بعدَ أربعِ سنواتٍ على تَركِهِ مَنصِبِهِ، أصبح دونالد ترامب الآن رئيسًا مُنتَخَبًا للولايات المتحدة مرةً أخرى. كانت نتيجةُ الانتخاباتِ مُفاجِئة، إن لم تكُن صادِمة. توقّعت غالبيةُ استطلاعاتِ الرأي نتيجةً مُتقارِبة، مع احتمالِ فوز ترامب أو منافسته نائبة الرئيس كامالا هاريس، بما يُعادِلُ رَميَ عُملةٍ مَعدَنية. وتوقّعَ آخرون، بمَن فيهم أنا، فَوزَ هاريس بفارقٍ مُقنعٍ. كان أساسُ هذه التوقُّعات أنَّ نسبةَ المشاركة ستكون عالية وستَصُبُّ في صالحِ الحزب الديموقراطي. كانت نسبة المشاركة عالية، وإن كانت أقل من العام 2020، ولم تكن النتيجة مُتقارِبة كما كانَ مُتَوَقَّعًا. النتيجةُ بدلًا من ذلك كانت في صالحِ الحزب الجمهوري وترامب.
ينضمُّ ترامب الآن إلى غروفر كليفلاند (الرئيس الثاني والعشرون والرابع والعشرون للولايات المتحدة) باعتباره الرئيس الأميركي الوحيد الذي فاز بفترَتَين غير مُتتاليتَين في منصبه. وبذلك، حصل ترامب على غالبية أصوات المجمع الانتخابي، ولكن أيضًا، على عكس العام 2016، غالبية الأصوات الشعبية. لقد كسرَ هذا الفوزُ سلسلةً من الأداء الانتخابي السيّئ لترامب نفسه منذ فوزه بالكاد بالرئاسة في العام 2016: في جميع الانتخابات اللاحقة التي لعب فيها دورًا رئيسًا، سواءَ من خلالِ تأييدِ المُرَشّحين لمَجلسَي النواب والشيوخ أو من خلالِ تَرشيحِ نفسه، كان أداءُ الحزب الجمهوري ضعيفًا.
لقد بدا الأمر حقًا أنَّ ترامب كان عبئًا على حزبه وأنَّ هذا سيستمرُّ في حملته الرئاسية لعام 2024. لكن هذا لم يَحدُث على الإطلاق. في حين أنَّ الإقبالَ المُرتَفِع كان يُعتَبَرُ تقليديًّا لصالح الديموقراطيين، فقد تَغيّرَ هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة، وكانت انتخابات يوم الثلاثاء مثالًا رئيسًا. اكتسبَ ترامب الدَعمَ في المناطق الريفية، كما كان مُتَوَقعًا، ولكن أيضًا في المناطق الحضرية، وهو ما لم يكن مُتَوَقَّعًا. على القائمة نفسها، فازَ الجمهوريون بالسيطرة على مجلس الشيوخ ويبدو أنهم على الطريق للاحتفاظ بالسيطرة على مجلس النواب. بعبارةٍ أُخرى، كان فوزًا واضحًا وكاسِحًا لترامب والحزب الجمهوري.
إنَّ تنوُّعَ الناخبين، من حيث القضايا التي يعتبرونها أولوية وحتى مدى إعجاب الأفراد الذين صوّتوا لصالح ترامب بشخصية ترامب نفسه، إلى جانبِ الطبيعة المُقنِعة والكاسحة لانتصاره، يجعلُ من الصعب إرجاع النتيجة لسببٍ واحد أو حتى حفنةٍ من الأسباب. من الجدير بالذكر أنه في خطاب النصر الذي ألقاه في وقت مبكر من صباح الأربعاء، حدّدَ ترامب الاضطرابات العالمية والعدد القياسي للحروب التي تتكشّفُ في العالم كسببٍ رئيس لتصويت الناس لصالحه. لكن من غير الواضح ما إذا كان هذا هو ما كانَ يَدورُ حقًّا في أذهان الناخبين، نظرًا لأنَّ السياسة الخارجية نادرًا ما تكون عاملًا في اختيارِ الناخبين.
قد لا يُريدُ بعضُ ناخبيه أن “يبني جدارًا”، لكنهم يريدون رؤيةَ أسعارِ بقالةٍ أقل. قد لا يكون آخرون يهتمُّون بشخصيته أو حتى بسياساته، لكنّهم غاضبون من الرئيس جو بايدن -وبالتبعية هاريس- لعدمِ اتخاذِ موقفٍ أكثر صرامةً بشأن سلوك إسرائيل في حربها في غزة. ربما كان البعضُ قلقًا بشأنِ تصرّفات ترامب في 6 كانون الثاني (يناير) 2021، لكنهم رَؤوا فيه أيضًا الخيارَ الأفضل لتحريك الاقتصاد الأميركي إلى الأمام. وليس من المستحيل استبعاد ديناميكيات النوع الاجتماعي في السباق ضد هاريس واحتمال عدم استعداد الولايات المتحدة ببساطة لانتخاب امرأة كرئيسة للجمهورية.
في نهايةِ المطاف، قد يتلخّصُ التفسيرُ الأساسي لانتصار ترامب في عاملٍ مهمٍّ كان أيضًا سببًا رئيسًا، وهو أنَّ هاريس حلّت محلَّ بايدن كمرشّحة للحزب الديموقراطي: الرئيس الحالي غير شعبي، وقد أثّرت شعبيته المُنخَفِضة على الأداء الانتخابي لحزبه.
في حين يواصلُ كلا الحزبَين استيعابَ الدروسِ المُستفادة من الانتخابات نفسها، يتحوّلُ الاهتمامُ بشكلٍ طبيعي إلى تداعياتها. وهي تداعياتٌ غير مؤكّدة، وخصوصًا بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية. الواقع أنَّ الطبيعةَ غير المُتَوَقَّعة لمواقف ترامب السياسية خلال ولايته الأولى كرئيس تُشَكِّلُ سببًا رئيسًا وراء قلق الناس بشأن إعادةِ انتخابه. من الواضح أنَّ ترامب يًدركُ القوة التي تأتي مع كونه رئيسًا وكيفَ تَسمَحُ له بتشكيلِ السياسة الدولية. وقد أوضحت المحكمة العليا الأميركية أخيرًا سلطة الرئيس التقديرية في مُمارسة هذه السلطة، بطُرُقٍ يبدو أنها وسّعتها إلى حدٍّ كبير.
لكن كيف سيُمارسُ ترامب هذه السلطة خلال فترة ولايته الثانية؟ هل سيَفرُضُ تدابيرَ حمائية تؤدّي إلى اندلاعِ حربٍ تجاريةٍ عالمية؟ هل سيتسامَحُ مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ويُعزّز دوره أم يدفع الولايات المتحدة فعليًا إلى الانسحاب منه؟ هل سيتعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويقطع الدعم العسكري عن أوكرانيا أو يُثبت قوته بالوقوف في وجه بوتين بطريقة لم يجرؤ بايدن ــحسب رواية ترامب ــ على القيام بها؟ وهل سيحاول إقناعَ زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون بالتخلّي عن أسلحته النووية، وإقناع الرئيس الصيني شي جين بينغ بالتخلّي عن طموحات بكين في الاستيلاء على تايوان، أم أنه سيفقد الاهتمام بكلا المسألتين؟ كلُّ هذا الغموض يُقلقُ العديد من القادة والمراقبين للشؤون العالمية في مختلف أنحاء العالم.
لا شكَّ أنَّ الكثيرين منهم لا ينتظرون معرفة ذلك. يستغلُّ البعضُ مَيلَ الرئيس المُنتَخَب إلى الاستسلام للمديح والتملُّق، حيث كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أول زعيمٍ عالمي يُهنّئ ترامب علنًا على فوزه. ويدعو آخرون حُلفاءَ الولايات المتحدة إلى اتّخاذِ تدابير لإعدادِ أنفسهم والاستعداد إذا اختارت أميركا تحت قيادة ترامب الانعزال والتنحّي جانبًا. وكما كتبَ أولريك فرانك، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بعد وقتٍ قصيرٍ على ظهور نتيجة الانتخابات، “لذا فإنَّ قلقي على مدى الأسابيع الماضية كان من أنَّ فوزَ هاريس لن يكونَ كافيًا لصدمةِ الأوروبيين ودفعهم إلى التحرّك. وأظنُّ أنَّ هذا الأمر لن يكون مشكلة الآن”. وبالمثل، قال روبرت كيلي، وهو محلّل سياسي مُقيم في كوريا الجنوبية: “استيقظوا جميعًا. ابدَؤوا التفكيرَ في [قاعدتكم الصناعية الدفاعية] الخاصة، وبحرّيةٍ أكبر، ودفاعٍ صاروخي محلّي الصنع”.
هناكَ حجّةٌ يُمكِنُ تقديمها مفادها أنَّ مثلَ هذه المخاوف هي في غيرِ محلّها. قد تكون فترة ولاية ترامب الثانية أشبه بفترة ولايته الأولى، والتي لم تنحرف أيضًا بشكلٍ كبيرٍ عن السياسات التي انتهجتها إدارة بايدن في نهاية المطاف. ولكن ما يُثيرُ القلق هو أنَّ فترةَ ولايةٍ ثانية، حيثُ لن يواجه بعدها ترامب إعادة انتخابه، ستسمح له بإيلاءِ قدرٍ أقل من الاهتمام لأعضاء الحزب الجمهوري الأكثر شعبية ومؤسّسة السياسة الخارجية. لن يكتفي ترامب بإجراءِ تعديلاتٍ طفيفةٍ على هامشِ السياسة الخارجية الأميركية. بل سيعمل بدلًا من ذلك على تغييرِ اتجاه السياسة الخارجية الأميركية بشكلٍ جذري من خلالِ الانفصالِ عن كثيرٍ من دولِ العالم.
ولعلَّ الدرسَ الأوّل من هذه الانتخابات هو أنها تُقدّمُ الآن اختبارًا لسؤالٍ أساسي حول السياسة الخارجية الأميركية: هل السياسات التي تنتهجها واشنطن على المسرح العالمي هي نتاجٌ لمَن هو في البيت الأبيض أم لموقف البلاد المُهَيمِن في النظام الدولي؟ إذا اختارَ ترامب أن يأخُذَ السياسة الخارجية الأميركية في اتجاهٍ مختلفٍ تمامًا، فإنَّ الإجابة ستكون الأولى. ولكن إذا نظرنا إلى الوراء بعد أربع سنوات من الآن ورأينا المزيد من الاستمرارية أكثر من التغيير، فإنَّ هذا يشير إلى أنَّ الإجابة هي الثانية. ولدينا الآن أربعُ سنواتٍ لمعرفة ذلك.