقةَ هي أنَّ المكاسِبَ لم تكن كافية. ورُغمَ أنه كان من المتوقع قبل الآن أنَّ هذا الصراع سوف يكون طويلًا، فقد أصبح واضحًا الآن أنَّ الحربَ في أوكرانيا تعرفُ جمودًا استراتيجيًا، وهي حالة سوف تظلُّ تَتَّسِمُ بإحرازِ تَقَدُّمٍ هامشي على ساحة المعركة، بدلًا من تحقيقِ اختراقاتٍ عميقة. إنَّ تغييرَ هذه الديناميكية يتطلّبُ تغييرًا عميقًا في القدرات المادية لأيٍّ من الجانبين. ولكن من غير المرجح أن يحدثَ مثل هذا التحوّل، سواء من جانب قوى حلف شمال الأطلسي التي تلقي بثقلها بالكامل خلف أوكرانيا، أو من جانب الصين التي تفعل الشيء نفسه في ما يتصل ب”صداقتها التي لا حدود لها” مع روسيا.
الواقع أنَّ الهجومَ المُضاد الذي شنّته أوكرانيا ربما كان ليؤدي إلى نتائج عكسية في ما يتصل بتغيير المسار الأوسع للحرب وقدرة كييف على تحقيق أهدافها النهائية. يُجادِلُ بعض الخبراء بأنَّ أوكرانيا ربما كان من الأفضل لها ألّا تفعل أي شيء، أو بشكلٍ أكثر دقة، أن تسعى ببساطة إلى الاحتفاظ بالأراضي التي لا تزال تُسَيطِرُ عليها بدلًا من السعي إلى طرد القوات الروسية من الأراضي التي احتلتها. في هذا السيناريو، كان بوسع أوكرانيا أن تدّعي أنها كانت تنتظر ببساطة أن يُقَدّمَ الغربُ مساعدات عسكرية كافية قبل شنِّ ضربة قوية. وبدلًا من ذلك، ربما ساهم الهجوم المُضاد في إثارة الشكوك بين المؤيّدين الغربيين، وبخاصة في الولايات المتحدة، حول براعة أوكرانيا العسكرية والحكمة في تقديم المزيد من الدعم.
ومن الممكن إجراء تقييمٍ مُماثل للحملة العسكرية التي تشنّها إسرائيل ضد “حماس”. من الناحية التكتيكية، لا شك أن القوات العسكرية الإسرائيلية حققت بعض المكاسب والإنجازات العسكرية. وبكل المقاييس تقريبًا من حيث القوة العسكرية، فإنها أحرزت تقدمًا ضد “حماس”، رغم تكبّدها خسائر كبيرة. وبينما كانت إسرائيل تعتمد في البداية فقط على القصف والقوة الجوية لضرب “حماس”، فقد شنّت منذ ذلك الحين هجومًا بريًا على شمال غزة والآن على جنوبها. لقد أثبت مثل هذا المزيج من القوات الجوية والبرية مرات عدة فعاليته في تحقيق هدفٍ عسكري.
لكن من الناحية الاستراتيجية، فإنَّ الوضعَ أكثر هشاشة. في الواقع، إنَّ المكاسب التكتيكية التي حققها الجيش الإسرائيلي ربما تُساهم في الواقع في هزيمةٍ استراتيجية. وكما جادل أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، “روبرت بايب” (Robert Pape) أخيرًا في مجلة “فورين أفيرز” فإنَّ “أكثر من خمسين يومًا من الحرب تُظهِرُ أنه رُغمَ أنَّ إسرائيل قادرةٌ على تدميرِ غزة، فإنها لا تستطيع تدمير “حماس”. في الواقع، قد تكون المجموعة أقوى الآن مما كانت عليه من قبل”. يُدرِكُ خبراء الصراع أنَّ القصفَ غير فعّال عند التعامل مع الجهات الفاعلة العسكرية غير الحكومية. وينطبق هذا بالتأكيد على “حماس” التي تتميّز تكتيكاتها العسكرية بأنها أقرب إلى تلك التي تستخدمها الجماعات المتمرّدة من تلك التي تستخدمها الجماعات المسلّحة التقليدية.
علاوةً، ومن أجل تجنيد أعضاء جدد، تعتمد “حماس” على السخط المُستَشري بين المدنيين الفلسطينيين بسبب احتلال إسرائيل الطويل الأمد للأراضي الفلسطينية وعدم رغبتها في إحراز أيِّ تقدّمٍ بشأن إقامة دولة فلسطينية. ورُغمَ أنَّ الحملةَ التي تشنّها إسرائيل تقتل أعضاءً من حركة “حماس”، فإنها تُوَلّدُ أيضًا عددًا كبيرًا من الضحايا المدنيين، بلغ حتى الآن أكثر من عشرين ألف شخص. وكما حذّرَ الرئيس الأميركي جو بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأسبوع الفائت، فإنَّ إسرائيل على وشك فقدان الدعم العالمي.
لهذا السبب أدلى أوستن بتعليقه حول مخاطرة إسرائيل بـ”هزيمةٍ استراتيجية”. ورُغمَ أن الغربَ سياسيًا ينظرُ إلى الحكومة الإسرائيلية على أنها “تفعل شيئًا” لحماية مواطنيها، فإنَّ الطريقةَ التي تفعل بها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ذلك الشيء قد تؤدي في المدى الطويل إلى تقويضِ أمن إسرائيل الأوسع. وعلى نحوٍ مُماثل للهجوم المُضاد الذي شنّته أوكرانيا، فرُغمَ أنه من المفهوم لماذا أرادت إسرائيل توجيه ضربة ل”حماس”، فإن جهودَها العسكرية قد تأتي بنتائج عكسية في نهاية المطاف.
في كثيرٍ من النواحي، تُقَدّمُ كلٌّ من أوكرانيا وإسرائيل أمثلة جوهرية لجيشٍ يربحُ المعركة، لكنه يخسر الحرب. يتطلّبُ النصرُ في الحرب تنسيقَ البراعةِ العسكرية والإمداداتِ المادية والمهارةِ الديبلوماسية والإرادة السياسية. ولكنه يتطلّبُ أيضًا تعبئةَ هذه المُكوّنات في السعي إلى تحقيقِ هدفٍ مُحَدَّدٍ جيدًا وقابلٍ للتحقيق. بعبارةٍ أخرى، يتعلق الأمر بالمُزامَنة التكتيكية والاستراتيجية. وبالنسبة لكلٍّ من أوكرانيا وإسرائيل، فإنَّ هذه العوامل ليست مُتزامِنة لأسبابٍ مختلفة، ولهذا السبب فإنَّ كلًّا منهما مُعرَّضٌ لخطرِ هزيمةٍ استراتيجية.