البجعات البيضاء أم السوداء.. مؤشرات وتوصيفات للأزمات العالمية الأخيرة
وصفها البعض بـ أسراب البجعات السوداء في إشارة إلى الأزمات والمخاطر التي باتت تهدد العالم خلال الآونة الأخيرة، كالأزمات المالية والاقتصادية والخصومات الجيوسياسية وتغير المناخ وأخيرا وباء الكورونا. وهناك من يراها بجعات بيضاء تحلق في الأفق، وذلك لأن السوداء تشير إلى الحوادث الغير متوقعة والتي تعصف بالعالم دون سابق إنذار كالزلازل والأعاصير، أما البيضاء فهي واضحة للعيان حيث تصف الأزمات المالية والاقتصادية والتي لا يمكن القول بأنها مباغتة لأنها تعد بمثابة نتيجة حتمية لأوجه الضعف الاقتصادية والمالية والأخطاء السياسية المتراكمة.
وسواء كانت الأزمات سوداء غير متوقعة أو بيضاء يمكن التنبؤ بها فهي في النهاية قد وقعت بالفعل وترتب عليها الكثير من التداعيات الخطيرة التي لازال العالم منغمس فيها حتى تلك اللحظة. بل وتتزايد بمرور الوقت.
وإلى جانب المخاطر الاقتصادية والسياسية المألوفة التي تثير قلق معظم المحللين الماليين ، لازال هناك عدد من البجعات البيضاء التي تلوح في الأفق هذا العام. والتي يمكن لأي منها أن يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية ومالية وسياسية وجيوسياسية شديدة غير مسبوقة منذ الأزمة العالمية التي وقعت في عام 2008
ولا يخفى على أحد ما تخوضه الولايات المتحدة من تحديات وحروب استراتيجية ضمنية ضد كل من مراكز القوى الأربع وهي الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، والتي أعلنت نواياها إزاء تغيير موازين القوى العالمية وإنهاء أسطورة القطب الأوحد، ولعل عام 2020 بما يشهده من أحداث الانتخابات الأمريكية والتحول المحتمل في سياسة واشنطن الخارجية قد يصب في مصلحة تلك القوى المتنافسة عالميا.
لقد ارتكزت السياسة الأمريكية في عهد ترامب إلى تعمد السيطرة على أو حتى إحداث تغييرات جذرية في كل من البلدان الأربع مما دفع الأخيرة بطبيعة الحال إلى استخدام كافة الوسائل من أجل تقويض القوة العسكرية والقوة الناعمة للولايات المتحدة. ولعل ما تشهده الساحة الانتخابية في واشنطن من حالة تحزب وفوضوية واتهامات متبادلة بـ “تزوير الانتخابات” قد يخدم مصالح وأهداف ألدول الأربعة الأخرى لأن انهيار النظام السياسي الأمريكي في الداخل من شأنه التغيير الشامل للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن المؤكد أن الدول المنافسة للولايات المتحدة لديها مصلحة مشتركة في الإطاحة بالرئيس ترامب، وبخاصة في ظل التهديدات الخطيرة التي تشكلها إدراته على الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي كانت دافعا قويا للنظام الإيراني للوقوف في وجه واشنطن وتصعيد حدة الصراع في المنطقة. صحيح أن اغتيال قاسم سليماني كان بمثابة ضربة في مقتل موجهة لطهران، ولكنها جاءت محفوفة بالمخاطر كليا، فالحرب الضمنية الحالية بين الجبهتين الإيرانية والأمريكية يمكن النظر إليها بوصفها السكون الذي يسبق العاصفة.
وبالحديث عن العلاقات بين الصين وأمريكا، فإنه يمكن القول بأن الحرب الباردة المندلعة بين البلدين على كافة الأصعدة التكنولوجية والاقتصادية قد وصلت إلى ذروتها، ولعل انتشار فيروس الكورونا هو ما سبب حالة من الجمود المؤقت حول تلك الملفات الشائكة بين البلدين. والنتيجة المباشرة كانت تعاظم الاتجاهات الأميريكية المؤيدة لضرورة فرض النفوذ الأمريكي على الصين وبخاصة في ظل الضربة التي سددها الوباء القاتل للاقتصاد الصيني وما ترتب على ذلك من تعطل ملحوظ في حركة سلاسل التوريد العالمية بما في ذلك السلع الخاصة بالصناعات الدوائية والتي تعد الصين موردا أساسيا لها وما إلى ذلك من آثار على المدى الطويل.
على الرغم من أن الحرب الباردة الصينية الأمريكية تعد بمثابة صراع غير مباشر بين الجبهتين المتنافستين إلا أن العام الحالي على الأرجح قد يشهد المزيد من التصعيد. ويرى بعض القادة في الصين ، أنه لا يمكن أن يكون من قبيل الصدفة أن يشهد بلدهم في وقت واحد تفشيا هائلا لأنفلونزا الخنازير ، وأنفلونزا الطيور ، وتفشي فيروس الكورونا . إلى جانب الاضطرابات السياسية في هونغ كونغ ، وإعادة انتخاب رئيسة تايوان المؤيدة للاستقلال عن الصين ، وتنامي العمليات البحرية الأمريكية في شرق وجنوب بحر الصين. وسواء أكانت الصين على يقين تام بأنها تتحمل جزء من المسئولية عما يجري حولها من أحداث أم لا، إلا أنها تؤيد وبشدة، نظرية المؤامرة.
