للوهلة الأولى، يبدو أن الإصرارَ على قوميّة اللَقاحِ ورحيل الولايات المتحدة والحلف الأطلسي الفوضوي عن أفغانستان غير مُرتَبِطَين تمامًا. ومع ذلك، فإن كلاهما يكشف التكاليف الأخلاقية لعالمٍ تُهيمِنُ عليه دولٌ ذات سيادة تضع باستمرار المصلحة الوطنية الضيّقة فوق الضرورة الأخلاقية للتخفيف من معاناة الغَير.
هذا بالكاد يكون خبرًا عاجلًا أو مهمًّا. إن السؤال عن الكيفية التي يجب أن تُراعي بها الحكومات واجباتها تجاه مواطنيها مع التزاماتها تجاه أولئك الموجودين في البلدان الأخرى هو مأزقٌ أخلاقي مُتأصّلٌ ومُتكَرّرٌ في العلاقات الدولية. إنه في قلب المناقشات حول التدخّل الإنساني والمساعدات الخارجية وسياسة حقوق الإنسان والفجوة الرقمية العالمية وغيرها الكثير. وقد أصبح أكثر حدّة الآن، إذ أن العالم صار أكثر تكاملًا سياسيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا وبيئيًا ووبائيًا. مع نمو هذا الترابط، نتحدث بشكلٍ مُتزايد بلغة الكوسموبوليتانية. ولكن عندما تنقشع الرؤية، فإن العالم، وخصوصًا الغرب، يظل قوميًّا في القلب.
لنأخذ مثلًا الجدل الدائر حول لقاحات كوفيد-19. منذ بداية الوباء، أدلت الحكومات الغربية الثرية بكلامٍ تكريمي للأمن الصحي العالمي، حتى عندما تصرّفت بعدوانية لإبقاء إمدادات اللقاحات والعلاجات لسكانها. في نيسان /إبريل 2020، أطلقت مجموعة الدول العشرين مبادرة “مُسرّع الوصول إلى أدوات كوفيد-19” (Access to COVID Tools Accelerator) أو (ACT)، في محاولةٍ لتوسيعِ التوافر العالمي. الركيزة الأساسية لهذه المبادرة هو مرفق “كوفاكس” (COVAX)، الذي يرمي إلى تسريع تطوير وتصنيع لقاحات كوفيد-19، وكذلك ضمان إمكانية الحصول المُنصِفة والمُتكافئة على اللقاحات في جميع أنحاء العالم.
على الرغم من الآمال الأوّلية، كانت استجابة حكومات العالم الغنية مُخَيِّبة للآمال. لقد قدمت لـ”كوفاكس” لقاحات وعلاجات أقل بكثير مما كان مُتَوَقعًا أو مطلوبًا، وفي حالة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، غالبًا ما اختارت تقديم مثل هذه الإمدادات المُنقذة للحياة على المستوى الثنائي لجني الفوائد الديبلوماسية. أدّى البُخلُ الغربي إلى تفاقم عدم المساواة في وصول اللقاحات إلى العالم. إعتبارًا من 15 تموز (يوليو) الفائت، تم تلقيح نحو 1 % فقط من سكان إفريقيا البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة بشكل كامل، في حين أن مخزونات اللقاحات الزائدة في البلدان الغنية تقترب من 1.9 مليار جرعة. لقد ازداد الإحباط لدى البلدان الفقيرة فيما بدأ العديد من حكومات العالم الثرية اعتماد جرعات مُعَزَّزة ثالثة للمواطنين المُلَقّحين كلّيًا.
في كانون الثاني /يناير الفائت، حذّر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، من أن العالم يُغازل “فشلًا أخلاقيًا كارثيًا”. بحلول منتصف الصيف، عندما تم إعطاء أكثر من 80 % من الجرعات في جميع أنحاء العالم في البلدان ذات الدخل المرتفع والبلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، زاد من حدّة نقده حيث قال: “يؤدي الفشل العالمي في مشاركة اللقاحات والاختبارات والعلاجات … إلى تأجيجِ جائحةٍ ذي مسارين: فالأثرياء يفتحون أسواقهم، في حين ينغلق الفقراء على أنفسهم”. في وقت لاحق، هاجم الدول الغنية وانتقدها بشكل حاد لقرارها إعطاء جرعات مُعزّزة ثالثة على حساب فقراء الكوكب، قائلًا: “لا يُمكننا قبول البلدان التي استخدمت أصلًا معظم الإمدادات العالمية من اللقاحات باستخدام المزيد منها، في حين أن الأشخاص الأكثر ضعفًا في العالم ما زالوا غير ملقّحين”. ودعت منظمة الصحة العالمية إلى وقف الجرعات المُعَزَزة، ووصفتها بأنها ليست فقط غير أخلاقية ولكن أيضًا قصيرة النظر، لأن السماح لكوفيد-19 بالانتشار بحرية في العالم الفقير والنامي يمكن أن يمنح الفيروس المزيد من الفُرَص للتطوّر إلى أشكالٍ جديدة قد تكون أكثر فتكًا.
ويسود شعورٌ مُماثل بالخزي للانسحاب الأميركي والغربي السريع والفوضوي للقوات من أفغانستان بعد مغامرة عقيمة استمرت عقدين في بناء الدولة. يترك هذا الرحيل المُفاجئ المواطنين الأفغان أمام مُتعَصّبين أصوليين ملتزمين بإعادةِ فرضِ حُكمٍ ثيوقراطي يتعارض مع حقوق الإنسان العالمية. كما أنه يترك مئات الآلاف من الشركاء السابقين عرضةً لخطر انتقام طالبان.
كشفت الخاتمة القبيحة في أفغانستان عن خواء خطاب بناء الدولة المثالي الذي صاحب التدخّل الغربي الذي قادته الولايات المتحدة بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، عندما كانت إدارة جورج دبليو بوش تحلم بتحويل أفغانستان إلى ديموقراطية حديثة وفعالة. لقد ارتُكِبَت أخطاء أميركية عديدة في عهود الرؤساء الجمهوريين والديموقراطيين منذ ذلك الحين. خلاصة القول هي أن الولايات المتحدة وعدت بأشياءٍ لا يمكن أن تُقدّمها، بغض النظر عن حجم الموارد المتاحة، نظرًا إلى الفساد المتفشي في الدولة الأفغانية، والازدواجية المستمرة في باكستان، وجهل أميركا بالمجتمع الأفغاني وسياسات الهوية، والتنازلات الأخلاقية مع أمراء الحرب الأفغان، والأهم من ذلك، إيمان الأميركيين غير المُبرَّر بقدرتهم على الهندسة الاجتماعية.
يقول ستيوارت باتريك، الذي عمل في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية بين 2003 و2004: “بصفتي مسؤولًا متوسط المستوى في وزارة الخارجية، جلستُ خلال اجتماعات لا حصر لها مع مجموعة العمليات الأفغانية المشتركة بين الوكالات الأميركية، حيث كان المسؤولون الأميركيون المخلصون يُدقّقون في “مقاييس” النجاح المزعومة، مثل عدد العيادات التي بنيناها أو رجال الشرطة التي تم تدريبهم، مع القليل من المحادثات الثمينة والقيّمة حول ما إذا كانت هذه العيادات مُدمَجة في نظام صحّةٍ عام فعّال أو ما إذا كانت تلك الشرطة لديها أي احترام لسيادة القانون. قام المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان بتوثيق الهدر الهائل للموارد الذي نتج عن نهج أميركا السطحي والمتغطرس في بناء المؤسسات”.
علاوة على ذلك، إذا نظر المرء في العمق، كان من الواضح أن “الحرب العالمية على الإرهاب” التي حرّكت المشروع بأكمله كانت قائمة على منطقٍ قومي وليس على منطقٍ عالمي. لنأخذ على سبيل المثال مدى الاختلاف في تعريف الأميركيين والحكومة الأفغانية والأفغان العاديين “للأمن” في ذلك البلد. بالنسبة إلى واشنطن، كان ذلك يعني القضاء على تنظيم “القاعدة” وهروب “طالبان”. بالنسبة إلى الرئيسين الأفغانيين السابقين حامد كرزاي وأشرف غاني، كان ذلك يعني أن كابول يمكن أن توسّع سلطتها في جميع أنحاء البلاد، وتفرض إرادتها على أمراء الحرب السابقين الذين يشغلون مناصب حكام المقاطعات. في غضون ذلك، كان المواطنون الأفغان يحلمون بمستقبلٍ آمن لا يكونون فيه دائمًا تحت رحمة مسؤولين فاسدين، ويتم اغتصابهم من قبل قطاع الطرق الذين يرتدون الزيّ الرسمي، وغالبًا ما تُوظّفهم الحكومة نفسها.
لاحظ المستشار الألماني أوتو فون بسمارك في أواخر القرن التاسع عشر أن منطقة البلقان بأكملها لا تستحق حياة رجل ألماني واحد. بعد عقدين من الحرب في أفغانستان، أجرى جو بايدن حسابات مماثلة على ما يبدو. ومع ذلك، فإن هذا لا يترك الولايات المتحدة خارج المسؤولية الأخلاقية. لقد كتب جدعون راشمان في صحيفة فايننشال تايمز أخيرًا: “صحيح أن واجب بايدن الأول هو تجاه الشعب الأميركي. لكن هذا لا يعني أنه بعد 20 عامًا من الوجود، ليس للولايات المتحدة التزام أخلاقي مستمر تجاه شعب أفغانستان”. تشمل هذه المسؤوليات العمل الجاد لإخراج الشركاء الأفغان الذين تتعرّض حياتهم للخطر من البلاد، والتعاون مع الدول المجاورة للضغط على طالبان لدعم الحقوق الأساسية، والعمل مع الأمم المتحدة لضمان حصول أفغانستان على الإغاثة الإنسانية التي يحتاج إليها شعبها بشكل عاجل.
إن نهاية اللعبة المُخزية في أفغانستان، كما الإصرار على التطعيم القومي، يكشفان حدود تمسّك أميركا والغرب بالمبادئ العالمية ونفاقهما في التظاهر بخلاف ذلك.