قد تكون المواجهات العسكرية ليست خيارًا مطروحا في هذه المرحلة، ولكن من المحتمل أن يتمثل الرد الصيني في صورة حرب إلكترونية محددة الأهداف. حيث يمكن للقراصنة من داخل الصين وخارجها في الدول الأخرى المعادية للقوة الامريكية (روسيا وكوريا الشمالية وإيران) التدخل في الانتخابات الأمريكية عن طريق إغراق الأمريكيين بمعلومات خاطئة ومزيفة عبر الفضاء الالكتروني. مع استقطاب الناخبين في الولايات المتحدة بالفعل . وفي تلك الحالة، ليس من الصعب تخيل أنصار مسلحين يخرجون إلى الشوارع للطعن في نتائج الانتخابات، مما يؤدي إلى نشر الفوضى وأعمال العنف في الشوارع الأمريكية.
وليس بعيدا أيضا أن تستهدف الهجمات الالكترونية الأنظمة المالية الامريكية والغربية بوجه عام، بما في ذلك منصة جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك “سويفت”. وبالفعل ، حذر رئيس البنك المركزي الأوروبي ، كريستين لاجارد ، من أن الهجوم الإلكتروني على الأسواق المالية الأوروبية قد يكلف 645 مليار دولار (496.2 مليار جنيه إسترليني). وقد أعرب مسؤولون أمنيون عن مخاوف مماثلة بشأن الولايات المتحدة ، حيث أن هناك قاعدة عريضة من البنية التحتية للاتصالات لازالت عرضة للخطر.
وإذا ما تصاعدت حدة المواجهات بين الصين وأمريكيا لتتحول من حرب باردة إلى صراع عسكري فعلي، فإن النظام الصيني الذي تضرر بشدة من انتشار فيروس كورونا قد يضطر إلى الاستعانة بكبش فداء خارجي، وهنا قد تضع الصين نصب أعينها بعض الأهداف والمواقع الأخرى مثل فيتنام أو تايوان أو هونغ كونغ وبالطبع ستكون القواعد الأمريكية في بحر الصين الجنوبي مسرحا للأحداث. وقد تستخدم سندات الخزانة الأمريكية كسلاح في تلك المعركة أيضا وذلك وسط مخاوف صينية باحتمال قيام واشنطن بتجميد تلك الأصول من خلال فرض العقوبات الاقتصادية نظرًا لأن الأصول الأمريكية تشكل حصة كبيرة من احتياطيات الصين الأجنبية.
ولعل هذا ما يفسر سر ارتفاع أسعار الذهب بنسبة 30% خلال العام الماضي، نظرا لتهافت كل من روسيا والصين على تخزينه سرا وعلانية لأن الأصول من الذهب أقل عرضة لبطش العقوبات الاقتصادية الأمريكية، كما أنها تجعل عوائد السندات غير متضررة في حال إغراق السندات الأميريكية، وحتى الآن لازالت كل من الصين وروسيا يتجهون نحو استراتيجية الذهب ببطء وحذر، ولكن في حال تسارعت وتيرة سياسة تنويع الأصول هذه، فإنه من المتوقع أن يحدث ذلك صدمة في سوق سندات الخزانة الاميريكية مما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي حاد في الولايات المتحدة الامريكية.
وكرد فعل متوقع، فإن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي إزاي ما تتعرض له من هجمات الكترونية من أعدائها الأربع، ولعل ذلك ما يدفعها حاليا نحو تكثيف العقوبات الاقتصادية وغيرها من أشكال الحروب التجارية والمالية. ناهيك عن قدراتها المتطورة في إدارة الحرب الالكترونية، مما ينذر باندلاع الحرب العالمية الالكرتونية الأولى ووقع العديد من الاضطرابات السياسية والاقتصادية العالمية.
وإذا ما نظرنا إلى أبعد من ذلك، سنجد تهديدا آخر لا يقل خطورة عن التصعيد الجيوسياسي في 2020 وهو تغير المناخ والذي قد يؤدي إلى عواقب مناخية واقتصادية مكلفة والتي تتجلى ما بين الحين والآخر في التوترات المناخية التي تحدث في شتى أنحاء العالم.
ومن القضايا البيئية الأخرى التي تهدد الكرة الأرضية هي اختلال القطبية المغناطيسية وتسارع حركة التيارات في المحيطات وانهيار الجبال الجليدية في أنتاركاتيكا. ناهيك عن تزايد النشاط البركاني في أعماق البحار مما يشكل خطورة كبرى على مستقبل الثروة السمكية في العالم والتي تعد غذاء للملايين من سكان كوكب الأرض.
ومنذ مطلع العام الجاري 2020 تتوالى الأزمات أو البجعات البيضاء في التدفق حول العالم، فالتصعيد بين واشنطن وطهران لازال قائما ومن المتوقع أن يصل إلى مراحل اكثر خطورة، والصين تعاني من تفشي الكورونا والذي من الممكن أن يتحول بين عشية وضحاها إلى وباء عالمي، والحرب الالكترونية مستمرة بين القوى العالمية الكبرى، إلى جانب حالة التوتر التي تخيم على المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة، والآثار المباشرة والغير المباشرة لتغير المناخ، والقائمة قد تطول.
ولكن المثير للسخرية أنه في ظل وقوع تلك الأحداث حيث بات العالم محفوفا بالمخاطر، لازال هناك حفنة من المتفائلين ممن يتطلعون نحو عام وردي هادئ ينتظر الاقتصادات الكبرى والأسواق العالمية.
رابط المقال الأصلي اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا